بدايات عصر المفوض السامي الأميركي!

بقلم: نصر شمالي

يحدّد المؤرخون الأميركيون بداية مرحلة الإمبريالية الأميركية بالعام 1898، فبينما كانت الولايات المتحدة، أواخر القرن التاسع عشر، بحاجة إلى سكان يعمرون مساحاتها الشاسعة، حيث سكانها الذين تضاعف عددهم خلال ثلاثين عاماً لم يتجاوز تعدادهم 75.9 مليون نسمة، فقد كان إنتاجها ورساميلها قد بلغا الأوج في الوقت نفسه، إذ قفزت الصادرات الأميركية حينئذ إلى مليار دولار من دون أن تتجاوز عشر الإنتاج، وصارت الولايات المتحدة منذ ذلك التاريخ تموّل اقتصادها ذاتياً، بل هي بدأت بتصدير رأس المال، وتنامت حاجتها الواقعية إلى تصدير الإنتاج بوتيرة عالية جداً، إضافة إلى تصدير الرساميل التي تزايدت أهميتها بسرعة هائلة!

جذور ومكونات الإمبريالية الأميركية

كانت الولايات المتحدة خاصة والقارة الأميركية، أو العالم الجديد، عموماً هي الاحتياطي الهائل للنظام الاحتكاري العالمي الذي انطلق أواخر القرن الخامس عشر، وكانت بريطانيا قد ظلت تعتقد حتى حقبة الحرب العالمية الأولى أنها باقية في موقع مركز قيادة النظام العالمي، غير أن التطورات كانت تشير بقوة وتؤدة نحو إحداث تغييرات عظمى في موقع القيادة الأول، فخلال عامي 1853 – 1854، وبناء على تعليمات الرئيس الأميركي فيلمور، فتح القومندان بيري مرافئ اليابان أمام البضائع الأميركية، وقبل بيري بوقت طويل كان الكثيرون من ضباط البحرية الأميركية يحلمون بالاستيلاء على جزر بعيدة، وفي منتصف القرن التاسع عشر كانت وزارة الخارجية الأميركية، ومن ورائها مجلس الشيوخ، ترعى مباشرة إنشاء مستعمرات استيطانية في فلسطين وغيرها، مسيحية تارة ويهودية تارة أخرى، وكانت مهمة الإشراف على زرع مثل هذه المستوطنات توكل إلى القناصل مثل القنصل الأميركي في العاصمة العثمانية!

في عام 1867 أنجز وزير الخارجية الأميركي صفقة شراء ألاسكا من قيصر روسيا بمبلغ 7200 مليون دولار وحاول أيضاًَ شراء الممتلكات الدانمركية في جزر الأنتيل! لقد كان ذلك الوزير المدعو ليان سيوارد، يدعو إلى شن الحرب ضدّ روسيا في منشوريا لتأمين هيمنة الولايات المتحدة على الشرق الأقصى! كذلك حاول الرئيس غرانت ضم الدومنيك إلى الولايات المتحدة! وكان المصدّرون يغذّون بقوة المشاريع الإمبريالية الطموحة الصاعدة. وفي عام 1886 نشر المبشر البروتستانتي سترونغ كتاباً بعنوان "بلادنا" أعيد طبعه عدة مرات، أعلن فيه أن الله اختار العنصر الأنكلوسكسوني لتحضير العالم!

التطاول على الإمبراطورية البريطانية!

كانت الإدارة الأميركية قد بدأت تتحدث إلى الإدارة البريطانية بلهجة خشنة. ففي عام 1895 اتهم الرئيس كليفلند لندن بخرق مبدأ مونرو في خلافها مع فنزويلا حول مسألة الحدود مع غويانا البريطانية. لقد أكّد الرئيس الأميركي أن الولايات المتحدة "هي الآن عملياً سيدة القارة"! وقرّر، نتيجة عدم اقتناعه بالرد البريطاني، إرسال لجنة تحقيق إلى المكان الذي حدث حوله الخلاف، مبيناً سلفاً، بدقة وجلاء، أنه ينبغي على الولايات المتحدة "بذل كل الوسائل المتوفرة لديها لمنع بريطانيا من التصرف بصورة تخالف النتائج التي تتوصل اللجنة إليها"! وفي تلك المناسبة كتب تيودور روزفلت إلى السناتور هنري كابوت لودج يقول: "شخصياً، إنني آمل أن ينفجر الصراع عما قريب، فقد أقنعتني صيحات الاحتجاج التي يطلقها أنصار السلام أن البلاد تحتاج إلى الحرب"! لقد كان روزفلت يشير بذلك إلى النقد العنيف الذي وجهته معظم الصحف الأميركية إلى أسلوب الرئيس كليفلند الجاف والمتصلب. وبعد ذلك بسنوات قليلة كان روزفلت يردّد: "إن قدرنا هو أمركة العالم. تكلموا بهدوء، واحملوا عصا غليظة، وعندئذ يمكن أن تتوغلوا بعيداً"!

أما السناتور هنري كابوت لودج، وهو ابن تاجر جنى ثروة طائلة من التجارة مع الصين (خاصة تجارة الأفيون) فقد كان مقتنعاً أن على الولايات المتحدة لعب دور أساسي على المسرح الدولي، على حساب البلدان الصغيرة التي قال عنها دون موارنة أنها "تنتمي إلى الماضي ولا مستقبل لها بتاتاً"! وأما السناتور البرت بيفريدج، ممثل انديانا في مجلس الشيوخ، فكان يدعو الولايات المتحدة إلى تأمين منافذ واسواق دولية، وإلى الاستيلاء على مستعمرات يصب فيها فائض الإنتاج الزراعي والصناعي الأميركي، وقد أعلن بيفريدج قناعاته عبر خطاب رسمي ورد فيه ما يلي: "إن الله لم يهيء خلال ألف عام الشعوب الإنكليزية كي تتأمل نفسها بكسل ودون طائل، فقد جعل الله منا أساتذة العالم كي نتمكن من إدارة الشعوب البربرية الهرمة. وبدون هذه القوة ستعم العالم مرة أخرى البربرية والظلام. لقد اختار الله الشعب الأميركي من دون سائر الأجناس كشعب مختار يقود العالم أخيراً نحو تجديد ذاته"!

ما معنى هذه التصريحات!

والحال أن ذلك الكلام الغريب، يلقى عبر خطابات رسمية في مجلس الشيوخ، لم يكن سوى محاولة لتجاهل الأوضاع الداخلية الفظيعة وتوجيه الأنظار والعواطف إلى أماكن أخرى في الخارج، فحينئذ، وعلى الرغم من بلوغ الإنتاج والرساميل الأوج، ورغم القفزات الهائلة التي حققتها حركة الصادرات الأميركية، التي لم تكن تتجاوز عشر الإنتاج، فإن تلك الميكانيكية الصماء التي تحكم النظام الأميركي، التي لا تعقل ولا ترحم، راحت تفرز وتفرّخ أزماتها الاجتماعية العويصة، فصار من الضروري "تصدير" الأزمات أيضاً إلى ما وراء البحار!

لقد أثارت الأزمة الاقتصادية، التي نشبت ما بين العامين 1893 – 1898، كثيراً من الفوضى والصدامات الدامية ومسيرات الجوع، وقد رأى بعضهم في ذلك إشارات إلى خطر الثورة الاجتماعية، حيث أدى تكاثر جيوش العاطلين عن العمل إلى خلق مناخ دائم من القلق والمرارة في المدن والأرياف. لقد شعر الفلاحون الأميركيون وأرباب العمل الصغار بالخطر الشديد أمام تمركز الملكيات الزراعية والصناعية في أيدي الاحتكارات! أما الذي كان يحدث في تلك اللحظة التاريخية فهو الأزمة الشاملة العميقة التي ترافقت مع تداعي البنى القديمة للنظام الاحتكاري الربوي الأميركي، بكل ما ترافق مع تلك الأزمة من آلام وعويل، وحيث بدأ الانتقال إلى النظام الإمبريالي الذي يتكون من اندماج الرأسمال الصناعي بالرأس مال المالي، أي الانتقال إلى وضعية التمركز الشديد للملكيات!

لم يكن موقف الرئيس كليفلند وبقية أفراد الطاقم الحاكم سوى تعبير عن النزوع إلى تصدير الأزمات، مثلما هم يصدّرونها اليوم إلى فلسطين والعراق وغيرهما؛ والحرب التي تمناها روزفلت كانت بدورها تصوراً لمهرب من الأزمة الداخلية بتصديرها إلى الخارج، أما حكاية "شعب الله المختار" فجاء بدوره في إطار محاولات التصور الاستراتيجي التي تكفل ديمومة نظام الاحتكارات والربا، حيث الشعوب "القديمة البربرية الهرمة التي تنتمي إلى الماضي والتي لا مستقبل لها" ستتحمل على أراضيها ما تنتجه أزمات النظام الاحتكاري الربوي من ويلات وكوارث، أي أنها معالجة للأزمات الداخلية تتحقق بالتضحية بالشعوب الأخرى، وبسبب افتقار مثل هذه المعالجة لأي قدر من المنطق فقد لجؤوا إلى اللاهوت، وتذرعوا بإرادة الله وبالشعب المختار، اليهودي تارة والإنكليزي تارة، وإن هذا هو عين ما تواجهه الأمة العربية والإسلامية منذ قرن من الزمان وحتى يومنا هذا !

أوضاع أوروبا بعد الحرب الأولى

لقد انقلبت أوضاع أوروبا عموماً بعد الحرب العالمية الأولى، فبالإضافة إلى أرقام الضحايا البالغة الضخامة اضطربت أشدّ الاضطراب اقتصادياتها وخطوطها التجارية منذ عام 1913، وقد وقفت تلك التغييرات عند الحدّ الأدنى في أوروبا الوسطى بعد اضطرار المانيا وحلفائها إلى وضع وارداتها في صندوق مشترك، حيث تحققت بذلك وحدة أوروبا الوسطى في وجه الحصار البحري الذي فرضته عليها الدول الحليفة.

كانت ألمانيا تتطلع دائماً، بإصرار وحزم، إلى توحيد أوروبا من خلفها، وإلى احتلال المركز العالمي القيادي الذي تحتله واشنطن اليوم، ولم تكن الحربان العالميتان الأولى والثانية، في أحد أبرز وجوههما، سوى محاولتين في هذا الاتجاه، أما أحاديث الحلفاء عن جرائم الألمان فتستهدف تحويل الأنظار عن الجوهر الحقيقي للصراع، فلو أنهم كانوا في موقع الاحتكارات الألمانية لارتكبوا الجرائم ذاتها، بل إنهم ارتكبوا فعلاً ما هو أعظم منها، في فلسطين وفيتنام واليابان وكوريا والفيليبين وغيرها، حيث أبادوا الأبرياء العزّل بمئات الألوف، لكنهم تملصوا من المسؤولية والحساب ومن مساواتهم بالألمان بفضل مواقعهم في النظام العالمي الذي يجعلهم في مركز السيطرة التامة على أجهزة الدعاية!

بالنسبة للدول الأوروبية الغربية، فقد توفرت لها في ظروف الحرب الأولى إمكانيات التموين في الخارج، حيث استبدلت متعهدي توريداتها في منطقتي الدانوب وروسيا بمتعهدين في كندا والولايات المتحدة، بينما توقفت عن تصدير منتوجاتها الصناعية! لقد أحدثت تلك الحرب العامة شللاً كبيراً في الحركة التجارية الداخلية الأوروبية، وانتقلت إلى ما وراء البحار، إلى الولايات المتحدة، مصادر تموين أوروبا الغربية، فظهرت بذلك تيارات ومجاري جديدة للمبادلات لم تكن قائمة من قبل، وبينما ركد النشاط التجاري الأوروبي كانت اليابان والولايات المتحدة أكثر الدول استفادة من تلك التطورات، وقد ثبت في ما بعد أن تلك التطورات لم تكن وقتية كما توهم البعض، بل مقدمات لتغييرات كبرى في بنية وإدارة النظام العالم، ففي نهاية العقد الثاني من القرن العشرين ظهرت في أوروبا دول جديدة (مثلما حدث مؤخراً) فقامت الحواجز وعدّلت الحدود، وصارت هناك دول أوروبية مستضعفة تفتقر للخامات والمواد الأولية، وكانت الوحدة القومية أو الوطنية لبعض تلك الدول هشّة سريعة العطب، وقد توافرت عوامل الاحتكاك داخل كل دولة وبين تلك الدول: بين بولونيا وتشيكوسلوفاكيا على قضية تيشن، وبين إيطاليا ويوغسلافيا بصدد فيومي وسلوفينيا، وبين ليتوانيا وبولونيا بشأن فيلينا… الخ، أما الدول المنتصرة فقد اشتد التنافس وتضارب المصالح في ما بينها، خاصة حول التركة العثمانية التي استأثرت إنكلترا وفرنسا واليابان بمعظمها، أما الولايات المتحدة فقد وفّرت لها تلك الحرب فرصة نادرة لتحقيق ثروات خيالية، فهي كانت تزوّد الحلفاء بكل ما احتاجوا إليه، بل كانت تزوّد جميع الدول المتحاربة التي وجدت عند الولايات المتحدة بديلاً لمنتوجاتها المتوقفة، وهكذا أغرقت البضائع الأميركية أسواق العالم، لكن تلك لم تكن سوى البداية، إذ سرعان ما أدى ذلك التقدم الأميركي إلى الحدّ من النفوذ السياسي الأوروبي، وأصبحت أوروبا في حالة عجز تام عن استرداد مكانتها التجارية والسياسية، وعندما تازم موقف الحلفاء عام 1917 في أكثر ساحات القتال بسبب الحاجة إلى النفط، انهالت على واشنطن البرقيات التي تتوسل إقناع روكفلر بتزويد الحلفاء بالنفط، لكن هذه التوسلات أهملت غالباً، لأن واشنطن كانت تريد إضعاف جميع الأطراف المتحاربة لتحل محلها!

احتلال واشنطن مركز القيادة الأول!

حسمت نتائج الحرب العالمية الثانية مسالة تعدّدية الإدارات الاحتكارية في العالم، وبرزت واشنطن بصفتها الإدارة الجديدة العليا، تليها إنكلترا من بعيد، وقد أعلن الرئيس الأميركي ترومان في آذار/ مارس 1947 تصميم حكومته على الحلول محلّ إنكلترا في تقديم المساعدات العسكرية للدول المناهضة للشيوعية، وأوضح وزير خارجيته أن المساعدة الأميركية سوف تقتصر على الدول التي تقرّ  واشنطن نظامها السياسي والاقتصادي، وقد أتاح التفوق المالي والتقاني الكاسح للأميركيين الاستحواذ على الصناعات البترولية والمنجمية والمطاطية والكيماوية، وخاصة في البلاد العربية والإسلامية، حيث أعلن الرئيس أيزنهاور في عام 1951 ما يلي: "ليس هناك، في ما يتعلق بالقيمة الخالصة للأرض، منطقة في العالم أكثر أهمية من الشرق الأوسط، فهذه المنطقة عظيمة الأهمية في ما يمكن أن تساهم به في مجهودنا كله"! وقد راحت الصحف الأميركية تكتب عن آسيا التي تمزقها النزاعات، وأنه ما أن تعالج تلك النزاعات بتوجيه من واشنطن حتى يصبح ممكناً ربط جنوب شرق آسيا بالشرق الأوسط لإيجاد "موقف قوة" حيث سيسمح ذلك بتشكيل جيوش آسيوية هائلة تحت إرشاد الأميركيين، فتحلّ مشكلة القوة العسكرية الأميركية!

لقد كان الأميركيون يتطلعون، كما هو حالهم اليوم، إلى قيام الآسيويين بالسيطرة على بعضهم لصالح واشنطن، وكانوا يدققون بلهفة أعداد الآسيويين القادرين على حمل السلاح، وقد قدّرت مجلة "يو إس نيوز اند وورلد ريبورت" الصادرة بتاريخ 20/1/1953 عدد الآسيويين القادرين، والذين تتراوح أعمارهم بين 20 – 24 سنة،بسبعين مليوناً،فإذا نهضت الجيوش الآسيوية أمكن للقوات الأميركية أن تكون طليقة، وأن تستطيع القيام بمهام أعظم!

تلك كانت بدايات عصر المفوض السامي الأميركي الذي نشاهده اليوم في بغداد، والذي تمخض بعد حوالي ستين عاماً عن عزلة شديدة للولايات المتحدة التي لا يقف معها سوى الإنكليز والصهاينة اليهود، بينما تبخرت الأحلام الكبيرة حول إنشاء جيوش آسيوية بعشرات الملايين تعمل ضدّ شعوبها تحت إمرة الأميركيين، ومع أن العصر الأميركي بلغ تلك الذروة التي لا صعود بعدها، بل هو باشر انحداره، فإن واشنطن ما زالت مصرة، في العراق وأفغانستان وغيرهما، على تحقيق حلمها المستحيل!

www.snur1.com/375h

 

Hosted by www.Geocities.ws

1