عمال مناجم الفحم يؤيدون المرشح الجمهوري!

تنقل مصادر الأخبار والمعلومات صوراً عن انتخابات الرئاسة الأمريكية يصعب كثيراً فهمها حسب معايير المنطق، ويتساءل الباحث توماس فرانك: كيف يصوّت الإنسان لشخص استعبده، أي للمرشح الجمهوري، أي ضدّ مصالحه، كما سيفعل عمال مناجم الفحم في فرجينيا الغربية؟! أما الباحث الأمريكي الآخر سيرج حليمي فيحاول تفسير الظاهرة العجيبة بالقول إن شعبية اليمين الأمريكي لم تعد تنهل - كما في الماضي - فقط من نبع العنصرية ومن بغض (الآخر) ومن كره الأجنبي، بل صارت تنهل من حالة حقد على الازدراء الذي تظهره الطبقات العليا، وأنه حقد يستهدف النخبة الثقافية بشكل رئيسي مستبعداً نخبة المال، حيث الأمور بلغت هذا الحد نتيجة المواقف المدعية لأصحاب المعرفة، ونتيجة تعاليهم الذي أصبح لا يطاق أكثر بكثير من بطر ووقاحة أصحاب الثروات!

مسح ذاكرة المجتمعات الأمريكية!

إن فرجينيا الغربية هي معقل للحزب الديمقراطي، لكنها كما يبدو لم تعد كذلك اليوم، وقد زارها المرشح الجمهوري ست مرات خلال الأشهر الماضية، وكذلك فعل المرشح الديمقراطي، حيث تتمركز فيها مناجم الفحم والتجمع الضخم لعمال هذه المناجم بتاريخهم الاجتماعي الغني بالكفاح الملحمي، فقد شهدت تلك المنطقة في العشرين عاماً الأولى من القرن الماضي أحداثاً لا مثيل لفظاعتها، حين كان عمال المناجم مجرّد عبيد لأرباب هذه الصناعة. وبسبب مطالبتهم بالحدّ الأدنى من شروط الحياة قتل منهم، عام 1907 فقط، 3242 عاملاً. أما اليوم فإن هؤلاء العمال يقفون مع أرباب عملهم إلى جانب المرشح الجمهوري المتطرف في يمينيته! ويقول سيرج حليمي إن شعبية الجمهوريين هذه مزيفة، تستفيد من إمّحاء الذاكرة الاجتماعية، وهو ينقل عن أحد قادة نقابة عمال الفحم قوله: (لنا تاريخ اجتماعي رائع حاولنا جعله مادة تعليم في المدارس، لكن ذلك صعب جداً، لأن المدارس تفضّل كتب الترويج للماركات)!

عناصر الخطاب الانتخابي اليوم؟

بعد إلغاء الذاكرة الاجتماعية، وإقصاء التاريخ الاجتماعي، صار بإمكان المرشحين لدخول البيت الأبيض خوض معركة الانتخابات في فرجينيا الغربية استناداً إلى عناصر أربعة هي: الدين، الوطن، الفحم، البنادق! لقد أصبح الأساس هو الورع الديني للرئيس بوش، وانحيازه لأمريكا التي يباركها الله وحدها ضدّ العالم أجمع، ووقوفه ضدّ منظمات حماية البيئة التي يمقتها أرباب العمل والعمال في مناجم الفحم ويعدّونها خطراً على مصالحهم، وأخيراً تشجيعه لحمل البنادق على أوسع نطاق، والانطلاق لصيد الغزلان في المواسم، إذ يصطاد أهالي الولاية الآلاف منها مع الساعات الأولى من أول تشرين الثاني، ويقدم الرئيس بوش نفسه باعتباره صياداً بالدرجة الأولى!

لقد وعد الرئيس بوش تكراراً بلجم أنصار البيئة، وبتطوير مناجم الفحم وحماية إنتاجها من المزاحمة الأجنبية، وهو وعد عمال الحديد أيضاً، عبر تصريحات غامضة، أنه سوف يحميهم من مطالبات منظمة التجارة العالمية برفع الحماية عن صناعة الحديد الأمريكية! إن الرئيس بوش يراهن على الغرائز، ويوحي للمزاج الشعبي العام، الذي فقد ذاكرته الاجتماعية، أن ما يفعله في العراق هو مثال على سياسته الخارجية، الأحادية الجانب، التي لا تقيم وزناً سوى لمصالح أمريكا، بل هو يشير إلى قدرته على جعل واشنطن تحدّد وحدها قوانين العالم استراتيجياً وتجارياً!

العالم يجتاز مرحلة انتقالية؟

غير أن أحوال عمال الفحم والحديد الأمريكيين، ومواقفهم المنحازة للمرشح المتطرف في يمينيته وصهيونيته، تعكس أوضاع العالم الذي يجتاز مرحلة انتقالية مضطربة وقاسية، فقد بلغ هذا العالم درجة الانقسام بحزم إلى أقلية ضئيلة وأكثرية ساحقة، والأقلية لم تعد تخفي نزعتها إلى السيطرة التامة والاستئثار المطلق، الأمر الذي لا يمكن أن يكون إلا مؤقتاً، وقد انحازت الطبقات الاجتماعية التقدمية في بلدان الأقلية العالمية، خاصة في الولايات المتحدة، إلى المحافظين المتوحشين بعد أن غدا التناقض الرئيسي أممياً بالدرجة الأولى، وبعد أن فقدت الطبقات العليا في بلدان الأكثرية العالمية امتيازاتها وغدت مثل شعوبها عرضة للنهب والاضطهاد!

إن تحوّل الطبقات الدنيا في بلدان الأقلية الاحتكارية إلى حليف لأرباب المال الحرام والأعمال غير المشروعة ليس ظاهرة جديدة كلياً، فقد استوقفت كارل ماركس منذ أواسط القرن التاسع عشر، وجعلته يعوّل على الحركة القومية الإيرلندية في تحرير الطبقة العاملة الإنكليزية، وليس العكس كما كان يعتقد! وقد كتب فريدريك إنجلس في عام 1858 أن لدى الإنكليز أرستقراطية عمالية إلى جانب الأرستقراطية البورجوازية، وقال إن هذا أمر منطقي في أمة تستثمر العالم كله! وفي عام 1882 كتب يقول: إن العمال الإنكليز يتمتعون مع المحافظين بوضع إنكلترا الاحتكاري إزاء المستعمرات وبوضعها الاحتكاري في السوق الدولية! وهكذا فإن ما يحدث اليوم، في العهد الأمريكي، ليس سوى بلوغ هذه الحالة مداها الذي لم يعد يطاق عالمياً ولم يعد قابلاً للاستمرار

 

Hosted by www.Geocities.ws

1