الحرب العراقية والاستبداد والديمقراطية !

بقلم:نصر شمالي

 

تعاني أمتنا في حياتها الداخلية من العسف والجور ، حيث تتسم نظم الحكم العربية عموماً بسمات ديكتاتوريتن : مقنعة أو صريحة ! إن أبناءها يتطلعون بلهفة وحرقة الى علاقات داخلية منظمة على أساس من الشورى والديمقراطية ، غيرأن ذلك يبدو بعيد المنال حتى في الأنظمة البرلمانية أو اللبيرالية ، ولعل الديمقراطية اختزلت في أذهان الكثيرين باعتبارها تلك العلاقات التي تحمي من مجرّد الفظاظة والقسوة والأذى الشديد غير المبرر، غير أن مثل هذه الحماية لا تشكل المعاني الأساسية الكبرى للشورى والديمقراطية اللتان لا تقوم لهما قائمة إلا في مناخ الاستقلال الوطني والقومي ، وفي ظل الحرية السياسية ، بينما أمتنا لم تحقق استقلالها ولم تحرز حريتها ، الأمر الذي يجعل الديمقراطية ، الجدية وليس المهزلة ،هدفاً بعيد المنال.    

ليس للبشر سوى واحدة من علاقتين : علاقة المنطق أو علاقة الحرب ! إن علاقة المنطق تتحقق في ظل العلاقات الدولية الطبيعية ، والاستقلال والحرية ، وتقود الى نظام الشورى والديمقراطية ، أما علاقة الحرب فتنتج أنظمة استبدادية ، صريحة أو مقنعة ، محلية أو دولية ، وأمتنا لاتزال محكومة بعلاقة الحرب ذات البعدين : الخارجي أولاً والداخلي ثانياً .

      إن جذر المشكلة ليس في فساد النظام البرلماني إبان عهد  نوري السعيد أو مصطفى النحاس ، ولافي عسف النظام الديكتاتوري إبان عهد صدام حسين أو جمال عبد الناصر ، فقد تكون نوايا الحكام في كلا النظامين طيبة وإنسانية (وقد لاتكون ) غير أن فساد اللبيرالية البرلمانية وعسف الدكتاتورية هما نتاج علاقات ما قبل الاستقلال والحرية ، أي علاقات الحرب التي توظفهما كلاهما توظيفاً شريراً لا يسمح بقيام نظم منطقية طبيعية .

الطريق الى الشورى والديمقراطية :

    أن أمتنا محكومة بعلاقات الحرب ، سواء أخذت شكل عدوان خارجي أو شكل صراع داخلي ، ان علاقات الحرب تشمل اليوم العالم أجمع بنسب متفاوتة وبطرائق مختلفة ، حيث الديكتاتورية الاميركية الصهيونية العالمية أطلقت العنان لعنفها العسكري ضدّ جميع البلدان انطلاقاً من حق زعمته لنفسها بالتدخل في تفاصيل حياة الآخرين ، وحيث هي تعلن بلا مواربة أنها تريد إحلال إرادتها وجنودها محل إرادة الآخرين وجنودهم ، وإحلال سياستها وثقافتها محل سياستهم وثقافتهم ! فواشنطن تستخدم اليوم قواتها المسلحة لتعديل موازين القوى الاقتصادية والاجتماعية والسياسية عالمياً بالصورة التي تخدم مصالحها، وبحكم خصائص منطقتنا غدت بلادنا مسرحاً رئيسياً لعملياتها وخطوطاً أمامية لحروبها ، وهكذا يغدو الطريق الى تحقيق نظام الشورى والديمقراطية طويلاً جداً،يمرّ عبرميادين الحروب المفروضة علينا فرضاً والتي لا خيار لنا أبداًسوى خوضها أو الفناء من دون خوضها ! إن المهمة الاولى ، لأمتنا وللأمم الأخرى ، من أجل تطوير حياتنا الداخلية ، هي التصدّي لهذه الحرب العالمية ، الاميركية الصهيونية المفتوحة ، وإحراز استقلالنا وحريتنا ، علماً أن هذا النظام الاحتكاري العالمي ، الذي يقوده الاميركيون الصهاينة اليوم ، بلغ ذروة صعوده التي لا صعود له بعدها أبداً . إنها معاركه الأخيرة مهما عظمت وطالت ، وهو على طريق الاضمحلال مهما أظهر من الجبروت ومارس من ضروب القتل والدمار .

 

 

 

التفوق العسكري وحده لا يكفي :

      يبرز الاستبداد الداخلي للكثيرين باعتباره الأشدّ فظاعة ، وباعتباره من يستحق المواجهة أولاً ، وأن مواجهته- بالديمقراطية- هي الطريق الوحيدة الصحيحة لإلحاق الهزيمة بالأعداء . إن مثل هذا الكلام يبدو جميلاً ومنطقياً ، لكنه ليس عملياً ولا يمكن أن يكون مجدياً ، لأنه ينصرف الى النتائج ويهمل الأسباب ، بل ان البعض يتطلعون الى الأسباب آملين أن تساعدهم ضدّ نتائجها ! إنهم يؤملون أنفسهم بديمقراطية  اميركية صهيونية تخلصهم ،بينما هي ستتلف وتبيد جذورهم التاريخية ، وليس مجرّد علاقاتهم وأشكالهم الخارجية كما هو حاصل الآن ، إن مواجهة الأهوال الراهنة ممكنة مهما عظمت طالما بقيت جذور الأمة حية ، أما إحلال "  الديمقراطية " الاميركية فهو شكل آخر للحرب يقود الى الإبادة التامة ولا يبقي أي أمل بالخلاص . وهكذا ، فان المهمة الاولى لأمتنا وللأمم الأخرى هي درء الهجوم الاميركي الصهيوني وإفشاله، غير أن البعض ينظرون بإشفاق الى هكذا مهمة ، حيث الغلبة في تقديراتهم للديكاتورية الاميركية الصهيونية في جميع المجالات ،وأنه لامناص من الانصياع التام ،وهذا غيرصحيح ، لأن الولايات المتحدةلا تمتلك أية قوة متفوقة سوى في ميدان التسلح و القوى العسكرية الحربية ، وهو تفوق يمكن أن يحقق لها بعض المكاسب السريعة المجلجلة ،لكنه يمهّد في الوقت نفسه لتسريع انكفائها ، بل تقهقرها ،إذا ما أدرك ضحاياها عوامل ضعفها المزمن في جميع الميادين الأخرى، ووطدوا العزم على مواجهتها مهما عظمت التضحيات .

الاوبك واليورو والحرب العراقية :

     لقد تحوّل الاقتصاد الاميركي منذ زمن ليس بالقصير الى اقتصاد طفيلي ، فالعالم بأغنيائه وفقرائه ينتج بينما الولايات المتحدة تستهلك إنتاجه استهلاكاً نهماً جشعاً الى حدّ الوحشية ! إنه اقتصاد يغطي عجزه المزمن على حساب الآخرين وعن طريق الإكراه ، فتلجأ الادارة الاميركية الى وسائل قسرية تعوض بها النقص ، واستخدام السلاح هو وسيلتها الرئيسية عندما يفشل الترغيب و الترهيب والابتزاز . وتشكل الدول المنتجة للنفط هدفاً رئيسياً لعدوانها ، ومصدراً عظيماً لدعم اقتصادها الطفيلي ، وليس احتلال العراق سوى عملاً للسيطرة على منابع النفط من جهة ، وللحفاظ على الديكتاتورية الاميركية الصهيونية العالمية من جهة أخرى. أما لماذا العراق ، فلأنه ، إضافة الى الأسباب الأخرى ، أقدم في تاريخه الحديث على خطوتين نوعيتين شديدتي الخطورة على الهيمنة الامبريالية ،أولهما تأسيس منظمة الاوبيك عاما1960لحماية حقوق الدول المنتجة للنفط، والثانية تحوله الى التعامل  باليورو عـام  2000 لكسر احتكار الدولار المستمر منذ نهاية الحرب العالمية الثانية ! وإذا كان ترويض الاحتكارات لمنظمة الاوبيك قد تحقق الى حد بعيد ، بسبب تبعية وتواطؤ بعض أعضائها ، فإن تحوّل العراق الى اليورو مؤخراً جاء بمنزلة هجوم معاكس من داخل منظمة الاوبيك ، ومشروع ضربة للاحتكار الاميركي في الصميم ، فانتقال منظمة الاوبيك الى التعامل باليورو ، كما فعل العراق المؤسس لهذه المنظمة ، سوف يعرّض الاقتصاد الاميركي الطفيلي لأخطار جدية جسيمة .وقد أظهرت منظمة الاوبيك ، في اجتماعها في اسبانيا ( نيسان/ ابريل 2002 ) ميلها الى التخلي عن الدولار لصالح اليورو ، فجن جنون الادارة الاميركية الصهيونية ، لأن ذلك إن تحقق سوف يعني استبدال الدولار في المصارف المركزية لدول النفط باليورو ، واستبداله في التعامل التجاري الدولي ، الأمر الذي يفقد الدولار الاميركي 40% من قيمته، ويؤدي الى انسحاب الرساميل الأجنبية الموظفة في الولايات المتحدة ، ويؤدي الى زيادة كبيرة في تكاليف المستوردات الاميركية ،فإذا أضفنا الى ذلك موقف دول اليورو الاوروبية ندرك أي انقلاب عالمي يمكن أن يقع نتيجة الخطوة الشجاعة ، الصائبة ، التي أقدم عليها العراق بالتحول الى اليورو، والتي تلتها على الطريق نفسه خطوتان مشابهتان : ايرانية  وكورية ، ليتكون بذلك ما أسمته واشنطن " محور الشر " الذي كادت فنزويلا تنضم اليه ! وهكذا نرى كم هو خطأ الانصراف كلياً الى مسألة الديكتاتورية في كوريا أو العراق ، أو غيرهما ، والإغفال التام للأسباب الحقيقية العظمى الكفيلة بإنتاج أشكال أخرى من نظم الحكم ، لا تقل خطورة حتى وإن اكتست طابعاً " ديمقراطياً" شكلياً وسخيفاً ! إن الخلاص الداخلي للأمم ، وتطوير العلاقات الاجتماعية  نحو الديمقراطية ، لا يمكن أن يتحقق إلا عبر كسب الحرب المفروضة فرضاً علينا وعلى غيرنا .

إمكانيات المقاومة وتقديرات تكلفتها :

       تقوم أجهزة الدعاية والاعلام الاحتكارية المركزية ، وكذلك توابعها في أنحاء العالم ، بمهمة جعل أنفاس الشعوب قصيرة ، ورؤيتها محدودة ، وقضيتها آنية يومية ، فتراها تتحدث عن فظائع الحرب ونهايتها قبل أن تنشب ، ثم ما أن يبدأ الاشتباك المسلح حتى تصبح القضية العظمى والاولى هي قضية إيقافه ! وللأسف الشديد فإن الكثيرين يستجيبون لإملاءات أجهزة الدعاية والحرب النفسية ، ويظهر البعض استعدادهم لتسليم البلد الى حالة أقسى وأخطر من استمرار الاشتباك المسلح ! ومن غرائب الأمور أن أولئك الأكثر ضجيجاً وشكوى من أوضاع أمتهم هم الأقصر نفساً ونظراً ، فتراهم يريدون ربح المعركة من دون تكاليف ، وأحياناً بمساعدة الأعداء ! غير أن للخلاص تكاليفه التي لابد من تسديدها كاملة ، والضحايا البشرية في مقدمة هذه التكاليف، فلا نهوض لأمة من دون شهداء ، أو ضحايا بشرية ، بغض النظر عن عدالة القضية التي دفعتها الى الحرب أو عدم عدالتها .

       لقد هلك في الحرب  الأهلية الاميركية ، أواسط القرن التاسع عشر ، حوالي نصف مليون إنسان ، وهي كانت حرباً ظالمة سعى فيها الشمال الصناعي المالي للسيطرة على الجنوب الزراعي ، فكان له ما أراد ونهضت هذه الدولة الباغية بتاريخها العدواني الصرف ، وبسعيها الدؤوب اليوم لإحكام سيطرتها على العالم أجمع ! لقد كان تعداد سكانها في تلك الحرب الأهلية بحدود الأربعين مليوناً،أي أن التكلفة البشرية كانت 1%! وفي الحرب العالمية الثانية هلك أيضاً حوالي نصف مليون اميركي على طريق وصول الادارة الاميركية الى مركز القيادة الأول في العالم ، ومن ثم التحول الى ديكتاتورية عالمية ، وليس في سبيل قهر النازية والفاشية و الانتصار للديمقراطية ، لأن الولايات المتحدة محكومة ديكتاتورياً بحزب واحد هو حزب رأس المال ، المؤلف من شقين : جمهوري وديمقراطي !

      وبناء على المثال الاميركي ، وليس على غيره ، دعونا نقدّر مايتوجب على أمتنا تقديمه من تضحيات بشرية دفاعاً عن قضيتها العادلة ، في هذه الحرب الظالمة المفروضة عليها على مدى القرن الماضي ، ولنأخذ رقم ضحايا الحرب الأهلية والحرب العالمية من الاميركيين  وليس من غيرهم كمعيار ، بغض النظر عن زيادة عدد السكان في الثانية !

       إن تعداد أمتنا اليوم يقارب 300 مليون نسخة ، فهل يجوز أن نتوقع تضحيات بشرية أقل من التضحيات الاميركية سواء في الحرب الأهلية عندما كان تعداد السكان الاميركيين 40 مليوناً  في الحرب العالمية الثانية حيث تضاعف العدد ؟ أي أن على العرب توقع استشهاد ثلاثة ملايين مقابل خلاص الأمة ونهوضها ، وذلك قياساُ بعدد الضحايا الأميركيين في الحرب الأهلية ، مع الأخذ بالاعتبار أن حربهم ظالمة وإرادية ، أما حربنا فعادلة ومفروضة علينا فرضاً، فإذا قدم العراقيون ربع مليون شهيد يكون العدد مفهوماً بناء على ذلك ، وإذا قدم الفلسطينيون حوالي نصف العدد العراقي فهذا طبيعي أيضاً ، وكذلك الأمر بالنسبة للأقطار الأخرى حسب تعداد سكانها ، وإلا فلا خلاص بأي وجه من الوجوه ، لا في ما يتعلق بعلاقاتنا الداخلية ولا في ما يتعلق بمكانتا الدولية !   

 

 

Hosted by www.Geocities.ws

1