متانة البنية التحتية التاريخية وفعاليتها

بقلم : نصر شمالي

 

 

        بلغ الصخب الاعلامي والسعار العسكري حداً يكاد يطغى تماماً على المشهد الاقليمي والدولي، فالديكتاتورية الاميركية تملي على ضحاياها مفردات خطابهم السياسي ضدّها و تحّددلهم خطوات مواجهتهم الميدانية لها ، حيث هاجسها الرئيس تجريد المشهد من أي بعد تاريخي ، وإفراغه من أي مضمون إنساني قومي أو أممي !

      غير أن الخروج من أسار  حدود اللحظة الراهنة  سوف يجعلنا نرى على الفور أن المواجهة الحالية الكبرى ليست في جوهرها سوى تكرارا ًمتقدما لتلك المواجهة التي حدثت قبل ثمانين عاماً ونيف بين الثورة العربية الكبرى وبين الدول الاستعمارية، وليست سوى تكراراً متقدماً لما تلا تلك الثورة من مواجهات عديدة ، كحرب السويس عام 1956 مثلاً ، فإذا كان الامر كذلك ، وهو كذلك حقاً، فإن أول ما يجب أن نلاحظه هو التطور الذي ظل يطرأ على أحجام القوى المتقابلة ، من مواجهة الى أخرى ، فالخط البياني لحجم القوى المتقابلة ظل في صعود مستمر ، من حيث التعداد والعتاد ، وبالطبع فإن ما استدعى صعود الخط البياني ، على الرغم من كل شيئ ، هو تقدم أمتنا وليس تراجعها ، إذ لو أنها تتراجع لكان الخط البياني في هبوط وليس في صعود ، وذلك يعني أن البنية التاريخية التحتية المشتركة للأمة كلها ، التي كانت هدفاً رئيسياً للعدوان على مدى القرن العشرين ، قد صمدت أمام جميع محاولات تفتيتها وتبديدها ، على الرغم من نجاح الأعداء في تجزئة بنيتها الفوقية ، السياسية والجغرافية . إنه يعني أن البنية التحتية ، الاجتماعية التاريخية ، ظلت موحّدة وممتنعة على محاولات اختراقها ،فهي تقاوم مثل هذه المحاولات من جهة ، وتناضل لاسترداد بنيتها الفوقية ، المسلوبة والمبعثرة ، من جهة أخرى ، وفي هذا ما يفسر لنا تصاعد أحجام القوى المتقابلة من جولة الى أخرى !

الصحوة في الميدان الفلسطيني :

      لقد تحققت هذه الصحوة الاسلامية والقومية التي نشهدها اليوم بفضل متانة البنية التاريخية التحتية المشتركة للامة كلها ،وبفضل تجاوز بعض أطرافها منذ سنوات طويلة مرحلة البدايات ،مرحلة الارتباك ، والتخبط، والفجاجة ، والخطاب السياسي القاصر ، والأداءالميداني الأخرق ، وبلوغهم مرحلة النضج بكل أطيافهم الوطنية والقومية والاسلامية ، لقد زال خطر الانكفاء الذاتي والموضوعي ، ولا يضيرهم في شيئ أن أطرافاً مهمة أخرى لم تلحق بهم بعد ، لأنها ستفعل بالتأكيد ، إن عاجلاً أو آجلاً .

     إن الصحوة  تبرز بأبهى صورها في الساحة الفلسطينية ، على الرغم من أن فلسطين تعتبر الحلقة الأضعف في المشهد العربي والاسلامي ، حيث القوى المجاهدة في فلسطين تشكل اليوم رأس الحربة ، والخندق الأمامي ، والرافعة التاريخية للوضع العربي والاسلامي عموماً، ولا غرابة أن تكون كذلك وهي التي نجحت في إبقاء الكيان الصهيوني مجرّد مشروع قابل للإنكفاء ،لأنها منعته من تحقيق أي تقدّم نوعي، حاسم ونهائي ، طوال النصف الثاني من القرن العشرين ، وهو المشروع الذي انطلق من فكرة أن الفلسطينين لا وجود لهم ، وقد أراد الأميركيون واليهود استئصال الفلسطينين ، تأكيداً للفكرة المسبقة التي تقول بعدم وجودهم !

    اليوم ، على الرغم من الضجيج الذي يصم الآذان ، ومن مؤامرات الصمت المطبق ، يبدو واضحاً لكل ذي عينين من هم أصحاب فلسطين حقاً وفعلاً ، الذين يدافعون عنها وعن وجودهم فيها بأظافرهم وبأجسادهم العارية ، ومن هم المدّعون المرتزقة الذين يعملون في ركاب المستعمرين الاميركيين ، ويحتمون خلف  الدبابات   والطائرات  الاميركية الجبارة ، ويفضحون استعدادهم للرحيل في حال تخلّي الأميركيين عنهم . وإذن ، فإن الخط البياني للمواجهات، منذ عام 1948 وحتى اليوم ,هوفي صعود مستمر، وهذا يعني أن الأمة تتقدم.

مغزى العودة الى الاستعمار الباشر :

       من الأدلة القاطعة على صعود الخط البياني للمواجهات المتوالية بين أمتنا وأعدائها هذا الحضور الاميركي المباشر في منطقتنا ، سواء في العراق أم في غيره ، بكل ضخامته وثقله وجبروته . إن البعض يجأرون يالشكوى ويتأوهون وهم يتابعون القوات الاميركية الهائلة تتدفق على بلادنا في عودة صريحة الى حالة الاستعمار المباشر ، غير أن ما يزعجهم هو بالذات ما يزعج أيضاً واشنطن التي تفضل ألف مرة إدارة حرب يخوضها الآخرون نيابة عنها وبإشرافها ، وخاصة إذا كانوا من أهل المنطقة ذاتها . إن اضطرار الإدارة الأميركية للحضور ميدانياً بجيوشها الجرّارة ليس في مصلحتها مهما بلغت قوتها التدميرية ، حيث ذلك يعني تاريخياً أنها تخوض معركتها الأخيرة بعد أن استنفدت جميع الأساليب والأنساق والوسائل الأخرى ،وعلى سبيل المثال ، فقد خذلها الكيان الصهيوني الذي عجز عن استئصال الفلسطينين منذ سنوات ظهوره الاولى ، وبرهن بالتالي أنه ليس مؤهلاً لاحتلال موقع الإدارة الاقليمية بالنيابة عنها ، ولذلك ألحقته في عداد قواتها وهي تكظم غيظها من فشله ، وتقف عارية أخلاقياً وسياسياً ما الشعب الفلسطيني والعرب والمسلمين وشعوب الأرض قاطبة بما فيها الشعب الاميركي !

      ثم ان العراق يتصدى للزحف الاميركي بقواته النظامية بالدرجة الاولى ، أي ببنيته الفوقية بالدرجة الاولى ،أما البنية التحتية الشعبية فهي الاحتياطي الذي لا يعرف العدو شيئاً عن دوره القادم في المعارك ، وبغض النظر عن الآراء المختلفة الكثيرة حول نظام الحكم في العراق ، فإن ما لاجدال حوله أن هذا النظام مظهر من مظاهر إمكانية استرداد الأمة لبناها الفوقية من مخالب الأعداء . إن العراق ببنيته الفوقية ، يقف اليوم في الخندق الأمامي وفي مقدمة قوى الصحوة الوطنية والقومية والاسلامية والأممية ، فهو محط أنظار واهتمام العالم أجمع ، وميدان هذه الجولة العظمى من جولات الأمة على مدى القرن الماضي ، ولاتغيّر في أهمية ذلك تاريخياً نتائج المواجهة ، سلبية أم ايجابية , لأن هذه المواجهة تمثل صعود اً متميزاً في الخط البياني للمواجهات ، وتمهد مباشرة لجولة الحسم الأخيرة .

المعارك ضرورية وإن لم نربحها :

    إن استرداد الأمة لبناها الفوقية المسلوبة ليس بالمهمة التي يمكن إنجازها في جولة واحدة وفي فترة زمنية قصيرة، بل هي تحتاج الى زمن طويل والى عدد غير محدّد من الجولات غير الحاسمة . إن الأمة، عبر الجولات المتوالية غير الناجحة، تحقق تطوّر وعيها لذاتها وللعالم، وتصلّب بنيتها التي أصابها وهن شديد خلال مئات السنين الماضية، وتمتلك الجدارة الضرورية التي تفتقدها والتي من دونها لن تحتل موقعاً لائقاً في المستقبل، وإن هذا بمجمله هو عين  ما حدث  ويحدث،  وعين ما يشير إليه الخط البياني التاريخي الصاعد.

   إن هذه الحرب المفتوحة على جميع الجبهات ، وفي جميع الميادين، تضع الأمة أمام خيار وحيد، هو خيار خوضها، وهي تخوضها وسوف تستمر في خوضها جولة فجولة، في هذا القطر أو ذاك، ليس لأنها لاتملك خياراً آخر فحسب أو لأن الحرب مفروضة عليها فحسب، بل لأنها تريد أن تربحها وإن بعد عدد كبير من الجولات غير الناجحة، أما الذين يتوهمون إمكانية إحراز الجدارة والاحترام والتقدم  من دون خوض هذه الحرب المفتوحة فانهم لا يفعلون سوى إطالة أمد عذاب أمتهم ومضاعفة حجم خسائرها.

البعد الأممي للتجزئة والوحدة:

      ليست قضية الوحدة والتجزئة مجرّد هاجس عربي واسلامي داخلي، فمثلما للوحدة ضروراتها العربية والإسلامية لها أيضاً ضروراتها الأممية العالمية في المستقبل، وأيضاً مثلما للتجزئة وظائفها وضروراتها في النظام العربي الرسمي القائم فإن لها وظائفها وضروراتها في النظام الدولي، حيث تجزئة الوطن العربي تشكل ركناً أساسياً من أركان وحدة هذا النظام الاحتكاري العالمي، وحيث وحدته تشكل رصيداً إيجابيا قوياً لصالح علاقات أممية متكافئة ومتوازنة يحققها بالفعل حضور العرب المغيبيّن . إن العالم يفتقد أمتنا التي أحدث غيابها خللاً خطيراً في بنيته وتوازنه.

   وهكذا ، فإن نضال العرب من أجل استكمال وحدتهم، ولتكن على الطريقة الاوروبية، هو بداهة نضال من أجل التأسيس لنظام دولي نظيف وعادل، والأعداء عندما يسهرون على حراسة التجزئة في بلادنا، بل ويسعون لتوسيع نطاقها كي تشمل الأخلاق والعادات والثقافة والعلاقات اليومية، فإنهم بذلك ينهضون بعبء أساسي من أعباء عملية حماية وحدة نظامهم الربوي الدولي. ويمكن القول أن جميع محاولاتنا وتجاربنا الوحدوية في القرن العشرين، التي لم يقدّر لها النجاح، كانت محكومة بسوية وعينا لأبعادها الدولية والأممية، وهي سويّة كانت قاصرة بالطبع، إضافة الى ضعف الجاهزية البنيوية قياساً بالقوى المقابلة.

المواجهة العامة للديكتاتورية الاميركية:

       لقد انطلقت واشنطن بإصرار على طريق إقامة ديكتاتوريتها الدولية ، فاصطدمت كما هو متوقع بمقاومة جميع الكتل الأممية ، غير أن اصطدامها بكتلة الأمم الاسلامية ، والعرب منها في القلب، كان رئيساً ومتميزاً، وهي توقعت مثل هذا الاصطدام منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، وأعدت له مايتفق مع أهميته، حيث الكتلة الاسلامية تقع في معظمها ضمن حوض المحيط الهندي الذي يحتوي على معظم الثروات المادية والبشرية العالمية.

    كانت المواجهة مع الكتلة الاسلامية، وفي مقدمتها العرب، متداخلة ومعقدة ومتناقضة، حيث الاشتباك الاميركي مع هذه الكتلة يهدف الى تأمين الهيمنة على ثرواتها من جهة، ويهدف من جهة ثانية الى جعلها أهم مرتكزات نهوض واستقرار ديكتاتوريته الدولية.

     إن العرب والمسلمين هم أول وأهم ضحايا الديكتاتورية الاميركية، وهم في الوقت نفسه من تريدهم أول وأهم مرتكزاتها وعوامل ثباتها ونجاحها! غير أن هذا الذي يبدو عملاً هجومياً من الطراز الأول هو في حقيقته الجوهرية عمل دفاعي لاهجومي. إنه الهجوم ظاهرياً في معرض الدفاع عملياً. إن النظام الربوي الدولي الذي تدافع عنه واشنطن، بمساعدة الانكليز واليهود فقط، قد بلغ نهاياته القصوى، وهو يترنح فعلاً.

 

 

 

Hosted by www.Geocities.ws

1