عن العدو، والنظام العربي، والليبرالية الجديدة

بقلم: نصر شمالي

يدرك عموم الناس بالفطرة، إضافة إلى التجربة، أن المفاوضات المباشرة مع العدو المحتل لا تكون مبّررة إلا في مراحل متقدمة من الصراع، وبعد أن تبلغ القوى الميدانية لكلا الطرفين مستوى معين من التكافؤ تجعل المعتدي مرغماً على الانصياع إلى هذا الحد أو ذاك، أما قبل ذلك فإن الاتصالات والمفاوضات المباشرة تكون تماماً في مصلحة المعتدي المحتل، لأنها تغريه بالمزيد من السلب والنهب، وتجعله يحقق أهداف عدوانه بسهولة مفرطة لا تعترضها أية مقاومة. ولعل الاتصال الوحيد المبّرر مع المحتل الغاصب هو ذاك الذي يتحقق عبر طرف ثالث يقوم بالمهمة لأغراض ميدانية إنسانية تحدّدها وتنظمها الأعراف والشرائع والقوانين.

مثلث مثل مثلث برمودا !

غير أن الهوان والتهاون بلغ ببعض الناس في بلادنا حدّاً جعلهم يتجاهلون البديهيات في العلاقات الإنسانية، ويقدمون على ارتكاب ما هو في مستوى الخيانة العظمى، فالأمة تبدو اليوم كأنما هي وقعت في حمأة مثلث يشبه ما يسمى بمثلث برمودا المهلك، بين العدو المحتل الذي لا يعقل ولا يرحم من جهة، وبين النظام العربي بهوانه وتهاونه وتفريطه واستبداده من جهة ثانية، وبين التيارات الليبرالية التي تأخذ وضعية المعارضة، وتتظاهر بالشفقة على الأمة المضطهدة لتبرر الإستقواء بالعدو الأميركي الصهيوني!

إن الضلع الأول من أضلاع مثلث الحمأة هو العدو الأميركي الصهيوني، بعقليته الشايلوكية الربوية المتأصلة التي لا ينفع معها أبداًُ حوار منطقي، ولا تنصاع سوى لمنطق القوة المجرّدة، فهي تعتبر نفسها كل شيء وتعتبر ما يفكر به الآخرون ويؤمنون به ويقولونه لا شيء، وإذا كان لابد من أحدث الدلائل على ذلك فلننظر إلى الإدارة الأميركية في طرائق تعاملها مع المستوطنات اليهودية ومع الجدار العازل الذي يقيمه اليهود؟ إنها تبدي أسفها وتمنياتها، وليس اعتراضها وشجبها! لكنها تجنّد في الوقت نفسه كل طاقاتها من أجل اغتيال طفل يقذف دباباتها بالحجارة، وتسحق مواطنة أميركية بالجرافة، لأنها حاولت منع الجرافة من هدم بيوت الأبرياء العزّل! وهكذا فإن المفاوضات مع هذا العدو، في ظل الأوضاع الراهنة غير المتكافئة، سوف تغطي جرائمه ضدّ الأطفال وتدفعه إلى التمادي في قتلهم.

والضلع الثاني من أضلاع مثلث الحصار ضد الأمة هو النظام العربي الرسمي الذي رهن وجوده ومصيره بمجمله لإدارة هذا النظام العالمي الاحتكاري الربوي، متوهماً أنه يمكن أن يكون شريكاً في شبكتها الدولية، جاهلاً أن هذه الإدارة تعتبر ثروات العالم من حقها وحدها، فلها كل شيء وللآخرين لا شيء، وها هو النظام العربي الرسمي يكتشف اليوم أنه قطع شوطاً طويلاً على طريق الضلال، وصار جزءاً لا يتجزأ من قوى الإدارة الدولية، لا يملك سوى الانصياع التام، ومع ذلك فهو عرضة للتغيير مثل آلة معطوبة لم تعد صالحة للخدمة!

أما الضلع الثالث من أضلاع مثلث الحمأة فهي هذه التيارات الليبرالية، من المثقفين والاقتصاديين والسياسيين، وبخاصة منهم أولئك الذين كانوا محسوبين على الاشتراكية! إن هؤلاء يستقوون اليوم صراحة بالأميركيين ضدّ الاستبداد! إنهم لا يمانعون، بل يرغبون في أن يتحقق خلاصهم على أيدي الأميركيين، ويسيرون على خطا تلك المعارضة العراقية التعيسة! إن شعارهم هو تحقيق الديمقراطية ولو بمساعدة الأجانب، ولو بمساعدة الشياطين! غير أن الأجانب والشياطين لا يساعدون أحداً على تحقيق ديمقراطية حقيقية، بل إن الديمقراطية التي يمكن أن يساعدوا على تحقيقها تفوق الاستبداد تمزيقاً وتدميراً وتعذيباً للأمة، وهو ما تبرهن عنه أوضاع بعض الدول العربية والإسلامية التي تعتمد الديمقراطية بتوجيه ورعاية الأميركيين!

المقاومة طريق الديمقراطية الوحيد

ولكن، كيف يمكن لإنسان ديمقراطي سوي أن يتوقع الخلاص الديمقراطي على أيدي الاحتكاريين المرابين القتلة، الذين أقاموا الدنيا حين عرض التلفزيون العراقي صوراً لعدد من الجنود الأميركيين الأسرى في بدايات الحرب، ثم راحوا يتفننون في عرض صور الأسرى العراقيين المدنيين المكبلين، المرغمين على التمدّد ووجوههم في الرغام، ويتفننون في عرض جثث القتلى العراقيين الغارقة بدمائها، وقد مزقها الرصاص الأميركي؟

وكيف يمكن لنظام حكم وطني سوي أن يتوقع الخلاص عن طريق المفاوضات المباشرة مع الاحتكاريين المرابين من دون مؤازرة شعبه الحرّ، الواعي واليقظ، الذي يمنحه ثقته وتأييده ودعمه؟ كيف يمكن إجراء المفاوضات قبل استنهاض قوى الأمة الكامنة، المعنوية والمادية، وقبل أن يتحقق مستوى كافٍ من التكافؤ الميداني القتالي، ومستوى من التفوق السياسي الضروري، الذي يبرهن عن نفسه بالتفاف الأمة حول قياداتها طواعية، وبتفهم الأمم الأخرى لعدالة قضية هذه الأمة؟

وهكذا، فإن الطريق الوحيد إلى الديمقراطية هو طريق الحرية. إن المقاومة هي التي تحقق التحرير والاستقلال. غير أن أعباء المقاومة لا تنهض سوى على عاتق الأحرار. إن التحرير والاستقلال لا يتحققان سوى بالمقاومة.وإن الديمقراطية، التي هي مجرّد تنظيم العلاقات الداخلية في دولة ما ، لا يمكن تحقيقها جدّياً، وليس صورياً، سوى في مجتمع يمتلك حريته واستقلاله، فلا ديمقراطية قبل التحرير والاستقلال، يتحققان بجهود وتضحيات المقاومين الأحرار من أبناء الأمة.

خطورة الضلع الأحادي البعد!

يجدر بنا التوقف هنا قليلاً عند أولئك المأخوذين بنظم المرابين الاحتكاريين وبديمقراطيتهم، لأنهم بالفعل الضلع الأشد خطراً! فهؤلاء يمارسون نشاطاتهم من مواقع التظاهر بالشفقة على الأمة من جهة، وانطلاقاً من تكوينهم الثقافي الأحادي البعد من جهة أخرى. إن هؤلاء الليبراليين الجدد يغزلون على منوال إدارات هذا العصر الأوروبي الأميركي الظالم، الذي أقام دور الأوبرا ضدّ دور العبادة، وأصدر الكتب الأدبية والفنية ضدّ الكتب المقدسة، واعتمد البعد العقلي المادي ضدّ البعد الروحي، وبالطبع، نحن لا نعترض على إقامة دور الأوبرا، ولا على الإصدارات الأدبية، ولا على العقلانية والعلمانية، بل نعترض على أحاديتها وأنانيتها، وعلى وظائفها وعدوانيتها، وعلى أهدافها غير النزيهة عموماً، حيث الوضع الطبيعي هو التكامل بين المادي والروحي، وليس التضاد، وحيث لا يوجد أخطر من إنسان أو نظام أحادي البعد، سواء أكان بعداً أحادياً مادياً أم كان بعداً أحادياً روحياً، غير أن وحدانية البعد المادي هي الأسوأ والأخطر، لأن صاحبها ينطلق من ذاته وحدها، ولا يردعه رادع على الإطلاق! ولو دققنا في جوهر المواقف الديمقراطية لليبراليين الجدد، لوجدنا أنهم يهربون من أمتهم بوجهها الإسلامي، ويلجأ ون إلى الأميركيين بعد أن فقدوا السوفييت!

غير أن ما يثير السخرية هو أن أولئك المتطلعين إلى النجدة من الديمقراطية الأميركية يخطئون مرتين: أولاً، عندما يتجاهلون عمداً وجهها الحقيقي كديكتاتورية مستبدّة مقنّعة بقناع الديمقراطية. ثانياً، عندما لا يرون أنها بلغت الذروة، وبدأت مرحلة الانحدار السريع!  لقد انكشفت حقيقة الديمقراطية الأوروبية الأميركية بعد أن أسفرت عن وجهها تماماً كديكتاتورية دولية، وهذا الإسفار يبدو في ظاهره عملاً هجومياً من الطراز الأول، غير أنه في حقيقته عمل دفاعي لا هجومي، حيث هذا النظام العالمي الاحتكاري الربوي يترنّح بعد أن بلغ غاياته القصوى، أي نهاياته!

 

 

Hosted by www.Geocities.ws

1