الخروج من أسار قوس الأزمات ؟

بقلم : نصر شمالي

 

منذ أكثر من عقدين أطلق الاستراتيجيون الاميركيون على منطقة شرقي السويس، أو شرقي المتوسط ، اسم "قوس الأزمات" قاصدين بهذه التسمية تحديدأ قوس الهلال الخصيب. وبالطبع، فإن لهذا القوس امتداداته شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً، فمثل هذه المصطلحات  نسبية وقياسية، حيث لايمكن رسم قوس محدّد بدقة، يتضمن لوناً واحداً، لأن جغرافية البلدان ومصالحها المتداخلة المعقدة يصعب حصرها ضمن خطوط قاطعة، وبالتالي فإن الحدود السياسية لاتستطيع إعاقة تداخلها.

 

من هم سكان قوس الأزمات؟

غير أن ما نريد الإشارة إليه تحديداً، في الحديث عن قوس الأزمات إياه، هو بؤرة الفعالية المركزية في هذا القوس، فما الذي نجده عندما نتأمل في بلدانه؟  إننا نجد شعوباً إسلامية عموماً، تجمعها ثقافة حضارية عريقة مشتركة، وعادات وتقاليد وذكريات عميقة مشتركة، وأيضاً معاناة معاصرة مشتركة، تقف وراءها قوة أجنبية مشتركة . إن جميع شعوب القوس تتطلع  الى الخلاص من النكبات التي تحكم حياتها، والتي جلبتها لها تلك الجهة الأجنبية الواحدة. ولكن، إلى هنا ثم يبدأ الافتراق، حيث حكومات هذه الشعوب المنكوبة، وعلى مدى القرن العشرين، لم تفعل ولم تسمح هذه الشعوب المنكوبة، وعلى مدى القرن العشرين ، لم تفعل ولم تسمح بفعل مامن شأنه بلورة تصور مشترك لسبل الخلاص، فتركت بلدانها متناقضة متعادية لأسباب تافهة، وجعلتها تفتقر الى الحدّ الأدنى من التماسك والتكتل والإدارة المشتركة بصورة رسمية. إن هذا يبرز بوضوح في مواقف حكومات القوس من الأحداث الهائلة التي يشهدها الميدانان الفلسطيني والعراقي ، حيث تغرق هذه المواقف الرسمية في التعثر والتقلّب والتخبط، واضعة الأمور في غير نصابها وموجهة الجهود الى غير اتجاهاتها ، الأمر الذي يعني أزمة مفتوحة عامة يصعب على الكثيرين تحديد بداياتها  وتصوّر نهاياتها!

 

رعاية الأزمات المفتوحة الغامضة

لكن هذه الأزمات، التي طبعت بطابعها على مدى القرن العشرين هذه المنطقة التي أسماها الأميركيون" قوس الأزمات" ، ليست جميعها ، وفي الأساسيات منها، مجرّد إفرازات محلية. صحيح أن المستعمرين وجدوا دائماً مناخاً ملائماً لسياساتهم العدوانية منذ اقتحموا هذه البلدان، لكنهم حرصوا منذ البداية، عن سابق تصميم  وتصور ، على رعاية السلبيات وتنميتها وإشاعتها وإيصالها الى حالة الأزمات المفتوحة الغامضة المستعصية .

إن تعميق التناقضات والخلافات، وتوليد المزيد والمزيد منها، وتأجيج التناحرات والصراعات داخل كل بلد ومع جيرانه، كان في صلب الاستراتيجيات الاستعمارية، باعتباره يتفق تماماً مع سياساتها ومصالحها غير المشروعة، وقد نجحوا بالفعل في خلق حالات معقدة، غامضة، يصعب الخروج منها بخطوة واحدة وخلال فترة زمنية محدّدة واحدة، وبعد أن استفحلت مثل هذه الأزمات المفتوحة الغامضة لم يعد ضرورياً بقاء جيوش الاحتلال، وصار ممكناً إدارة الأزمات من بعيد ، من عواصم المستعمرين، وإبقائها مفتوحة على اللانهاية اعتماداً على الإدارات المحلية التي طغت مصالحها على مصالح شعوبها، بل تناقضت معها

 

انقسامات اكثر و إدارات اكثر!

لقد بلغ المشهد الرسمي اليوم غاية القتامة والتعقيد ، من حيث تخبط وتناقض الادارات العربية وتعدّدها ، ومن حيث تضارب مواقف الادارات الاسلامية، ومن حيث احتمالات وقوع تقسيمات جديدة سوف تفرز إداراتها وتعقيداتها الجديدة. إن الأمثلة كثيرة، نجدها في باكستان وأفغانستان وإيران وتركيا وفي البلاد العربية. ولعل من الضروري الإشارة هنا الى أوضاع إخواننا الأكراد التي تبدو أكثر تعقيداً وإقلاقاً في الظرف العصيب الراهن .

ان الكتلة الاساسية من اهلنا الاكراد تقع في القلب مما اسماه الاميركيون (قوس الازمات)،وقد استغل هؤلاء، مثل من سبقهم من المستعمرين، المعاناة الطويلة للشعب الكردي، وهم يريدون اليوم توظيفها لخدمة مشاريعهم غير المشروعة ،فبدأوا سياسة الخداع المعتادة، وصار قتلة الملايين في القارة الاميركية واليابان وفيتنام يذرفون دموع التماسيح على شهداء مأساة ( حلبجة )في العراق !

لقد استجابت بعض القيادات الكردية،  يا للعجب، لخداع الاميركيين ، واذا كان بالامكان تفهم ذلك بسبب ماعاناه اهلنا الاكراد ، علما اننا نعاني جميعا المعاناة ذاتها ، فاننا لا نستطيع استبعاد السبب الاخر وهو ضغط ( حلم الدولة ) المنقذ ! حيث أوغل البعض في ادارة ظهورهم لحقائق التاريخ والجغرافيا، و لحقائق العصر الاوروبي الاميركي ، وايضا للحقائق المتعلقة بمصالح شعبهم بالذات ، فالشعب الكردي واحد من هذه الشعوب المتآخية تاريخيا،و المنكوبة حاضراً، خلاصه معها وبها وخلاصها معه وبه، ولا خلاص خاص، بالانكفاء والتقوقع والرهان على عطف ورعاية المرابين المتوحشين !

 

و كذلك حال الشعب التركي :

وفي قوس الأزمات أيضاً يعاني الشعب التركي أشدّ المعاناة، وهو الشعب المنصهر بدوره في البوتقة الثقافية الحضارية للشعوب الاسلامية ، المشترك معها بالخصائص الجوهرية الواحدة ، الكافية لاقامة حياة سياسية مشتركة بسهولة و يسر . و لا يتحامقنّ أحد ، متعلمناً متفيقهاً، و يبتسم مستغرباً مستخفاً ، فها هي أمام أعيننا ما تسمى بالأمة الاميركية بكل عجائب تكوينها ، و بكل تعصبها (القومي) ! كذلك، ها هم الاسرائيليون بخليطهم العجيب الغريب، الفظيع، الممتنع على الانصهار ، يجتمعون على ارضنا استناداً الى أسباب ملفقة ، و يفرضون وجودهم ( أمة ) متعصبة !

نحن من جهتنا لا نفتعل ما هو مشترك من صلات تاريخية و ثقافة حضارية و خصائص مشتركة، فالاتراك أسهموا مع اخوتهم، عبر أكثر من عشرة قرون، في بناء أمة التعددية الايجابية و التنوّع الخلاق، و كانوا عنصراً أصيلا فيها، و قاموا بواجباتهم على هذا الاساس من نيودلهي الى طنجة، ومن عدن الى فيينا ،ومرة اخرى نكرر أن لا يتحامقنّ أحد، و يتصاغر الى حدّ التلاشي ،و يحدثنا عن ( الاستعمار ) العثماني بينما هو غارق اليوم، عن وعي او من دون وعي، في حمأة الاستعمار الحقيقي !

في أواسط الألف الميلادية الثانية ، و أمام ما أصاب العنصر العربي من وهن و اضمحلال ، لأسباب مختلفة تتعرض لها جميع الأمم ، راهن ابن خلدون على حيوية و فتوة العنصرين الآخرين من عناصر

 

الأمة : البربري (الأمازيغي ) و التركي ، و توقع أن يواصلا مسيرة العمران ( الحضارة ) التي تلكأت و تعثرت ! و كان الاكراد قد قاموا بواجباتهم خير قيام تجاه أمتهم العربية و الاسلامية في بدايات الالف الميلادية الثانية .

ثم ان الاوروبيين اعتبرونا جميعاً ، و ما زالوا ، جنساً واحداً وحضارة واحدة ، وهم على حق طبعاً ، فتعاملوا معنا بلا تمييز ، بالطرائق ذاتها التي تكفل عدم نهوضنا ، فالتركي في مفرداتهم هو العربي المسلم ،و العربي هو التركي المسلم ، و ينطبق هذا التصنيف على بقية الشعوب أو العناصر المكوّنة للأمة ،بما في ذلك المسيحيين أبناء البلدان العربية و الاسلامية . ان الأعداء لا يأبهون لمسيحية المسيحي العربي ، و يعتبرونه مسيحياً مسلماً ! و لا يتفلسفنّ أحد و يحدثنا عن الفروق العرقية والعنصرية ! كفانا ما حلّ بنا من بلاء نتيجة تلك الفلسفات الحمقاء ، فنحن لسنا أمة عرقية عنصرية ، بل أمة حضارية انسانية .

 

العرب اليوم في المقدمة :

اذا كان معيار المواقف التاريخية المتقدمة هو التصدي لهذا النظام العالمي الربوي الجائر، فان العرب ، في فلسطين و العراق وغيرها، يقفون الآن في المقدمة . انهم اليوم حديث العالم و محطّ أنظاره و بؤرة اهتمامه من أقصاه الى أقصاه . لقد منع الفلسطينيون العدو الصهيوني الرهيب ، على مدى أكثر من عامين، من تحقيق أي هدف سياسي مهما كان ضئيلاً، وهذا في حد ذاته نصر مؤزًر يمهّد جيداً لما بعده. وحول العراق تتقاطر وتتجمع أضخم و أحدث أسلحة الدمار الشامل، والشعب العراقي مصمم على إفشال أهدافها السياسية. فاذا ما واصل الشعب الفلسطيني صموده، وانطلق الشعب العراقي على الطريق ذاتها، كانت تلك بداية نهوض الأمة العربية والاسلامية جمعاء، بل بداية خلاص الانسانية عموماً من براثن المرابين المتوحشين ، وإن الأمل كبير في أن يتحقق ذلك .

 

 

 

Hosted by www.Geocities.ws

1