هنري.. كيف تخدع العرب ؟!

بقلم: نصر شمالي

من الأمور التي تدخل في باب اللامعقول، والتي يمكن أن تضاف إلى عجائب الدنيا السبع، أن بعض العرب ما زالوا أسرى للخداع الأوروبي الأميركي، حيث العلاقات السياسية معهم منذ عهد محمد علي وحتى يومنا هذا لا تعدو كونها سلسلة من الخدع سابقة التصميم والتصور. إنها سلسلة تضم ما لا يحصى من حلقات النكوص والغدر، والنصب والاحتيال، والسلب والنهب، والتشريد والقتل! غير أن الخديعة يمكن أن تنطلي على أحد، أياً كان، مرة أو مرتين أو ثلاث، أما أن تستمر متواصلة طوال الليل والنهار على مدى مئتي عام، منذ مطلع القرن التاسع عشر، فإن هذا هو العجب العجاب!

اختيار واحدة من ميتتين!

لقد وقف الرئيس الأميركي بالأمس قائلاً أن الحرب على الإرهاب سوف تستمر في العراق وفلسطين، معطياً إياها حجماً في مستوى الحرب العالمية الثانية من حيث التكلفة ومن حيث الزمن، وناصحاً الفلسطينيين أن يقتلوا أنفسهم بأيديهم بدلاً من أن يقتلهم هو بيديه! وليس مفهوماً أبداً لماذا يتوجّب عليهم أن يفعلوا ذلك، طالما أن الخيار يقتصر على واحدة من ميتتين، لا اختلاف بينهما سوى في نوع الراية التي سترفع على سارية المقبرة، فإما راية أميركية صهيونية وإما راية فلسطينية عربية؟!

أما الخديعة هنا فهي أن الرئيس الأميركي وعد الفلسطينيين بدولة، ولكن بعد أن يموتوا! لقد بدا منطقه الترغيبي ساذجاً وفظاً، وبالتالي مخيفاً حقاً، ليس للعرب وحدهم بل للأمم جميعها، حيث الخطاب السياسي الانجلوسكسوني بلغ اليوم حداً من الخواء الأخلاقي والمنطقي الذي لا يستقيم معه أي حوار طبيعي بغض النظر عن النوايا المبيتة الثابتة، فهو يتعهد للضحية بالأمن والسلام ويطلق النار عليها في الوقت نفسه، فينطلق كلامه مختلطاً بأزيز رصاصه!

لقد تجاوز الأمر أخيراً أي حدّ يسمح بأن تنطلي الخديعة على أحد، ومع ذلك فإن هناك من لا يزال مواظباً في رهانه على وعود الأنجلوسكسون، ومن يرى في المقاومة عملاً مريباً يصب في خدمة الصهاينة، لأنه يقطع الطريق على المساعي الحميدة التي يبذلها الأميركيون سواء في فلسطين أم في العراق، مع أن كلام الرئيس بوش كان شديد الوضوح، حيث ساوى بين الجهد "الطيب" الأميركي والإسرائيلي، وبين الجهد "الإرهابي" الفلسطيني والعراقي!

عزل العرب عن بعضهم !

منذ عهد الاستعمار القديم، وحتى اليوم، دأبت سياسة الخداع الاستعمارية، وخاصة الانجلوسكسونية، على الانفراد بأحد الأقطار العربية لتدميره مع التظاهر بصداقة أشقائه، وليس هناك من لم يسمع الرئيس جورج بوش الأب وهو يعلن أنه سوف يحسم ما يسمى بمشكلة الشرق الأوسط، فيعيد الحقوق في لبنان وسورية إلى أصحابها، ويعطي الفلسطينيين دولتهم الموعودة، بعد مساعدته على تحرير الكويت، غير أن جميع الوعود والعهود ذهبت أدراج الرياح بعد أن حقق الأميركيون أهدافهم في الخليج العربي! وقبل احتلال العراق كرّر الرئيس بوش الابن الوعود ذاتها تقريباً إلى أن وضع قدمه في العراق، وها هو يعلن اليوم أن الفلسطينيين لا يستحقون سوى واحدة من ميتتين، أما اللبنانيون والسوريون فيستحقون أشدّ العقوبات لأنهم يناصرون الشعب الفلسطيني، وأما العراقيون فيستحقون مصير الفلسطينيين بالضبط!

لقد قال هنري كيسنجر ذات يوم  أنه عمد إلى وضع المسألة الفلسطينية جانباً، وتفرّغ لمعالجة قضايا الحدود بين إسرائيل والدول العربية المحيطة بها (طبعاً من باب الخداع) ليس من أجل تحرير أراضي هذه الدول، بل بأمل عزل الفلسطينيين عن إخوانهم في نهاية المطاف (حسب تعبيره بالضبط) وأن هذا الأسلوب كان له نصيب من النجاح، وأنه يتوجب على الإسرائيليين أن يفهموا بأنه لا مناص من التعامل مع الحكومات العربية إذا كانوا لا يرغبون في التعامل مع الفلسطينيين!

اليوم، تحت ذريعة مكافحة الإرهاب، تمارس واشنطن سياسة عزل الفلسطينيين والعراقيين عن إخوانهم، وهي عملية تشمل الشعبين بكاملهما، حيث أي اعتراض على ممارسات المحتلين الفظيعة، بل أية ردّة فعل للدفاع عن النفس تعتبر ضرباً من ضروب الإرهاب، وترى أنه يتوجب على الحكومات العربية اتخاذ جميع الإجراءات التي من شأنها مساعدة الأميركيين والإسرائيليين في تحقيق سيطرتهم المطلقة على فلسطين والعراق من دون مواجهة أي عقبات!

السياسة الثابتة هي التفكيك!

في 15 حزيران/ يونيو 1975، شهد فندق "بيير" في نيويورك لقاء بين وزير الخارجية الأميركي هنري كيسنجر وزعماء الجالية اليهودية الأميركية، وهم تسعة عشر من رجال المال والأعمال والربا الدولي، حيث عرض كيسنجر سياسة واشنطن في المنطقة العربية، وأجاب على الأسئلة التي وجهها إليه أولئك الصهاينة.

قال كيسنجر في جملة ما قاله: لقد سعينا إلى تفكيك الجبهة العربية المتحدة، وسعينا لضمان عدم تدخل الأوروبيين واليابانيين والسوفييت في الجهد الدبلوماسي، وأخيراً سعينا إلى خلق وضع يمكّن إسرائيل من التعامل مع كل من جاراتها منفردة. وهكذا بدأت عملية الخطى الصغيرة!

لقد وجّه أحد أولئك الصهاينة إلى كيسنجر السؤال التالي:

-   هنري.. ماذا تقول للعرب عما ينبغي أو لا ينبغي لهم عمله؟ أنت تفهم ما أقصده بسؤالي!

من الواضح أن ذلك الصهيوني كان يسأل كيسنجر عن الكيفية التي يخدع بها العرب، وقد أجابه الوزير الصهيوني بما يلي:

-   من المسلّم به كما تعلمون أن العرب يتطلعون إلى واشنطن. أنا لم أتحدث مع العرب في قضايا الحدود قط. كنت أقول لهم في كل مرة يتطرقون إلى هذا الموضوع أن ذلك سابق لأوانه. كنت أقول لهم دائماً أن عليهم حصر اهتمامهم بالتزامهم بالسلام. قلت لهم أنه يتعين عليهم تقديم الأفكار العينية حول التعايش مع إسرائيل!

لقد كان كيسنجر يغري الدول العربية بحل مشكلة أراضيها المحتلة بمعزل عن مشكلة فلسطين المعقدة المزمنة، لكنه يمتنع عن الخوض في التفاصيل وعن تقديم أية التزامات محدّدة! إن الأميركيين ما زالوا يمارسون الخداع ذاته، غير أن الأمة بكامل بناها التحتية تخطت هذا المطب التاريخي، وسوف يكون لهذا التخطي ما بعده.

Hosted by www.Geocities.ws

1