عن المؤتمر القومي العربي

نصر شمالي

ملاحظات مقدمة إلى الأمانة العامة

بيروت 12- 13 /9/2003

 

1.  تأسس المؤتمر القومي العربي في لحظة تاريخية بدت فيها الأمة كأنما هي موشكة على الانهيار تحت ضغط الحروب العدوانية بمختلف أنواعها، وموشكة على التسليم للإملاءات الأميركية الصهيونية في جميع ميادين حياتها، فجاء تأسيسه في حد ذاته موقفاً قومياً معبراً عن العكس. لقد كانت مبادرة شجاعة وضرورية في وقت ندرت فيه المواقف الشجاعة الضرورية، وإنه لمن حق المبادرين المؤسسين علينا أن نحفظ لهم دائماً هذه المأثرة التي تستحق التسجيل والتقدير والاحترام.

2.  كذلك، تأسس المؤتمر في لحظة تاريخية بدا فيها العصر الأوروبي الأميركي ونظامه العالمي في حالة من الخواء الأخلاقي والعجز الإبداعي والإفلاس السياسي، وبدت أزماته نوعية نهائية وليست روتينية عادية، فهي عميقة شاملة مستعصية على أي حل طبيعي منطقي. وهنا أيضاً كان تأسيس المؤتمر مبادرة قومية إنسانية جاءت في وقتها، لأنه أخذ على عاتقه مهام نوعية استثنائية أولها الارتقاء إلى مستوى مرجعية قومية وبلورة مشروع حضاري إنساني، وهما مهمتان رئيسيتان ضروريتان، ملحّتان قومياً وإنسانياً، حيث العالم يجتاز مرحلة انتقالية تستدعي التخلص من علاقاته القديمة البالية والظالمة، والتأسيس لعلاقات جديدة متقدمة وعادلة.

3.  لكن الذي حدث هو أن نشاطات المؤتمر، منذ تأسيسه قبل أربعة عشر عاماً وحتى اليوم، توقفت عند حدود تحقيق لقاء سنوي عربي، كان مقدّراً له أن يكون وسيلة فتحوّل إلى هدف، ناهيكم عن أن مثل هذا اللقاء، على أهميته، ليس فريداً، فهناك تجمعات عديدة مشابهة على الساحة العربية.

4.  إن للقاء السنوي في حدّ ذاته فوائده بالطبع، فهو يتيح للمشاركين تبادل الآراء والخبرات والمعلومات في ردهاته، ويمكنهم من التعرف على بعضهم وجهاً لوجه، ويتيح لهم في جلساته إلقاء الكلمات، وإن كانت في معظمها مبتسرة ومكررة ولا علاقة لها عموماً بوظيفة المؤتمر، ثم إنه يخرج في النهاية ببيان سياسي ختامي لبق يؤكد على الثوابت القومية التي تحظى بشبه إجماع، فهل هذا هو الهدف الذي تأسس من أجله المؤتمر؟ إنه لمن الواضح أن مهام المؤتمر بصورتها الحالية لا ترقى إلى مستوى مهام حزب نشط، وفي جميع الأحوال فإن هذه المهام ليست مهامه الرئيسية التي نصت عليها وثائقه.

5.  لقد نصت أنظمة المؤتمر على أن المشاركين ينتسبون إليه بصفاتهم الشخصية، غير أن ذلك لا يعني استبعاد الحزبيين و لا يشترط تخليهم عن صفاتهم العامة الأخرى، فالمرجعية المنشودة يجب أن تنبثق من الحياة العامة المعاشة، ولذلك هي بحاجة إلى مشاركة الخبرات الحزبية الميدانية من أجل تحقيق ذاتها والنهوض بوظائفها الاستراتيجية التاريخية، وهذه المرجعية إذا ما قدّر لها أن تنهض فسوف تكون متكاملة مع العمل السياسي اليومي الميداني الذي هو من اختصاص الأحزاب. وبديهي أن الحزبيين يمكن أن يكونوا أعضاء في المرجعية، ولكن يتوجب عليهم التمييز بحزم بين طبيعة مهامهم فيها وطبيعة مهامهم في أحزابهم.

6.  في الوضع الراهن، تحوّلت الدورات السنوية للمؤتمر، بصورة غير مباشرة، إلى ملتقى لمختلف الأحزاب والتيارات والهيئات، تنعكس فيه إيجابياتها وسلبياتها، وإذا كانت ثمة مظاهر أزمة في المؤتمر فإنها أزمات الأحزاب منقولة إلى ساحته، حتى أن البعض يلحّون على تحوّله إلى ما يشبه الحزب، بينما بعض مؤسسيه يجهدون لاستمراره كمجرّد ملتقى، أما الأهداف الكبرى التي تأسس المؤتمر من أجلها فقد تجمّدت نصوصاً في وثائقه، يشار إليها ولا يعمل من أجلها.

7.  والحال أن بنية المؤتمر العضوية والفكرية تتراجع عاماً بعد عام، بعد أن التبست معادلة الانتساب التي توفق بين الصفة الشخصية كشرط للعضوية وبين الصفة العامة كضرورة من ضرورات عمل المؤتمر، فأدى الالتباس إلى ضياع معنى المعادلة، وصار الخطاب الغالب في الجلسات حزبياً، وكذلك النشاط في الأروقة. وقد أسعدني أن أتيح مؤخراً للإخوة القادمين من الولايات المتحدة التحدّث في قضايا لها علاقة وثيقة بوظائف المؤتمر المعطلة، لكن ذلك أحزنني وأغضبني أيضاً، لأنه تحقق تحت ضغط العمليات الأميركية الوحشية المستجدّة وليس بسبب الحاجة المعرفية، حيث هناك من لا يريد رؤية العدو على حقيقته ورؤية واشنطن التي تقوده على حقيقتها. إن واشنطن بصلفها المتطور، واحتقارها للجميع، هي التي أقنعت البعض بالاستماع لإخواننا القادمين من أميركا.

8.  ويتوجب عليّ القول هنا، موضحاً سبب سعادتي وغضبي في آن واحد، أنني واظبت منذ عشر سنوات على محاولة لفت الإنتباه إلى الطبيعة التاريخية العالمية لهذا العصر الأوروبي الأميركي ونظامه، وإلى ضرورة أن تكون عملية تعريته هي شغلنا الشاغل، وإلى ضرورة الارتقاء بسوية المؤتمر وسوية همومه وخطابه، لكني كنت أصطدم، مثل غيري، بالقمع الناجم عن آلية عمل الدورات، فلم أتمكن أبداّ، ولو مرة واحدة، من عرض وجهة نظر متكاملة، وصرت أكتفي بورقة مقتضبة أوزعها مطبوعة ولا أقرأها، مجنباً نفسي حرج ضجر المستمعين ومقاطعة المنصة.

9.  منذ سنوات صرت مقتنعاً أن المؤتمر عاجز عن النهوض بالمهام الرئيسية التي تأسس من أجلها، ولم أجد ما يبرر عدم انسحابي سوى اللقاء بالإخوة العرب، فهو يستحق العناء والبقاء في جميع الأحوال، إضافة إلى تقديري للمؤسسين الذين يستحقون احترام رغباتهم، لكنني أصارحكم أنني مازلت أميل إلى عدم تحمل مسؤولية لست مقتنعاً بإمكانية تجاوزها للعمل الحزبي الذي تجاوزته شخصياً بعد أن قضيت فيه عمراً، فقد انتهى زمن الأحزاب بالصورة التي عرفناها، ولا يعقل أن يتحول المؤتمر إلى مسرح لبقاياها بدلاً من أن يمهّد لتطورها، ويمهّد لظهور الحركات الأرقى والأجدى، التي بدأت طلائعها تظهر على الساحة الدولية.

10.ليس صحيحاً على الإطلاق اقتصار مهمة المؤتمر على استعراض حال الأمة بصورته السياسية الراهنة، وعلى إصدار البيانات السياسية والدعوة إلى المظاهرات، فهذه مهمة الأحزاب بالدرجة الأولى وليست مهمته بالدرجة الأولى، أما حال الأمة الذي يجب أن ينشغل به المؤتمر فهو حالها التاريخي، أي إعادة اكتشاف موقعها عبر العصور، وتحديد موقعها في العصر الحالي وفي المستقبل. إنها مهمة تاريخية، معرفية إبداعية، قوامها المراجعة والاكتشاف والتصحيح، بعقولنا ومعاييرنا وليس بعقول الأجانب ومعاييرهم، وإلا فكيف يمكن للمؤتمر أن يصبح مرجعية قومية؟

11.إن الأزمة العامة المفتوحة منذ عشرات بل مئات السنين ليست في جذرها سوى أزمة معرفية، فمعارفنا الحالية مستعارة في معظمها، إما من ماضينا القديم أو من الأجانب الذين احتكروا إنتاج المعرفة وصياغتها وتسويقها عبر مركزية عالمية صارمة، وإن ما نفتقر إليه كأمة، وما لن تقوم لنا قائمة من دونه، هو الإبداع المعرفي الذاتي، المستقل والشجاع، القادر على مراجعة التاريخ بعقل مستقل، من دون القطع مع معارف ماضينا ولا مع معارف العصر الحالي، وهذه مهمة المؤتمر الأولى، أما المهام السياسية الآنية فتأتي بعدها.

12.إن من واجبات المؤتمر تشكيل فرق من المراجعين الشجعان، المستقلين بعقولهم وإراداتهم، ينكبون على مراجعة التاريخ العام للبشرية برؤية سياسية، فليس صحيحاً أبداً أن أوروبا، واستطالتها الأميركية، كانت وستبقى مركزاً لجميع العصور البشرية، وما يجعل هذه المهمة واقعية وملحّة أن العالم يجتاز اليوم تلك المسافة القاحلة التي تفصل بين عصرين، ولن نكون شركاء في العصر القادم، وسنفقد مكانتنا فيه كما فقدناها في هذا العصر، إذا لم نسهم بعقولنا المستقلة في مراجعة الماضي وفي تصوّر المستقبل، إن المراجعة والاكتشاف، والتصحيح والإبداع الذاتي، هو الذي يؤسس ويمهّد لنهضة عامة في بنية الأمة.

13.إن إعادة اكتشاف الأمة وإعادة اكتشاف العالم مهمة استراتيجية سياسية من الدرجة الأولى، وهي لا تعني الاستغراق المنعزل في الأبحاث النظرية والفقهية والآثارية، بل تعني الإعداد لبيان تاريخي سياسي يوحّد رؤية الأمة لتاريخها ومستقبلها ولتاريخ العالم ومستقبله، ويحدّد طرق وأهداف الكفاح ببعديه العربي والأممي. لقد فعل الإنكليز والأميركيون واليهود ذلك من أجل تحقيق أغراض خبيثة ظالمة، فوحدّوا رؤية شعوبهم بناء على بيانات ملفقة، وكذلك فعل بعض الأوروبيين المنصفين في القرن التاسع عشر، حيث أعدّوا بياناً (البيان الشيوعي) تضمن اكتشافهم وصياغتهم لتاريخ العالم وتاريخ أممهم، فغدت تلك الوثيقة التاريخية أساساً متيناً لبرامج سياسية وحركات تحررية غطت الأرض من أقصاها إلى أقصاها على مدى قرن ونصف من الزمن. إن إنجاز مثل هذا النموذج، وليس مضمونه الذي يخضع بدوره للمراجعة، هو ما نحن بأمس الحاجة إليه، وهو ما يفترض أن يكون مهمة المؤتمر الأولى.

14.إن نجاح المؤتمر في الخروج من الإشكالية التي دخل فيها، والعودة إلى النقطة التي انطلق منها، يقتضي تحديد مهماته ووظائفه الاستراتيجية التاريخية بحزم، ويقتضي إعادة النظر في بنيته باستقطاب المفكرين المستقلين عقولاً وإرادات، وتكليفهم بلورة مهامه ووظائفه، وجعل الصلة وثيقة بين الجهد الفكري المنظم وبين دورات المؤتمر السنوية، حيث يعدّ الأكفاء تقريراً عن حال الأمة والعالم، متماسكاً تاريخياً ومرحلياً، ينير طريق أعضائه والقوى التي يمثلونها في أقطارهم، ويشكل مرجعاً ومعياراً للمواقف السياسية الآنية.

Hosted by www.Geocities.ws

1