الصهيونية غير اليهودية

 

 

 

 

 

 

 

 

 

دورة معهد الإعداد الإعلامي حول: الصراع العربي ـ الصهيوني

دمشق  21/7  -  2/8/2001

 



 

 

 

عن الصهيونية غير اليهودية(*)

 

1- بداية، ينبغي التأكيد على أن دراسة ظاهرة ما معينة تستدعي دراسة الزمان المعين لولادتها، والمكان المعين أيضاً، و كذلك الظروف المعينة المحيطة التي فعلت فعلها في تحقيق ولادتها.                                                                       

2- لقد ظهرت المسألة اليهودية كمعضلة، بمدلولاتها ومعانيها المعاصرة، في أوروبا الإقطاعية تحديداً، وليس في أي مكان آخر من العالم، وهي كانت نتاج النظام الإقطاعي الأوروبي وليس نتاج نظام آخر غيره، كذلك هي لم تكن ظاهرة عالمية، أو معضلة عالمية، كما أوحى الأوروبيون والصهاينة، بل هي كانت ظاهرة ومعضلة محض أوروبية.

3- ثم ظهرت الحركة الصهيونية، بمدلولاتها ومعانيها السياسية المعاصرة، في أوروبا البورجوازية تحديداً. وهي بدأت صهيونية غير يهودية، في أوساط نظيفة تماما ًمن اليهود، ومحظر تماماً وجود اليهود فيها. أي أن الحركة الصهيونية كانت من إفرازات أوروبا البورجوازية الاستعمارية.

4- وبعد ذلك ظهرت الحركة الصهيونية اليهودية، في أواخر القرن التاسع عشر، وأقيم الكيان الصهيوني اليهودي على أرض فلسطين العربية في منتصف القرن العشرين، فكان ذلك من إفرازات أوروبا الرأسمالية الاحتكارية، ومن نتائج سيادة الإيديولوجية السياسية للعصر الأوروبي الأميركي، وليس من إنتاج أية إيديولوجية أخرى أو عصر آخر.

5-  خلاصة القول هي أنه ينبغي علينا التمييز بحزم بين الحديث عن اليهود في مراحل ما قبل أوروبا الإقطاعية وفي مراحل ما بعدها. ففي العصر العربي الإسلامي، الذي سادت قوانينه ونظمه وثقافته وعلاقاته من القرن السابع الميلادي وحتى أواخر القرن الخامس عشر الميلادي، لم تكن ثمة مسألة يهودية على الإطلاق، حيث اليهود اندمجوا تماماً في جميع ميادين الحياة العامة لذلك العصر العربي، من دون أن ينال من اندماجهم احتفاظهم بديانتهم  التي كانت محترمة، واحتفاظهم بخصوصياتهم التي بقيت مصانة.

6-  كذلك ينبغي التمييز بحزم بين جوهر العقيدة السياسية للعصر العربي الإسلامي وبين جوهر العقيدة السياسية للعصر الأوروبي ـ الأميركي. فبينما قامت الأولى على أساس التكافؤ والعدل، بغض النظر عن المخالفات والاستثناءات السلبية الصغرى والكبرى، قامت الثانية على أساس اللاتكافؤ والتمييز والاحتكار، بغض النظر أيضاً عن المخالفات والإستثناءات الإيجابية الصغرى والكبرى.

7-  والحال أن العالم شهد على مدى ثلاثين عاما ًتقريباً انقلاباً شاملاً، هائلاً، وانتقالاً عاماً من عصر إلى عصر، بدأ بسقوط غرناطة واكتشاف أميركا عام 1492، وانتهى برحلة ماجلان والتأكد عملياً من كروية الأرض ما بين العامين 1519 – 1521، وكان بينهما ذلك الحدث الهائل المرتبط بهما، الذي وقع عام 1497، وهو اكتشاف الطريق البحري إلى الخليج العربي ومن ثم إلى الهند، حيث ترتبت على ذلك الحدث نهاية العواصم العربية الإسلامية كعواصم عالمية، وتردي أوضاع العرب والمسلمين الذين وقعوا في حالة حصار طويلة مازالوا فيها حتى يومنا هذا. فمنذ ذلك التاريخ حلت لشبونة ومدريد ولندن وباريس وبرلين وواشنطن، وغيرها، محلّ دمشق وبغداد والقاهرة وغرناطة، وغيرها، بعد أن حل عصر محل عصر، وعقيدة سياسية عالمية محلّ عقيدة سياسية عالمية.

* * *

8-  من المؤسف أن الكثيرين يخلطون بين مختلف الأزمنة والعصور والمراحل، وأيضاً بين مختلف الأمكنة والمناطق والقارات. إن هذا العالم الذي نعيش فيه لم ينهض بالصورة التي هو عليها اليوم دفعة واحدة، في لحظة واحدة وفي كل مكان مرة واحدة. لقد تخلّق طبيعياً وبيئياً وبشرياً بالتدريج انطلاقاً من مكان مناسب معين، وكان تخلّقه وتمدده بطيئاً جداً، حيث ظهرت الحياة البشرية المجتمعية، وليس الإنسان، لأول مرة قبل ثمانية آلاف عام في هذه المنطقة، ما بين النيل والخليج العربي، لأن المناخ كان مواتياً تماماً لمثل ذلك الظهور. وكان على حوض الهند وحوض الصين أن ينتظرا حوالي أربعة آلاف عام قبل أن يبدأ ظهور الحياة المجتمعية فيهما. أما كندا، التي كانت قبل ستة آلاف عام قطعة جليد صلدة، فتوجب عليها الانتظار دهوراً طويلة قبل أن تصبح صالحة لاحتضان الحياة المجتمعية البشرية. لقد كان عدد سكان العالم حين ولد السيد المسيح، في حدود مئتي مليون. وكان العالم حينئذ، في معظمه، مقتصراً على منطقة حوض المتوسط. أما حوض الهند، وأما حوض الصين، فكانا مجرد امتداد بعيد وأطراف نائية. وأما أوروبا الشمالية والشرقية والغربية وروسيا وأميركا، فإنها جميعها لم تكن موجودة وجوداً يستحق الذكر بمعايير الحياة المجتمعية البشرية. إن حضور أوروبا الشمالية والشرقية والغربية حضوراً مجتمعياً يستحق الذكر، يبدأ فقط قبل أقل من ألفي عام بكثير.

* * *

9-  لقد شهدت بدايات الألف الثانية قبل الميلاد ذروة تحولات ثورية نوعية هائلة في المنطقة المهد الواقعة بين النيل والخليج العربي، عبّرت عن نفسها بتلك الانقلابات العظمى في المناخ، حيث سيطر التصحر على منطقة الجزيرة العربية. وشهدت تطوراً في الإنتاج، حيث بدأ العصر البرونزي الثاني. وفي الفكر، حيث ظهرت الحركة الإبراهيمية منطلقة من الخليج، وربما من الكويت بالذات، أو من حولها.

10-    كانت الحركة الإبراهيمية، أو الدعوة الإبراهيمية التي انطلقت ربما عام 1900 قبل الميلاد، حدثاً ثورياً عقلياً وروحياً عظيماً. وهي كانت، في أحد وجوهها، نتاج تلك التحولات الثورية الهائلة التي شملت الطبيعة، والإنتاج، والعلاقات الاجتماعية،  جميعها معاً.

11- وقد دامت الحركة الإبراهيمية، أو المسيرة الابراهيمية التي هي في أحد أهم وجوهها حركة اجتماعية ثورية، حوالي ثلاثمائة عام، من 1900 إلى 1600 قبل الميلاد. كانت حدثاً كبيراً جداً، أكبر بكثير من مجرد سيرة فرد، أو جماعة، أو طائفة. كانت حدثاً في مستوى المنطقة المهد جميعها، ما بين النيل والخليج، وفي مستوى حوض المتوسط جميعه، بمراكزه وأطرافه، وما علينا لملاحظة ذلك سوى متابعة خط سيرها الطويل جغرافياً وزمنياً، من الخليج قرب الكويت أو منها، إلى "ماري" في سوريا، ثم صعداً مع الهلال الخصيب إلى الشمال، ثم في اتجاه الغرب إلى المتوسط، وهبوطاً إلى فلسطين، فمصر، ثم انتقالاً إلى الجزيرة العربية، وإلى مكة تحديداً حيث حققت نهوض البيت العتيق. لقد كانت حدثاً في مستوى المنطقة وفي مستوى العالم الذي كان موجوداً ومعروفاً حينئذ، تواصلت فصوله على مدى ثلاثة قرون تقريباً، ولا يجرؤ سوى الأشقياء والسخفاء على حصر مثل ذلك الحدث بطائفة معينة أو قبيلة معينة.

12- إن نظام حمورابي، الذي ظهر في أواخر المرحلة الابراهيمية، بقوانينه وإصلاحاته، لم يكن سوى استجابة سلطوية محدودة لتلك التعبئة الجماهيرية، ولذلك التطور الروحي والعقلي، الذي حققته الحركة الابراهيمية عبر مسيرتها الطويلة. أما على صعيد الحركة الاجتماعية غير السلطوية فقد توالى الرسل والأنبياء يواصلون المسيرة، من موسى إلى عيسى إلى محمد، ومن ظهر بينهم وهم كثر، ليأتي في النهاية انتصار المسيرة العربية الإسلامية تتويجاً حاسماً لكفاح اجتماعي طويل، استمر من عام 1900 قبل الميلاد وحتى القرن السابع بعد الميلاد. وهكذا فإن من السخف أن ينسب جميع أولئك المصلحين والرسل والأنبياء والقادة إلى طائفة بعينها، أو قبيلة بعينها. لقد كانت تلك منطقة حوض المتوسط بمجملها تنتج تلك الشخصيات وتحقق تلك الأحداث. غير أن بعض الحمقى والمغرضين، من اليهود وغير اليهود، فعلوا ذلك، ونسبوا إلى طائفتهم أو قبيلتهم تلك الأحداث الهائلة وذلك التراث العظيم. 

* * *

13- كان القرن السابع الميلادي بداية تحول جذري في الحياة العالمية عموما. لقد انطلقت القوات الثورية الإسلامية في جميع الاتجاهات، تصطدم مع النظم والسلطات العبودية في كل مكان، وتلتحم مع الجماهير المظلومة في كل مكان، لتحقق في خلال حوالي سبعين عاما تقريبا وحدة النظام العالمي ما بين الصين وفرنسا. وإن ذلك يصبح مفهوما تماما عندما نأخذ بالاعتبار مسألتين: الأولى هي أن الانطلاقة الإسلامية كانت محصلة لجميع الدعوات والكفاحات التي سبقتها منذ الإبراهيمية. والثانية هي أنها كانت استجابة صادقة لاحتياجات ملحة طالما انتظرتها الشعوب والأمم في كل مكان من العالم الذي كان معروفا آنذاك. وهكذا فقد كان المسيحيون شركاء أساسيين في تلك الانطلاقة، وكذلك اليهود وغير اليهود. وباستثناء السلطات والأسياد، لم يعارضها من لم يعتنق الإسلام، إن لم يرحب بها، وهذا ما يفسر لنا سيادة النظام السياسي العالمي، العربي الإسلامي، خلال حوالي سبعين عاما، بينما النظام السياسي العالمي، الأوروبي الأميركي، استمر مئات السنين، ومازال، وهو يحاول فرض هيمنته. لقد كان الفارق الحاسم، كما أشرنا، يكمن في الاختلاف بين جوهر العقيدتين السياسيتين، حيث الأولى تنص على المساواة والتكافؤ والثانية تنص على التمييز والاحتكار.

14- وعندما دخل العصر العربي الإسلامي العالمي في طور الاضمحلال، وبدأت تظهر في الشمال الأوروبي، شرقاً وغرباً، شعوب جديدة فتية، مفعمة بالحيوية والنشاط والقوة، ابتداء من أوائل الألف الميلادية الثانية، كان ذلك إيذانا بقرب الانتقال إلى عصر جديد، كنا نتمنى، لو تصح التمنيات، أن يكون استمرارا متطورا لجوهر العقيدة السياسية العربية السمحة، المناهضة للظلم والعبودية، كقاعدة. وبالطبع، ما كنا لنأبه أن مراكز قيادة العالم انتقلت من آسيا وأفريقيا إلى أوروبا. غير أن ما حدث، للأسف الشديد، كان نقيضاً وكارثة بالنسبة لمعظم أمم الأرض القديمة العريقة، بغض النظر عن الإبداعات الرائعة والمنجزات العظيمة المعاصرة في ميادين العلوم المادية الحديثة التي وظفت لصالح التمييز والاحتكار.

* * *

15- عندما بدأت الانهيارات الكبرى النهائية، في نهايات العصر العربي الإسلامي العالمي، ابتداء بسقوط غرناطة، بدأت مرحلة الهجرات الكبرى، وخاصة من شبه الجزيرة الايبرية، وهي كانت في معظمها هجرات قسرية.

16- لقد انطلقت حروب الإبادة والاستيطان والاستعمار التي أسست لهذا العصر الأوروبي ـ الأميركي. كانت رحاها الفظيعة تدور طاحنة الشعوب من جنوب شرق آسيا، إلى الخليج العربي، إلى شواطئ أفريقيا الجنوبية والغربية، إلى شبه الجزيرة الإيبرية، إلى القارة الأميركية التي اكتشفت حديثا، بالصدفة، أثناء البحث عن طريق إلى الهند، وحيث بدأت طلائع الاستيطان تفتك بشعوب أمريكا.

17- انه ليتوجب علينا أن لا نغفل أبدا تلك الأحداث العالمية المصيرية العظمى آلتي أنجبت الظاهرة الصهيونية، وأن نتذكر تواريخها. فهي ولدت في خضم تلك العمليات الكبرى وليس خارجها. ففي العصر العربي الإسلامي العالمي، وعلى مدى قرون طويلة، لم تكن ثمة معضلة يهودية، لأن اليهود اندمجوا تماما في ذلك العالم الرحب، واضمحلت خصائصهم السلبية ونمت خصائصهم الإيجابية، ولم يكن ثمة فرق على الإطلاق بين ابن ميمون و ابن حزم في معايير العصر العربي الإسلامي العالمي. ولا بد من الإشارة هنا إلى أن لكل مجتمع بشري خصائصه السلبية، وقد يحدث تحت ضغط ظروف ما، أن تطغى الخصائص السلبية لفترة ما من الزمن قد تطول وقد تقصر.

* * *

18- إن الحروب الصليبية، التي شنتها تلك الشعوب الجديدة، الفتية النشطة، والقاصرة في الوقت نفسه، لم تستهدف فلسطين وحدها، وإن ظلت فلسطين أبرز أهدافها، بل هي شملت جبهات العصر العربي الإسلامي العالمي بمجملها، من جنوب شرق آسيا إلى شبه الجزيرة الايبرية. وحتى اجتياح القارة الأميركية حدث في نطاق تلك الحروب الصليبية، وانطلاقا من الدوافع والمفاهيم ذاتها. لقد كان الأوروبيون، وخاصة الأنجلوسكسون، يتعاملون مع القارة الأميركية باعتبارها "أرض الميعاد" ويتعاملون مع شعوبها باعتبارهم "الأغيار" الكنعانيين الذين تتوجب إبادتهم.

19- كانت الشعوب الأوروبية تخوض حروبها الإبادية ضد الشعوب الأخرى، وتأخذ عنها ومنها في الوقت نفسه، فتتطور بفضلها عقليا وماديا. وكانت شبه الجزيرة الايبرية قد غدت مركز الحضارة العالمية الأول وفي الوقت نفسه خط التماس والصراع الأول مع الشعوب الجديدة الناهضة من شبه العدم. وكان سقوط غرناطة عام 1492 سقوطاً لآخر وأهم القلاع التي تدافع عن حضارة أنهكتها الحروب الأزلية، الداخلية والخارجية، فبدأت الجراح تضعفها، ومظاهر الشيخوخة والتقهقر تبدو واضحة عليها، بينما البديل لم يكن كفؤاً وأهلاً لقيادة العالم، مثلما كانت الكفاءة والأهلية واضحة عند قادة الفتح العربي الإسلامي، الإيجابي والأممي.

20- كانت شبه الجزيرة الايبرية، مستودعا هائلاً، ثميناً، مكتظاً بالمهارات والخبرات والمعارف والعلوم الإنسانية. وعندما بدأ ذلك المستودع بالانهيار، انساحت محتوياته في جميع الاتجاهات نحو أميركا وأوروبا وآسيا وأفريقيا. والذين قاموا بتدمير تلك الحضارة لم يتعاملوا معها باعتبارها ديناً معيناً أو جنساً معيناً. لقد تعاملوا مع جوهر الحضارة العربية تحديداً، واشتبكوا معه تحديداً عبر من يمثلونه، سواء أكانوا يهوداً أم مسيحيين أم مسلمين. وهكذا أبيد اليهود وهجّروا مثلما أبيد المسيحيون والمسلمون وهجّروا. لقد كانوا يريدون استبدال نزعة العقيدة السياسية العالمية التي تنهض على التكافؤ والمساواة، بنزعة نقيضة تنهض على التمييز والاحتكار. كانوا يخوضون حروبهم الضارية ضد النزعة الإنسانية، وإن هم موّهوها بشعارات ورايات دينية.

21- لقد اتجهت هجرات كبيرة من شبه الجزيرة الإيبرية إلى أمريكا، وخاصة أولئك الذين تحولوا إلى المسيحية من دون أن يحميهم ذلك. وفي خضم تلك الهجرات توجه اليهود إلى كل مكان، ماعدا فلسطين ويا للعجب. لقد أقاموا تجمعات جديدة في المغرب العربي، وفي الإسكندرية، وفي تركيا، لكنهم لم يقيموا أي تجمع يستحق الذكر في فلسطين، فقد كانت فلسطين بالنسبة إليهم موضوعاً روحياً وليس فيزيائياً. إن فكرة الربط والجمع بين الفيزيائي والروحي هي فكرة أوروبية محضة، غير يهودية، تتميز بالسطحية والفجاجة والفظاظة المادية الفاوستية.

* * *

22- إن تاريخ وصول المهاجرين اليهود من شبه الجزيرة الايبرية إلى البلدان الأوروبية المنخفضة، وخاصة فرنسا وبلجيكا وهولندا، هو تاريخ بداية التعرف الأوروبي، عملياً وجدّيا ً، على خارطة العالم ومكوّناته وثرواته، فأولئك اليهود (العرب المسلمون بالمعنى السياسي والحضاري) أخذوا على عاتقهم فتح أبواب العالم المغلقة أمام الجهل الأوروبي.

23- حتى ذلك التاريخ، أواسط الألف الثانية للميلاد، كان المجتمع الإقطاعي الأوروبي يقوم على الاقتصاد الطبيعي، وكان الإنتاج ينحصر بصورة أساسية في القيم الإستعمالية لا في القيم التبادلية. كان كل ميدان يكتفي بنفسه، ولا مبادلة إلا في بعض الكماليات، أما أسياد الاقنان الأوروبيين فكانوا يتخلون عن قسم من المواد الخام التي تنتجها أراضيهم مقابل البضائع النادرة الآتية من الشرق.

24- وكان المجتمع الإقطاعي الأوروبي مجتمع طوائف بالمعنى المهني والطبقي والعقلي والمذهبي، فهو يريد من كل إنسان أن يبقى ثابتاً في مكانه، بعكس المجتمعات العربية الإسلامية التي كانت تريد من كل إنسان أن لا يبقى ثابتاً في مكانه. ففي تلك المجتمعات العربية الإسلامية لم تكن ثمة حدود لقدرة الإنسان على تغيير وضعه والتحكم بمصيره. كانت أم الخليفة الأندلسي عبد الرحمن الثالث نصرانية، وكان اليهود يشتركون غالباً في عضوية مجلس الوزراء، بل أن أحدهم كان يحتل منصبا يعادل رئيس الوزراء (أظنه ابن شبروط). وهكذا فقد صار الاقتصاد الطبيعي في أوروبا الإقطاعية بحاجة دائمة ومتزايدة إلى وظائف اليهود ومعارفهم العربية الإسلامية. وكان طبيعياً أن تبرز هناك في أوروبا الخصائص السلبية لليهود، التي كانت قد ضمرت إلى الحد الأقصى في ظل الحضارة العربية الإسلامية، وأول تلك الخصائص السلبية كانت خاصية الربا.

25- لقد شكل اليهود المرابون، في تلك الحقبة من تاريخ أوروبا الإقطاعية، مصدر دعم قوي للملكية المطلقة في صراعها ضد النبلاء والبورجوازية الناشئة، ومكنوا الملوك من تجهيز جيوش المرتزقة الباهظة التكاليف، التي بدأت تحل محل جماعات النبلاء المسلحة غير المنظمة.

26- لقد مرّ وقت ليس بالقصير قبل أن يقوى عود البرجوازية الأوروبية، وتحصل على الاعتراف بدورها القيادي في المجتمع، وبعد أن قويت، واعترف بدورها القيادي الأول، تحوّلت من الرفض المطلق للوظائف اليهودية السلبية، وأولها الربا، إلى حماية ورعاية تلك الوظائف التي اعتمدتها البورجوازية.

* * *

27- ابتداء من القرن الخامس عشر أصبح العالم في حالة انتقال، وميداناً لحروب الإبادة والاستيطان والاحتكار المفتوحة، المترافقة مع صراعات ضارية بين العواصم الأوروبية ذاتها، حيث يريد كل منها الاستيلاء على أكبر قدر من الغنائم، وفي الوقت نفسه يريد تعزيز موقعه في أوروبا جغرافياً وسياسياً.

28- يقول ديورانت: "إن الأوروبيين الذين انعزلوا حتى أواخر القرن الخامس عشر في شبه جزيرتهم الصغيرة، وفي البحار الضيقة المحيطة بها وفي الجزر المنتشرة في هذه البحار قد شقوا آنذاك طريقهم عبر الاقيانوسات الشاسعة، واتصلوا بالعالم"!

29- ويقول رولان مونسييه: "لقد جاب البرتغاليون والاسبانيون العالم، مشرّقين ومغرّبين، وأينما اتجهوا وجدوا أمامهم، قائمة راسخة، دولاً وإمارات إسلامية، ومرسلين مسلمين وتجارا مسلمين، من جميع العروق والأجناس، يعدّون بالملايين، ففي بلاط إمبراطور الصين وجدوا أنفسهم وجهاً لوجه أمام علماء الفلك المسلمين، وهكذا بدا لهم الإسلام كلي الحضور، حتى أن الأب لاشيز، مرشد لويس الرابع عشر، أيقن بأن آسيا كلها إنما هي إسلامية"!

30- لقد توجهت العواصم الأوروبية إلى حسم صراعاتها الداخلية خارج القارة الأوروبية. وهكذا فعندما وقع الانقلاب الثوري في إنكلترا أواسط القرن السابع عشر، ونهض عهد الجمهورية، عهد حماية أوليفر كرومويل، راحت إنكلترا تزاحم الأقاليم الأوروبية المتحدة، منذ عام 1650، على التفوق التجاري والبحري، وعلى احتكار تجارة الهند، وعلى نهب واستيطان أمريكا، وأيضاً على تركة الإسبانيين والبرتغاليين الذين أفل نجمهم.

31- في تلك الفترة، في عهد كرومويل، وفي عام 1649 تحديداً، نظّم بعض الإنكليز غير اليهود حركة تدعو لعودة اليهود إلى فلسطين، وأرسلوا إلى الحكومة الإنكليزية عريضة جاء فيها ما يلي: "إن أمة إنكلترا وسكان هولندا سيكونون أول الناس وأكثرهم استعداداً لنقل أبناء وبنات إسرائيل على سفنهم إلى الأرض التي وعد بها أجدادهم، إبراهيم واسحق ويعقوب، لتكون ميراثاً لهم إلى الأبد"!

32- كانت تلك العريضة من إعداد الانجلوسكسون البيوريتان، وهي أعدّت بالطبع بالاتفاق مع حكومة كرومويل، كذلك فإن فكرتها، بلا ريب، كانت مستوحاة من الهجرات الأوروبية إلى العالم الجديد، أميركا، حيث عمليات الإبادة والاستيطان قائمة على قدم وساق. أما لماذا اليهود في فلسطين بالذات، فإن السبب يعود إلى المناعة التي أظهرتها البلاد العربية، وخاصة في فلسطين، سواء في الحروب الصليبية أو في الحملات البرتغالية الأولى. وفيما بعد، فسّر لنا الدبلوماسي الإنجليزي جيمس نيل (1877) بوضوح هذه المسألة، حيث قال: "إن احتمال أن يتمكن الإنجليز من استيطان فلسطين بنفس النجاح الذي استوطنوا به في أميركا الشمالية بعيد جداً، بسبب الصعوبات التي يقيمها العرب، وبسبب الافتقار إلى حماية فعالة، وكثير غير ذلك"!

* * *

33- في عهد أوليفر كرومويل، عهد انتصار البورجوازية الإنجليزية، كان الوضع مواتياً تماماً لاحتضان العقيدة الصهيونية، ونضوج فكرة الكيان الصهيوني في فلسطين العربية. فالمذهب البيورتاني الذي اعتنقته الثورة البورجوازية بتعصب مفرط كان يعني اعتماد "التقاليد العبرانية" في السياسة الدولية. وقد وصف وليام كننجهام المجتمع البيوريتاني بأن اتجاهه العام كان يسير نحو التخلي عن الأخلاق المسيحية وإحلال العادات اليهودية محلها، فبدأ الالتزام حرفياً بتشريع عتيق، مأخوذ عن نصوص "العهد القديم"، الأمر الذي أدى إلى الإرتداد نحو نمط أدنى من الأخلاقيات الاجتماعية، وهو النمط الذي سرعان ما ساد في إنجلترا وفي غيرها من الدول الأوروبية.

34- لقد تقرّر أن يلعب مفهوم العنصر اليهودي دوراً خاصاً في الفكر الإنجليزي البيوريتاني، وهكذا أصبح ينظر إلى فلسطين كوطن لليهود، وصار استيطانها بواسطة اليهود شرطاً للمجيء الثاني للسيد المسيح. ولم يكن ذلك كله سوى مظهر من مظاهر استكمال إيديولوجية سياسية دولية، تعبئ الدهماء في أوروبا من جهة، وتبرر إبادة الغير، الذين هم "الغوييم" حسب المصطلحات التلمودية، من جهة أخرى.

35- غير أن المفارقة المذهلة هي أن إنجلترا، في أواسط القرن السابع عشر، كانت خالية من اليهود تماماً، حيث قبل 350 عاماً من ذلك التاريخ، حظّر الملك إدوارد الأول تواجدهم فيها نهائياً. أي أن فكرة استيطان فلسطين من قبل اليهود ولدت في مكان لا وجود لليهود فيه على الإطلاق!

36- وهكذا كان على الجماعة التي أصدرت البيان بصدد استيطان اليهود لفلسطين أن تعمل في الوقت نفسه على السماح لليهود بالدخول إلى إنجلترا أولاً، وقد سمحت حكومة كرومويل بذلك فعلاً.

37- كانت طبقة التجار ورجال الأعمال الإنجليز، وجميعها تقريباً من البيوريتانيين، تنظر بحسد ونهم شديدين إلى الهولنديين الذين وصلوا إلى طرق التجارة في ما يسمى بالشرق الأقصى والشرق الأدنى. وكان معروفاً تماماً أن لليهود الهولنديين، من أصول أندلسية، نشاطاً رئيسياً مكثفاً في مجال توسيع نطاق التجارة، أو الحملات العسكرية الاستعمارية كما يجب أن تسمى. وكان ذلك يحدث بينما الحرب الأهلية ناشبة في إنجلترا. وعندما وافق كرومويل على السماح لليهود بالعودة إلى إنجلترا، التي كانت "نظيفة" تماماً منهم حسب التعابير الأوروبية، كان منهمكاّ في سلسلة من الحروب التنافسية ضد البرتغال، ثم هولندا، وأخيراً إسبانيا. وكانت توجد في كل دولة من تلك الدول التي يحاربها جالية يهودية كبيرة، معروفة بثرائها ومهاراتها وصلاتها مع الدول الأجنبية، أي مع دول آسيا وأفريقيا أيضاً.

38-  لقد أراد كرمويل الاستفادة من اليهود كأجهزة استخبارات أيضاً، وذلك بفضل شبكة علاقاتهم الممتدة عبر أوروبا، والتي يمكن أن تزوده بالمعلومات عن السياسات الدولية للأوروبيين عموماً، وبخاصة منها التجارية، وكذلك تزويده بالمعلومات عن المؤامرات التي تدبرها الأنظمة الملكية الأوروبية ضد إنجلترا الجمهورية.

39- كان على الصهيونية البيوريتانية، الإنجليزية غير اليهودية، أن تقنع، في القرن السابع عشر بالأمل في إرسال اليهود لاستيطان فلسطين، بعد أن تعيدهم إلى إنجلترا أولاً كخطوة في ذاك الاتجاه، وكان عليها الانتظار ريثما تستكمل إنجلترا شكلها الإمبراطوري، الإمبريالي، على الصعيد  العالمي، أي الانتظار حتى القرن التاسع عشر.

* * *

40- في القرن التاسع عشر، ظهر اللورد شافتسبري الذي احتل مكانة رئيسية مرموقة في تاريخ الصهيونية غير اليهودية. كان يعارض التحرير المدني لليهود الذين صاروا إنجليزاً، ويحتج بأن السماح لهم بعضوية البرلمان دون حلف اليمين المسيحي الحق يعتبر انتهاكاً للمبادئ الدينية. كان نشاطه متركزاً على إرسال اليهود إلى فلسطين. ومعارضته للتحرير المدني كانت، ولا بد، تستند إلى هذا الاعتبار وليس إلى مشكلة أداء اليمين المسيحي. فالصهيونية غير اليهودية، التي ظهرت قبل ظهور الصهيونية اليهودية بقرون طويلة، كانت تسعى للاحتفاظ باليهود جاهزين للاستخدام في فلسطين خاصة وفي غيرها عموماً، الأمر الذي يقتضي عدم السماح بذوبانهم في المجتمعات الأوروبية.

41- لقد أخذ اللورد شافتسبري على عاتقه إقناع إخوانه المسيحيين الإنجليز بأن اليهود لا يستحقون الخلاص فحسب بل ويمثلون شيئاً حيوياً بالنسبة لأمل المسيحيين في الخلاص. كان يقصد بقوله إعادتهم إلى فلسطين كشرط للمجيء الثاني للسيد المسيح. وكان يقول بضرورتهم على الرغم من اتسامهم بالعناد، وسواد القلب، والانغماس في الانحطاط الأخلاقي، والجهل بالكتاب المقدس، حسب وصفه لهم. كان اللورد إياه يدعو إلى فكرة عودة اليهود إلى فلسطين في الوقت الملائم سياسياً. لقد تحوّل استيطان اليهود في فلسطين إلى أمنية سياسية إنجليزية عامة، وبدأ منذ ذلك الوقت ما وصفه ديفيد بولك بالاتحاد الغريب بين سياسة الإمبراطورية وبين نوع من الصهيونية المسيحية الأبوية التي برزت في السياسة البريطانية عبر الأجيال التالية.

42- أما في فرنسا الكاثوليكية اللاتينية، فقد أراد الفرنسيون اقتفاء أثر أصحاب العريضة الإنجليزية التي أعدّت عام 1649. فبعد الثورة الفرنسية، التي بدت متحررة من تأثيرات اللاهوت، أصدر نابليون، عام 1799، نداء إلى اليهود دعاهم فيه للالتحاق بقواته، ووعدهم بإقامة دولة لهم على أرض فلسطين كثمن لاشتراكهم في مجهوده الحربي، فهو بدوره كان يتطلع، بالطبع، إلى إقامة قاعدة ارتكازية في فلسطين تدين له بمقومات الوجود وتعمل في خدمة المصالح الفرنسية.

43- وعندما اتسع نفوذ محمد علي، أواسط القرن التاسع عشر، ليشمل معظم المشرق العربي إن لم نقل كله، اشتد الاهتمام الصهيوني غير اليهودي بإقامة دولة يهودية في فلسطين، وبدأ التفكير بضرورة ذلك من أجل إقامة حاجز بشري، قوي وغريب وموال لإنجلترا، يفصل مصر عن المشرق العربي، ويتكفل بعدم نهوض الأمة العربية وتحقيق وحدتها.

* * *

44- في أواسط القرن التاسع عشر بدأ نوع من المشاركة بين بريطانيا والولايات المتحدة، تمثل في أحد وجوهه باتفاق الدولتين على السعي المشترك من أجل إقامة دولة يهودية في فلسطين "أهم مفارق طرق التجارة في العالم" كما وصفوها. وقد تجلى ذلك التعاون في إنشاء حركات دينية تبشيرية تقوم أثناء نشاطها بالتركيز على العهد القديم من الكتاب المقدس، وذلك من أجل تهيئة العقول لتقبل فكرة إقامة دولة يهودية في فلسطين، فكانت حركات المورمون، والسبتيون، وشهود يهوه، وما لا يحصى من الحركات المشابهة.

45- إن الولايات المتحدة، التي هي استطالة اجتماعية أوروبية بالدرجة الأولى، هي استطالة انجلوسكسونية بيوريتانية سياسية بالدرجة الأولى أيضاً. ولقد ظلت الإدارة البريطانية تعتقد، حتى عهد قريب، أن المشروع الصهيوني اليهودي هو ملكها وحدها، غير أن تطور النظام العالمي، والتغييرات الكبرى في مواقع الإدارة العالمية، جعل المشروع الصهيوني اليهودي، أخيراً، من نصيب الأميركيين وحدهم بالدرجة الأولى.

46- إن الدولة الإمبريالية هي بالضبط: الدولة المرابية! وبصعود واشنطن إلى سدة القيادة الدولية بدا واضحاً أن العالم بأكمله قد انقسم إلى حفنة من الدول المرابية وإلى أكثرية هائلة من الدول المديونة، وكان ذلك يعني أن ساعة العمل الجدي، المباشر، قد أزفت بالنسبة للصيارفة الصهاينة، اليهود وغير اليهود، فهم أصبحوا في مواقع النفوذ الهائل في أوساط الرأسمال المالي، الذي هو من أبرز خصائص ومرتكزات النظام العالمي السائد.

47- كانت الصهيونية اليهودية قد تأسست بالضبط في تلك اللحظة التاريخية التي تحولت فيها كل من إنجلترا والولايات المتحدة إلى دولتين إمبرياليتين، فغدت منظمة رسمية معترفاً بها، وأخذت موقعها الهام، الممتاز، في شبكة النظام العالمي الرهيبة المعقدة.

48- غير أن مشاريع الصهيونية غير اليهودية في فلسطين استقبلت من قبل أوسع الطوائف اليهودية استقبالا تراوح بين اللامبالاة والفتور وبين الرفض العنيف. لقد كان اليهود الإنجليز متشددين في معارضتهم لمشروع استيطان فلسطين. وقد كتب أستاذ القانون الأميركي ماليسون أنه، عند بداية المفاوضات من أجل إصدار وعد بلفور، ساورت اليهود شكوك عميقة بخصوص الأهداف السياسية للصهيونية. وبعد الكشف عن مسودات تصريح بلفور أصبح اليهود الإنجليز ملتزمين بموقف مناوئ للصهيونية. وقد تلخص موقفهم بالنقاط التالية:

آ- إن المبدأ الذي يقوم عليه التصريح المقترح (تصريح بلفور) يفترض ويتضمن أن اليهود عموماً يؤلفون قومية، ومثل هذا التضمين يلحق أفدح الأضرار بالمصالح اليهودية، كما أنه يثير اشمئزاز عدد ضخم من اليهود.

ب- إن التصريح يحرم عرب فلسطين من حقهم في وطنهم، ويعرّضهم للطرد والتشريد، وهو موقف غير إنساني ومرفوض. إن التصريح يعني أن على المسلمين والمسيحيين إخلاء المكان لليهود، وهو الأمر الذي لا يتحقق إلا بطرد الفلسطينيين.

ج- إن الوطن القومي المقترح سوف يحوّل فلسطين إلى "غيتو" كبير، وسوف يتعرض اليهود فيه إلى خطر كبير في يوم من الأيام.

د- إن الوطن اليهودي المقترح سيضر بمصالح اتباع الديانة اليهودية في كل أرجاء العالم، إذ أنه يقوم على الفرضية الخاطئة بأن اليهود يشكلون قومية واحدة، وإن فلسطين هي وطن لليهود، وهو أمر سينتج عنه وهم اليهود غير الإسرائيليين بالولاء المزدوج، وسيدفع أوطانهم إلى النظر إليهم نظرة الشك، وسيؤدي إلى حرمانهم من حقوق المواطنة الطبيعية.

* * *

49- لقد رأينا كيف أن المسألة اليهودية كانت مسألة أوروبية، إقليمية وليست عالمية، وكانت من نتاج النظام الإقطاعي الأوروبي، ورأينا كيف أن الحركة الصهيونية، غير اليهودية ثم اليهودية، كانت بدورها من نتاج النظام الرأسمالي الأوروبي، وفيما بعد ظهر الكيان الصهيوني كنتاج للنظام الأوروبي ـ الأميركي. وهكذا فإن السمة البارزة للصهيونية اليهودية سوف تعبّر عن نفسها دائماً بذلك الولاء الصريح للسيد الجديد، المنتصر عالمياً، فإذا ما أردنا، في أية مرحلة، معرفة من هو الأقوى، فإن ولاء الصهيونية اليهودية سوف يدلنا عليه بسهولة. أي أنه لو أصبحت مشيخة عجمان، مثلاً، هي الأقوى عالمياً فإن الصهيونية اليهودية سوف تكون موالية لهذه المشيخة، ولسوف تضع الكوفية والعقال على رأسها، وتدبّج الأسفار النفيسة في امتداح أبناء العم الطيبين!

50- بعد الحرب العالمية الثانية حسمت نهائياً مسألة تعددية العواصم القيادية العالمية، وأصبحت للنظام الاحتكاري العالمي عاصمته الرئيسية الواحدة التي تدين لها الصهيونية اليهودية وكيانها في فلسطين بالولاء التام. إنها واشنطن بالطبع، غير أن ذلك لم يحدث عبر انقلاب فجائي، فالعلاقات مع واشنطن قديمة، والذي تغيّر بعد الحرب هو نسبة حجم الولاء الذي صارت واشنطن تستحقه، كما أن علاقات الصهيونية اليهودية مع العواصم الأوروبية التي خسرت مواقعها الرئيسية لم تنقطع وإنما تبدلت نسبها فحسب. ويتوجب النظر إلى هذا كله على أساس وحدة بنية النظام العالمي ووحدة مصالحه الأساسية.

51- لقد نشرت صحيفة "جيروزاليم بوست" بتاريخ 8/7/1976، حديثاً للحاخام الأميركي إسرائيل غولدشتاين جاء فيه ما يلي:

ـ بعث مؤسس الكنيسة المورمونية جوزيف سميث تلميذه اورسون هايد إلى القدس، في عام 1840، وذلك من أجل تسهيل نبؤة بعث إسرائيل. ومن بين كتب التوصية التي حملها هايد كتاب من وزير خارجية الولايات المتحدة، وآخر من حاكم ولاية ايلينوي. وفي عام 1850 قام وارد كريسون، قنصل الولايات المتحدة في القدس، بتأسيس مستوطنة زراعية في منطقة القدس، وخطط لتأسيس مستوطنات أخرى، وحاول الحصول على دعم زعماء اليهود (الفلسطينيين) لكنهم لم يستجيبوا له رغم تحوله عن ديانته المسيحية إلى الديانة اليهودية. وفي عام 1868 أرسل القائم بأعمال القنصل الأميركي في القدس، لورنزو جونسون، تقريراً لحكومته عن أوضاع اليهود في فلسطين جاء فيه: أنهم يعيشون في حالة بطالة، ويعتاشون على التبرعات التي تأتي من أوروبا وأميركا، وأن المتعلمين بينهم لا يدرسون إلا التلمود فقط. وقدم القائم بالأعمال مقترحات إلى حكومته الأميركية لربط الصدقات المرسلة إلى اليهود ببعض المشروعات التي تتضمن القيام بعمل من جانب متلقي الصدقات. وقال أنه يعتقد بأن الحاخامات يعارضون بشدة مثل هذه المخططات. وفي شهر تموز/ يوليو من عام 1867 وجّه مجموع المستوطنين الأميركيين المقيمين قرب يافا، رسالة إلى السيدين فسندن وموريل عضوي الكونغرس الأميركي، يشرحون فيها وضعهم، ويطلبون من السناتورين التدخل لدى السلطات الأميركية لتخليصهم من الوضع الرهيب الذي وجدوا أنفسهم فيه. وذكر موقعو الرسالة، وعددهم سبعون، أنهم استشاروا السفير الأميركي في القسطنطينية، السيد موريس، قبل إرسال الرسالة. وبتاريخ 22 أيلول/ سبتمبر 1867 جاء الرد من وزارة الخارجية الأميركية إلى عضوي الكونغرس، وفيه أن الخارجية متشككة في صحة نوايا موقعي الرسالة، وأن عدداً هاماً من المستوطنين لا يزالون متمسكين باستمرارية المشروع، وان مجموعة من المستوطنين الجدد تتأهب للإنطلاق من ولاية ماين إلى يافا، وأنه من غير المناسب لحكومة الولايات المتحدة التورط في إعادة المستوطنين الخائبين في الوقت الذي تتجه فيه سفينة من ماين إلى فلسطين وهي تحمل مغامرين جدد"!

52- من الواضح أن نظرة الأميركيين إلى استيطان فلسطين تتفق تماماً مع نظرتهم التي استوطنوا على أساسها أميركا، مع فارق واحد هو القناعة أخيراً بأن استيطان اليهود في فلسطين هو الخيار الوحيد الممكن، لأسباب أشرنا إليها وأدركها الإنكليز مبكراً.

53- في عام 1917، تبادل آرثر بلفور الرسائل مع الرئيس الأميركي ولسون للاتفاق على الصيغة النهائية للتصريح الذي سوف تصدره لندن بشأن الوطن القومي اليهودي. وقد وافق ولسون على مشروع التصريح سراً، وظلت الموافقة الأميركية طي الكتمان بسبب موقف الولايات المتحدة في الحرب العالمية الأولى وفي السياسة الدولية عموماً. وعندما تأكدت نهائياً هزيمة الدولة العثمانية قال ولسون، في آب / أغسطس 1918، ما يلي: "أعتقد أن الأمم الحليفة قد قررت وضع حجر الأساس للدولة اليهودية في فلسطين بتأييد تام من حكومتنا وشعبنا"! وقد بعث ولسون برسالة إلى الحاخام ستيفن وايز رحب فيها بالتقدم الذي أحرزته الحركة الصهيونية في الولايات المتحدة وفي البلدان الحليفة بعد صدور تصريح بلفور.

54- في 21/ 9/ 1922، صادقت الحكومة الأميركية بصورة نهائية على مشروع بلفور، فاقترن قرار الكونغرس بتوقيع رئيس الولايات المتحدة. ولقد كان ذلك بمجمله يتحقق، شيئاً فشيئاً، على حساب بريطانيا العظمى وسياساتها الدولية ومصالحها، حيث سيتحول مشروع الكيان الصهيوني اليهودي، الذي خلقت فكرته قبل مئات السنين، إلى مشروع يعمل لصالح الأميركيين، وهو ما حصل في ما بعد فعلاً، كذلك هو ما يفسر لنا خلفية تلك التناقضات الحادة بين السياستين الأميركية والإنجليزية خلال سنوات ما قبل قيام الكيان الصهيوني، بل حتى حرب السويس عام 1956.

55- منذ عام 1939 بدأت العلاقات الأميركية اليهودية تأخذ شكلاً متميزاً، وبدأت تتردد هنا وهناك عبارات النقد للحكومة البريطانية التي بدت كأنما هي تعيق قيام الكيان الصهيوني، بينما هي في الحقيقة تريد أن يقوم بشروطها ولصالحها، فانطلقت عمليات تطوير المعارضة للسياسة البريطانية في فلسطين، وبدأ التحول السريع في موقف الصهاينة اليهود باتجاه إحلال الولايات المتحدة محل بريطانيا، بعد أن بدا ضعف بريطانيا خلال الحرب واضحاً، وبدا صعود الولايات المتحدة إلى مركز القيادة العالمية الأول بعد الحرب مؤكداً. 

* * *

56- في تلك الفترة، فترة الحرب العالمية الثانية، شهدت جميع الولايات الأميركية نشاطاً محموماً من قبل الصهيونية غير اليهودية، فكلفت "لجنة الطوارئ الأميركية للشؤون الصهيونية" بمهمة الدعاية للمشروع الصهيوني في الولايات المتحدة، وظهرت تنظيمات للجنة في 76 ولاية ومنطقة، ورفدتها 380 لجنة على المستويات المحلية، وفي نيسان / إبريل 1941 ساهمت هذه اللجنة في تشكيل "اللجنة الأميركية لفلسطين" التي كان هدفها استقطاب دعم المسيحيين الأميركيين، وفيما بعد تشكلت منظمة عرفت باسم "المجلس المسيحي لفلسطين" مهمتها تجنيد رجال الدين المسيحي تحديداً. كذلك جرى تجنيد الصحفيين والعاملين في الخدمة العامة. وعندما جاء عام 1943 بلغت الحملة المتواصلة أوجها بحيث حقن كل شق في الساحة الأميركية بالروح الصهيونية. وقد حققت حملات الدعاية نجاحاً باهراً فنتج عنها أن أقر 33 مجلس ولاية قرارات تؤيد الصهيونية، إضافة إلى مجلس المنظمات الصناعية، واتحاد العمال الأميركي. وبعد ذلك تقدم الكونغرس بقرارات مشابهة. وفي حملات الانتخابات عام 1944 تبنى الحزبان السياسيان الرئيسيان برامج مؤيدة للصهيونية ولمشروع الكيان الصهيوني في فلسطين.

57- غير أن جميع تلك النجاحات الصهيونية غير اليهودية ظلت تفتقر إلى حد كبير لعامل رئيسي شكل غيابه الكبير مفارقة عجيبة، بل فضيحة كبرى لسياسيات الصهيونية غير اليهودية. إنه الدعم والتأييد المناسب والكافي من قبل جماهير الطائفة اليهودية في الولايات المتحدة، حيث بقي هذا العامل صعب المنال، وظلت الأكثرية الساحقة من الأميركيين اليهود ترفض قبول المشروع الصهيوني، وتصر على الاندماج في المجتمع الأميركي.

58- حتى عام 1943، بلغ مجموع اليهود الأميركيين، المنضوين تحت لواء الصهيونية، في حدود أقل من خمسة بالمئة من تعداد اليهود في البلاد. وقد كانت تلك، بالطبع، مشكلة خطيرة تطلبت معالجتها إرسال بعثات صهيونية يهودية، من فلسطين إلى الولايات المتحدة، لإقناع اليهود الأميركيين بأن الصهيونية هي الحل الوحيد للأزمة التي تواجه اليهودية العالمية.

59- لكن مشكلة معارضة اليهود الأميركيين للمشروع الصهيوني لم تحل دون المضي قدماً في التعبئة من قبل الصهيونية الأميركية غير اليهودية، فهاهم 67 شيخاً في الكونغرس يشكلون كتلة مهمتها مناصرة المشروع الصهيوني، وهاهم 143 ممثلاً سينمائياً ينتسبون إلى اللجنة الأميركية لفلسطين، العاملة من أجل صنع الكيان الصهيوني.

60- في كانون الأول/ ديسمبر 1942، انضم ثلث مجلس الشيوخ إلى 1500 شخصية أميركية في التوقيع على عريضة تطالب بتشكيل جيش يهودي. وفي 6 تشرين الأول/ أكتوبر عام 1943 وصلت إلى مقر الرئاسة الأميركية مجموعة مكونة من 500 كاهن غير يهودي عرضت على والاس، نائب الرئيس، مطالب الصهيونية الأميركية غير اليهودية بصدد إقامة الكيان الصهيوني. وفي كانون الثاني/ يناير عام 1944 سلمت إلى مجلس الشيوخ ومجلس النواب مشاريع قرارات بالمصادقة على برنامج بلتيمور الصهيوني، وخاصة ما يتعلق منها بتشكيل الجيش اليهودي. وقد عارض هذه القرارات كثير من اليهود غير الصهاينة. وفيما بعد، أدخلت المطالب الصهيونية غير اليهودية في مقررات مؤتمرات الحزب الجمهوري والحزب الديمقراطي، وأصدر الكونغرس عدداً لا يحصى من القرارات تنفيذاً لتلك المطالب.

61- لقد حدث ذلك في عهد الرئيس روزفلت، الذي كانت زوجته اليانور من كبار الشخصيات الصهيونية غير اليهودية. وبعد وفاته جاء ترومان ليتجاوز محاولات روزفلت في التوفيق بين الالتزام بالصهيونية وبين كسب ودّ العرب من أجل نفط الجزيرة العربية. لقد تبنى ترومان وجهة النظر الصهيونية القائلة بأن العرب سوف يذعنون أيا كانت المواقف الأميركية، مثلما أذعنوا من قبل لاتفاقات سايكس/بيكو، ولتصريح بلفور. وهكذا، في 31 آب/ أغسطس 1945، قام ترومان بخطوته الأولى في هذا المنحى، فطالب اتلي رئيس الوزراء البريطاني بالموافقة على دخول مئة ألف مستوطن يهودي إلى فلسطين، فراح اتلي يذكّر ترومان بالعهود التي قطعت للعرب، لكن الرئيس الأميركي ردّ بالتصريح علناً أن الولايات المتحدة سوف تضطلع بالأعباء المالية اللازمة لنقل اليهود إلى فلسطين.

62- في عام 1946، حاولت الحكومة البريطانية أن تعارض مرة أخرى دخول مئة ألف يهودي إلى فلسطين، فراح المسؤولون الأميركيون يلوّحون بإمكانية رفض الكونغرس المصادقة على قرض كبير لبريطانيا، 3750 مليون دولار، فكان ذلك التهديد كافياً تماماً كي تتراجع لندن عن معارضتها.

63- في عام 1947، أعلن الوفد الأميركي تأييد واشنطن رسمياً لمشروع تقسيم فلسطين، وقد تم ذلك بأمر مباشر من الرئيس ترومان، وقامت الإدارة   الأميركية بضغوط جبارة على عدد كبير من الحكومات لإرغامها على التصويت لصالح مشروع التقسيم. وفي التاسع والعشرين من شهر تشرين الثاني/ نوفمبر عام 1947 أقرت الجمعية العامة للأمم المتحدة تقسيم فلسطين. وبعد صدور القرار أصبح مطلوباً بإلحاح ضمان الاعتراف الدولي بدولة إسرائيل. وما أن أعلن قيامها، في الرابع عشر من أيار/ مايو 1948، حتى بعث الرئيس الأميركي ترومان باعترافه بعد إحدى عشر دقيقة بالضبط. لقد كان هاري ترومان يستحق، بالفعل، لقب المؤسس الحقيقي للكيان الصهيوني اليهودي.

* * *

64-  من جهة أخرى، وبعد الانتهاء من التوقيع على اتفاقيات الهدنة التي تلت حرب عام 1948، بدا الانتصار الصهيوني الذي تحقق بإقامة الدولة اليهودية هزيلاً و باهتاً قياساً بالجهود العظيمة التي بذلت في سبيله، وبالضجة الكبرى التي رافقت تحقيقه، وذلك بسبب إحجام اليهود الواسع النطاق عن الهجرة إلى الدولة المصطنعة.

65- لقد كتب الصحفي الإسرائيلي باروخ نادل (عن جون أفريك – 22/2/1978) مقالة جاء فيها مايلي:

"إن الصهيونية التي لم تستطع إنقاذ يهود أوروبا (يقصد أنهم رفضوا الهجرة إلى فلسطين) وجدت نفسها بدون هدف مقبول، ولكي يعطوا تبريراً معنوياً لوجود دولتهم عملوا على إنقاذ يهود آخرين على الرغم منهم. إن الوحيدين الذين كان ممكناً إنقاذهم كانوا يهود العالم العربي"!

66- أما شالوم كوهين فقد  كتب يقول أن ذلك كان خزياً ما بعده خزي، وخيبة ما بعدها خيبة، حيث يهود البلاد العربية لم يكونوا يعانون أية مشكلة سوى مشكلة الظلم الاستعماري و التخلف الذي تعاني منه البلدان التي ينتمون إليها، فهم لم تكن لهم أية علاقة بمآسي الحرب العالمية من قريب أو بعيد.

67- كانت الدول العظمى، وبقية الدول التي رضخت لرغبتها، قد أصدرت قرار قيام الدولة اليهودية تحت ضغط فكرة إنقاذ يهود أوروبا المساكين الذين يجب أن تقوم دولة إسرائيل كحل وحيد لهم، فلما رفضوا الهجرة إلى الدولة الإسرائيلية بعد قيامها، بالأعداد المنتظرة والحماسة المتوقعة، توجه ديفيد بن غوريون إلى العراق واليمن والمغرب لإنقاذ اليهود في تلك البلاد.

68- لقد كانت الإدارة الأميركية وراء توجه بن غوريون إلى يهود البلاد العربية، وبدأ الاتفاق مع حكام عرب تحت عنوان بسيط يقول: "خذوا أملاك اليهود وأعطونا أجسادهم"!

69- لكن ذلك الاتفاق اصطدم بالعقبة ذاتها وهي رفض اليهود للهجرة. فيهود العراق، مثلاً، كانوا يعيشون في رخاء، ورفضوا النزوح، فكانت تلك ورطة أخرى للقيادات الصهيونية اليهودية وغير اليهودية، إذ لو نزلوا عند إرادة يهود العراق فسوف تظهر دولتهم بلا أي مبرر. لذلك كان لابد من اللجوء إلى الإرهاب ضد يهود العراق وغير العراق. وبالفعل، ألقى العملاء الإسرائيليون القنابل على المراكز والكنس اليهودية في العراق لإثارة الهلع وإجبار اليهود على الهجرة، فتحقق ذلك خلال أقل من عام.

70- في آذار /مارس عام 1950، قدم صالح جبر، وزير الداخلية العراقي، مشروع قانون إلى البرلمان يسمح لكل يهودي يرغب في الهجرة بالتخلي عن جنسيته العراقية، فحظي القانون بموافقة البرلمان، ونشر في الجريدة الرسمية، وفتحت المكاتب لتسجيل أسماء اليهود الراغبين في الهجرة، إلا أنه لم يتقدم لتسجيل اسمه طيلة شهر كامل سوى مئة وعشرون شخصاً فقط.

71- وبعد شهر، في مساء 8 نيسان / إبريل، وكان يوم عطلة يهودية، ألقيت قنبلة على مقهى يرتاده اليهود في شارع أبي نواس. وفي صباح اليوم التالي وزعت منشورات في الكنس اليهودية العراقية تدعو إلى النزوح هرباً من حملة قادمة من التفجيرات، وسرعان ما بدأت تغص مكاتب التسجيل بالناس، وتخلى عشرات من اليهود عن جنسيتهم العراقية، بينما إلقاء القنابل على الكنس وأماكن تجمعات اليهود الأخرى يتواصل.

72- لقد تولت شركة الطيران الأميركية مهمة نقل يهود العراق إلى فلسطين المحتلة. وكان ممثل الشركة في العراق، والمشرف على تنظيم عملية الهجرة، هو المستر ارمسترونغ. غير أن الأميركي ارمسترونغ لم يكن غير شلومو هيلل وزير الشرطة الإسرائيلي المقبل!

73- لقد هاجر أكثر من مئة ألف يهودي عراقي خلال أشهر تحت قصف القنابل، وفي جو مفعم بالإرهاب والرعب، أما الذين صمدوا وأصروا على الاحتفاظ بجنسيتهم العراقية فكانوا فقط ستة آلاف يهودي بقوا في العراق.

74- في 10 آذار / مارس 1951، أصبح نوري السعيد رئيساً لمجلس الوزراء العراقي، فدعا مجلس النواب إلى جلسة سرية، وفي اليوم نفسه سن قانوناً، صادقه عبد الإله الوصي على العرش، ينص على تجميد ممتلكات اليهود الذين تخلوا عن جنسيتهم. لقد كان الجسر الجوي الأميركي الذي ينقل اليهود إلى فلسطين المحتلة بطيئاً جداً، فقد اقتصر على طائرة واحدة يومياً. ولكن، ما كاد قانون تجميد ممتلكات اليهود يصدر حتى أصبحت الطائرات الأميركية تحط ست مرات يومياً في مطار بغداد، لتنقل حمولاتها البشرية إلى مطار اللد مباشرة !

75- في شهر تموز / يوليو عام 1952، صرح ديفيد بن غوريون بما يلي:

"إنني لا أخجل من الاعتراف بأنني لو كنت أملك الإرادة و القوة لانتقيت مجموعة من الشباب الأقوياء والأذكياء، المخلصين لأفكارنا، وأرسلتهم إلى البلدان التي بالغ فيها اليهود بالقناعة الآثمة (يقصد رفض الهجرة) وستكون مهمة هؤلاء الشبان التنكر بصفة أناس غير يهود، ورفع شعارات معادية للسامية، وأستطيع أن أضمن أنّ تدفق المهاجرين إلى إسرائيل من هذه البلدان سوف تكون نتائجه أكثر بعشرات آلاف المرات من النتائج التي يحققها آلاف المبعوثين الذين يبشرون بمواعظ عديمة الجدوى"!

76- في النهاية، أختم بما كتبه اليهودي العراقي المهجّر، اسحق بارموشيه، في كتابه "الخروج من العراق":

"كنا نتذكر بحزن شديد أن حكام العراق الرجعيين وخدام الاستعمار كانوا يصفوننا بأننا يهود. وقد تركنا العراق كيهود، ووصلنا إسرائيل كعراقيين. كان المشهد مأساوياً ومضحكاً في الوقت نفسه، فقد ساعدنا حكام العراق على تأكيد وتثبيت يهوديتنا، وهاهم أبناء ديانتنا يساعدوننا مرة أخرى على تأكيد وتثبيت عراقيتنا. كان الشعور العام مؤلماً ومثيراً للحزن في آن واحد. إن الأنبياء اليهود المعروفة قبورهم يثوون في أرض العراق. وقد حافظنا عليهم، نحن والعرب، مثلما يحافظ الإنسان على بؤبؤ عينه. إن العرب في الديار المقدسة (فلسطين) كانوا أحسن الحراس وأكثرهم أمانة لقبور أجدادنا وأجدادهم معاً، في الخليل وغير الخليل، وإن تاريخنا وتاريخهم في هذه الديار يرتبط ارتباطاً عضوياً، ولذلك فقد اكتشفنا أن المستقبل هو للارتباط وليس للانفصال، وأن عوامل القرب، هنا وهناك، كانت، وظلت، وستبقى، أقوى من عوامل البعد "!

77- ونحن من جهتنا نقول أن تاريخ العصر العربي الإسلامي العالمي يؤكد ما ذهب إليه بارموشيه، فصراعنا هو مع الصهيونية سواء أكانت يهودية أم غير يهودية، ونحن نتعامل مع بعضنا ومع الآخرين بناء على الوظائف، هل هي سلبية أم إيجابية؟ ولا نتعامل على أساس الدين، أو المذهب، أو العرق، أو اللون. نحن نتعامل مع الوظائف، نؤكد مرة أخرى. ولقد لخص جدنا الرسول العربي الكريم المسألة بحديثه الشريف القائل:" أنا جدّ التقي ولو كان عبداً حبِشياً، وعدو الشقي ولو كان قرشياً هاشمياً ". إننا ننتسب إلى بلال الحبشي، وليس إلى أبي لهب القرشي.

.

 


 

(*)  محاضرة نصر شمالي في دورة معهد الإعداد الإعلامي – حول: الصراع العربي ـ الصهيوني 21/7 - 2/8/2001.

Hosted by www.Geocities.ws

1