عولمة النكوص والفساد والمخدّرات !

بقلم: نصر شمالي

تحتل تجارة المخدّرات اليوم المركز الثالث في التجارة الدولية، والمصارف الرسمية الكبرى قامت مؤخراً بغسل حوالي مئة وعشرين مليار دولار تخص هذه التجارة، مدخلة إياها أسواق المال الدولية الرسمية، ودافعة بأصحابها المجرمين على طريق أعلى المراكز السياسية والاقتصادية العالمية، ناهيكم عن أن المخدّرات تعدّ 116 نوعاً، وتتسبب في 112 نوعاً من الإصابات العقلية والنفسية التي تودي بعشرات بل مئات الملايين من البشر!

من أجل احتكار أسواق المخدّرات!

في أواخر الثمانينات انفجرت الأزمة بين الولايات المتحدة وباناما بسبب الانتخابات البانامية التي اعتبرها الرئيس الأميركي جورج بوش الأب غير نظيفة ونتائجها باطلة، فدفع بقوات المارينز لاحتلال بناما، وبعد أن قتل عدد كبير من الأبرياء في الشوارع، وقع الرئيس عمانوئيل نورييغا في الأسر، ونقل مخفوراً إلى الولايات المتحدة، حيث لا يزال نزيلاً في أحد سجونها! لقد اتهم نورييغا باللعب بالانتخابات، وأيضاً بالإتجار بالمخدّرات، فكان ذلك كافياً لاحتلال بلده من أجل إصلاح أوضاعها الفاسدة، غير أن ما أثار الدهشة والارتياب حينئذ هو معرفة الكثيرين بالصداقة الحميمة التي جمعت طويلاً بين الرئيسين الأميركي والبانامي، منذ كان كل منهما يحتل موقع مدير المخابرات في بلده، في مطلع الثمانينات، فهل اكتشف بوش متأخراً عيوب صديقه نورييغا؟!

 لقد عبّر نورييغا بردود فعل عنيفة عن انزعاجه من تلك المعاملة الأميركية المفاجئة التي اعتبرها في مستوى الخيانة! وعلى أية حال، إن باناما لا تعدو كونها مجرّد قاعدة أميركية، وهي كانت جزءاً من كولومبيا فصله الأميركيون لما فيه مصلحتهم، وبينما عرفت باناما كقناة بحرية دولية تحت السيطرة الأميركية، عرفت كولومبيا كحقل دولي هائل لإنتاج المخدّرات وتصديرها! إنها حقل يوازي في أهميته حقول النفط في فنزويلا مثلاً، وإن حروباً مروّعة تدور رحاها دائماً على أراضي كولومبيا، آخذة صورة وأبعاد الحروب الأهلية، يتألف أطرافها من "بروليتاريا" حقول المخدّرات، ومن أسيادهم الملاكين والتجار المدعومين من شخصيات دولية رئيسية تحتل أعلى المراتب في بلادها وفي العالم أجمع، والعمليات الحربية تبدو كأنما تهدف إلى إخضاع بروليتاريا المخدّرات وليس القضاء على المخدّرات وتجارتها! كأنما تهدف إلى ضبط وتنظيم أسواق المخدّرات والتحكم بريعها، وليس تدميرها! تماماً مثلما حرب النفط، في العراق مثلاً، تهدف إلى إخضاع أصحابه وضبط أسواقه، والتحكم بريعه، وليس إحراقه!

من جحيم الاستبداد إلى نعيم المخدّرات!

لم تمض فترة قصيرة على انهيار النظام الاستبدادي في تشيكوسلوفاكيا حتى نقلت وكالة رويتر للأنباء عن الشرطة التشيكية قولها أن تجار المخدّرات أقبلوا على براغ، وأغرقوها بالهيرويين من النوع العالي الجودة، وبأسعار أرخص بكثير من الأسعار في عواصم أوروبا الغربية. لقد كانت تلك طريقة احتفائهم بتحررها وعودتها إلى دنيا الديمقراطية! وسرعان ما تحوّلت براغ بين ليلة وضحاها إلى حلقة أخيرة في ما يسمي " طريق البلقان" الذي تعبره على مدار الساعة قوافل المخدّرات، لتصبح سوقاً نشطة مزدهرة، يتكاثر فيها الأثرياء بسرعة الجراثيم، بعد أن خرجت من ظلمات الاشتراكية إلى أنوار الرأسمالية، وامتلك شبابها حرّيتهم في استهلاك ما يشتهون من كميات الهيرويين بعد طول عبودية وحرمان! في حينه، قال الدكتور جيري كوموروس، نائب المدير في غرفة مكافحة المخدّرات التشيكية: لقد تحوّلت جمهورية التشيك بسرعة من بلد عبور للمخدّرات إلى مركز إقليمي لتسويقها، بعد أن صار العرض يفوق الطلب، وقد اختارت  منظمات المخدّرات براغ لفتح "فرع شمالي" لطريق البلقان يعوّض الطريق اليوغسلافي الذي أربكته الحرب، والمنظمات في تشيكيا مسلحة تسليحاً جيداً، وقد ارتفعت درجة الخطر إلى ألف بالمئة، بعد أن صار الغرام الواحد من الهيرويين يباع في وسط براغ بألف كراون، أي بخمسة وثلاثين دولاراً، بينما يباع في فيينا، على بعد 310 كيلومترات فقط، بألفين ومئتي شلن، أي بمئة وعشرة دولارات!

ذاك ما ذكرته الشرطة التشيكية، غير أن القضية لا تقتصر على براغ الجميلة، الوديعة، التي تحوّلت إلى نقيضها، بل هي قضية بلدان العالم أجمع، بشطريه المتقدّم والمتأخّر، بعد أن أصبحت الأسواق المظلمة بتجاراتها القذرة مرعية من قبل أعلى المستويات في الإدارات العالمية الرئيسية، فكأنما عصابات الأربعينات من أمثال كابوني، التي كنا نشاهدها في السينما، احتلت الآن أرفع المواقع في السلطة السياسية!

استبدال الاستبداد بالنكوص والفساد!

حسب مجلة "ديرشبيغل" الألمانية،  كانت الوظيفة الأساسية للمحللين والمراسلين الذين يعملون في وكالة الأنباء الألمانية الغربية تنحصر، لسنوات عديدة، بمراقبة الأحداث التي شهدها الاتحاد السوفييتي وبلدان حلف وارسو، وبعد الانهيار لم يتوقف عمل المحللين والمراسلين، فقد زال "العدو الاشتراكي" ليبرز عدو جديد هو منظمات المخدّرات التي انهمك المراسلون والمحللون في رصد نشاطاتها، وفي متابعة التنامي المذهل لثرواتها، ولكيفية غسل أموالها في أعظم المصارف الرأسمالية، الموثوقة والمحترمة دولياً، وإدخالها السوق المالية الدولية النظامية، بكل ما يترتب على ذلك من نتائج خطيرة سياسية واقتصادية واجتماعية! لقد تحرّرت تلك البلدان من "عبودية الاشتراكية" مقابل نكوصها الإنساني وانخراطها في ميادين محدّدة فرضها المرابون أسياد السوق الدولية الديمقراطية، وفي مقدمتها ميادين تعاطي المخدّرات والاتجار بها، وتجارة الرقيق الأبيض! لقد سعدت الرأسمالية الربويّة المتوحشة بخلاص تلك الكتل الضخمة من الأرواح المعذبة، ففتحت لها ميادين جميع الموبقات في جنانها، إلى أقصى مدى وبلا أية قيود، وفي ما بعد كتب المستشار الألماني هلموت كول إلى أقرانه الأوروبيين يحذّرهم من المافيات التي تسعى إلى انتزاع السلطة العليا بالكامل في جميع عواصم العالم، وقد فصّلنا رسالته في مقالة سابقة.

المخدّرات في فلسطين المحتلة!

الحكومات والجيوش الديمقراطية، التي تحتل بلدان الغير متطوعة من أجل تحريرها، لا تهتم بتحقيق ازدهار واحتكار تجارة النفط والسلاح فحسب، بل أيضاً بازدهار واحتكار تجارة المخدّرات. وعلى سبيل المثال لا الحصر، ففي فلسطين المحتلة، حيث واحة الديمقراطية المزروعة في بلادنا، كانت قيمة الكيلو غرام الواحد من الهيرويين النقي المستورد تبلغ فور وصوله خمسين ألف دولار، ليعاد بيعه على الفور بالجملة بسعر مئة ألف دولار، أما قيمة الكيلو غرام الواحد من الكوكايين النقي، لحظة وصوله، فهي أكثر من ثلاثمئة ألف دولار، يعاد بيعه بالجملة فوراً بضعف المبلغ! إنها أسعار الثمانينات وليست أسعار اليوم، وبالطبع فإن إحدى أهم وظائف الكيان الصهيوني هي استدراج المال، والمخدّرات ميدان رئيسي لنشاط الصهاينة إقليمياً ودولياً من أجل استدراج المال! إنهم يعيدون تصنيع الهيرويين فيحوّلون كل غرام واحد إلى عشرات الوجبات التي توزّع على عشرات المتعاطين. ففي تقرير أعدّته شرطتهم (قبل سنوات) جاء أن كل ثمانمئة كيلو من الهيرويين يتم تحويلها إلى أربعين مليون وجبة، وأن سعر الوجبة الواحدة يزيد عن ثلاثين دولاراً! إننا نعرض هنا أخباراً وأرقاماً قديمة، بغرض الدلالة وإدراك المعنى فقط، علماً أن العمليات تطورت كثيراً وسوف تتطور أكثر بما لا يقاس في ظل العولمة والديمقراطية الأميركية والسلام الصهيوني! وجدير بالقول أن المستوطنين اليهود الأشقياء ليسوا خارج النطاق، فالإدارات الصهيونية العليا تستغلهم مرتين: الأولى بتجنيدهم كمرتزقة قتلة، والثانية باسترداد مدا خيلهم العالية عن طريق إشاعة تعاطي المخدّرات وغير ذلك، فأغلبيتهم، في التحليل العميق، أشبه بالأقنان، وقد ذكرت الشرطة الصهيونية أن الاستهلاك المحلّي اليهودي من الهيرويين النقي، خلال سنة واحدة (في الثمانينات) زادت قيمته عن مليار دولار أميركي، وأن عدد المتعاطين زاد على ثلاثين ألفاً، فإذا أضفنا قيمة الكوكايين والحشيشة تجاوز المبلغ الإجمالي المليارين ونصف المليار دولار (في عقد الثمانينات) وزاد عدد المتعاطين أضعافاً مضاعفة بالطبع!

إنه العصر الأوروبي الأميركي ونظامه العالمي الفاسد وقد بلغ نهاياته! إنها العولمة، والديمقراطية على الطريقة الأميركية الصهيونية، واقتصاد السوق الدولية، المفتوحة للمخدّرات أيضاً، التي يعتبرونها جميعها كلاً واحداً لا يتجزأ، ولنا أن نتصور الأحوال المقبلة إذا سارت الأمور كما يشتهون، غير أنها لن تسير كذلك بالتأكيد، إلا إذا كانت الحياة الإنسانية هي التي بلغت نهايتها!

 

Hosted by www.Geocities.ws

1