الأفعى تتحوّل إلى تنّين !

بقلم: نصر شمالي

ليست الدولة الإمبريالية سوى الدولة المرابية بالضبط. وليس النظام الإمبريالي العالمي سوى النظام الربوي العالمي بالضبط. ولنا أن نتخيّل شايلوك المرابي، بطل مسرحية شكسبير الشهيرة، وقد أصبح حاكماً للبندقية! ما الذي سوف نتوقعه منه، وأي نظام سوف يقيمه ويديره؟ إن إحدى الدول العربية تدفع في هذه الأيام 26 دولاراً خدمة، أو فائدة، عن كل 10 دولارات استدانتها من البنك الدولي أو من صندوق النقد الدولي، أما حجم القرض فيبقى غالباً على حاله، ويتحوّل مع تراكم الفوائد إلى قيد في عنق الدولة المنكوبة إلى أمد غير منظور!

نظام يجافي الإنسان والحياة !

إن أي إنسان، مهما كان بسيطاً وساذجاً، لا يمكن أن يقتنع بما يقال في تبرير الجرائم الرهيبة التي ترتكب بحق الشعب الفلسطيني والشعب العراقي، وبحق غيرهما، فكل هذا القدر من التدمير والتقتيل لا يمكن أن تفسّره مقولة مكافحة الإرهاب التي صار تردادها يبعث على الغثيان! وأي إرهاب يمكن أن يقارن بمشهد الجنود النظاميين المدججين بالسلاح، يتصيدون بطائراتهم العملاقة فرداً واحداً أعزلاً، وفي طريقهم إليه لا يأبهون بأشلاء الأطفال التي مزقتها رشاشاتهم الثقيلة؟! أما الحقيقة، فهي أن المرابين ينظمون عمليات التدمير والقتل، بذريعة أو من دون ذريعة، لسببين رئيسيين تمليهما طبيعة العصر الأوروبي الأميركي ونظامه العالمي، أولهما: المزيد والمزيد من الاستحواذ على ثروات العالم أجمع والاستئثار بها، فلهم حسب فلسفة نظامهم كل شيء ولغيرهم لا شيء، وثانيهما: إرهاب الشعوب والأمم جميعها، وجعلها تقنع بمجرد وقف التدمير والتقتيل، بحيث لا يطالب العراقي سوى بالأمن العادي الذي يضمن حياته ناسياً ثرواته الهائلة المسروقة، وبحيث يقتنع الفلسطيني بمجرّد الحياة في معازل (كامبات) ناسياً وطنه، بل الجزء الذي وعد به من وطنه! ولكن، لنتصور أننا تنازلنا لهم عن ثرواتنا، وعن أجزاء من بلادنا، وتهاونا في أمر استقلالنا وسيادتنا، فهل ستتوقف سياسة التدمير والتقتيل؟ إنها لن تتوقف أبداً، ولسوف تتواصل بطريقة أو بأخرى، فالإدارة الأميركية أعلنت جهاراً نهاراً أنها اعتمدت أسلوب الحرب الوقائية (علماً أنها كانت تمارسها من قبل طوال الوقت) وأسلوب الحرب الوقائية هو، بكل بساطة، تدمير الإنسان الآخر باستمرار، ليس لأنه فعل، أو أنه يفكر أن يفعل، بل لأنه يمكن أن يفكر بفعل ما! إن مهمة الحرب الوقائية التي أعلنتها واشنطن هي حرمان الإنسان مسبقاً من إمكانية التفكير بالتفكير! إنها عقلية نظام تقوم فلسفته على مجافاة الإنسان والحياة.

نظام محكوم بظروف ولادته

إنه لمن السذاجة التعويل على فضائل وأخلاق هذا الحاكم الانجلوسكسوني أو ذاك، وكذلك من السذاجة التعويل على إسقاطه، فالقضية ليست قضية أفراد عالميين بل نظام عالمي تقوم فلسفته وقوانينه وسياساته على نفي الآخر، وينهض كيانه، منذ ولادته قبل خمسة قرون، على هذا الأساس. إن الأمر اليومي لقادته هو: أقتل! فهو يمجدّ التدمير والقتل لأنهما ضمانة استمراره، ولو أن المجال يتسع هنا، لعرضنا نصوصاً وثائقية تؤكد ذلك. لقد أبيدت مئات ملايين البشر، عن سابق تصوّر وتخطيط وتصميم، من أجل اكتمال هذا النظام ونهوضه بالصورة التي هو عليها، والجميع يعرفون اليوم أن أربعين ألف جندي من القوات الأميركية في العراق هم من الأجانب المقيمين في الولايات المتحدة، الذين يحملون ما يسمى "غرين كرت"، حتى أنهم لا يتكلمون اللغة الإنجليزية. لقد وعدوهم بالجنسية مقابل الموت في العراق!

وهكذا، فإن ما يجب التعرف عليه هو العصر الأوروبي الأميركي ونظامه العالمي، وليس بريطانيا وأميركا وحكومتيهما. فمنذ اندماج رأس المال الصناعي برأس المال المالي، أواخر القرن التاسع عشر، أخذ النظام العالمي شكله الحالي المفزع كتنّين متعدّد الرؤوس، وصارت الثروة هي السندات المالية بغض النظر عن السلع التي أنتجتها، وقد اكتملت مقومات الإمبريالية البريطانية في عام 1895، أما الأميركية ففي عام 1898، ولنلاحظ هنا أن مؤتمر بال الصهيوني اليهودي انعقد في تلك اللحظة التاريخية، ليس قبلها وليس بعدها، فهو فرع رئيسي نشط من فروع نظام الربا العالمي لا أكثر ولا أقل. والانتقال إلى مرحلة الإمبريالية، أي مرحلة الربا الصريح المقونن، لم تكن سوى تطوراً واستطرداً لما بدأه النظام منذ ولادته، أواخر القرن الخامس عشر وأوائل السادس عشر. لقد شملت التطورات والاستطرادات التي نعيشها اليوم مجمل تفاصيل وجوانب الحياة العالمية، حيث الأفعى لم تبدّل جلدها فحسب، بل نبتت لها مخالب وقرون وأجنحة، وصارت تنّيناً هائلاً تجسّده هذه الشركات المرابية، المتعدّدة الجنسيات، التي تملك كل شيء، لكنها لا تملك ذرّة من ضمير أو رحمة أو شفقة!

لندن الرائدة، ولندن التابعة

في عام 1895، كان الإنجليزي سيسيل رودس يقول:"لكي ننقذ أربعين مليوناً من سكان المملكة المتحدة من حرب أهلية مهلكة ينبغي علينا، نحن الساسة طلاب المستعمرات، الاستيلاء على أراض جديدة وإرسال فائض السكان إليها، والاستحواذ على ميادين جديدة لتصريف البضائع التي تنتجها مصانعنا ومناجمنا"!

كانت إنكلترا تتحول حينئذ من دولة صناعية إلى دولة دائنة، أي مرابية، وكان رأس المال البريطاني، الموظف في الخارج، يتوزع بالدرجة الأولى على البلدان التابعة أو الموالية، فتعطى القروض لمصر والصين واليابان وبلدان أميركا الجنوبية، أما الأسطول الحربي البريطاني فيلعب دور الشرطي القضائي الذي يضمن جباية الفوائد قبل القروض، ويحمي "حقوق" المملكة المتحدة من سخط الدائنين.

وعلى الوجه الآخر كانت بريطانيا رائدة أيضاً في ميدان تجنيد ضحاياها أنفسهم في خدمة مشاريعها الاستعمارية، وقد كتب هوبسون يقول:"إن القسم الأعظم من المعارك التي استولينا بواسطتها على إمبراطوريتنا الهندية قامت بها جيوشنا المشكلة من الجنود المحليين، وكذلك فإن الجنود المحليين خاضوا معظم الحروب أثناء اجتياح أفريقيا"!

غير أن بريطانيا تحوّلت إلى تابعة بعد أن تقدمتها الولايات المتحدة، التي هي مجرّد استطالة أوروبية، انجلوسكسونية تحديداً. وعندما كانت المعارك الحربية بين الإنكليز و الأميركيين لا تزال مستمرة في القارة الأميركية، كتب تيودور روزفلت مايلي:"آمل أن ينفجر الصراع عما قريب، فقد أقنعتني صيحات الاحتجاج التي يطلقها أنصار السلام أن البلاد تحتاج إلى الحرب"! وكتب أيضاً مخاطباً الأميركيين:"إن قدرنا هو أمركة العالم. تكلموا بهدوء، واحملوا عصاً غليظة، وعندئذ يمكن أن تتوغلوا بعيداً"!

الخلاص بنهوض الأمم المظلومة

نتيجة لتفاقم عمليات الربا أوصل النظام العالمي كتل أمواله الضخمة إلى طريق مسدود لم تعد الحروب قادرة على فتحه، فالنضح والتبديد والإتلاف العشوائي لثروات الأمم جعلها جميعها تقريباً مكبّلة بأصفاد ديون هائلة لا يحقق سدادها بيع بعض الدول المديونة بقضها وقضيضها! إن دولة مثل هندوراس كانت بالأمس مديونة بما يعادل 250 % قياساً بمنتوجها الوطني كله! وكان قد صار واضحاً تراكم رؤوس الأموال الضخمة وكسادها في المراكز، لتشكل تخمة مالية ربما أصبحت قاتلة لأصحابها المرابين، بينما على الجانب الآخر يتوالى إعلان الدول الفقيرة إفلاسها وعجزها في ميداني الاستدانة والتسديد! إنه استعصاء تاريخي، عالمي، لن تعالجه هذه الحروب الشنيعة الوحشية، بل ستفاقمه. إن الحل والخلاص سيتحقق فقط بنهوض الأمم المظلومة عبر المقاومة، فهذا النهوض هو الكفيل بتغيير نظام الربا العالمي الذي لم يعد مقبولاً حتى في مراكزه بالذات.

 

Hosted by www.Geocities.ws

1