أهوال الأصولية الأوروبية الأميركية !

بقلم : نصر شمالي

اذا كانت الأصولية هي ادعاء طرف واحد أنه يمتلك الحقيقة لوحده ، وأن من حقه احتكار المعرفة لوحده ، فيقرّب ويقصي ويحرّم ويحلّل ويسمح ويعفو ويقتل على هذا الأساس ، فهل يمكن قصرها فقط على المواقف والسياسات الدينية ؟ وما هو حق النقض ( الفيتو ) المحتكر الذي أعفى اسرائيل من كل جريمة ان لم يكن أصولية ؟ وما هي المماطلة في قبول تركيا عضواً في الاتحاد الأوروبي ان لم تكن أصولية ؟ وما هو حصار كوبا والعراق وغيرهما ، ومنعهما بالقوة من تطوير برامجهما السلمية والحربية ان لم يكن أصولية ؟ وما هو اعطاء اليهود كل الحق ، بما في ذلك ابادة الأطفال الرضّع ، مع أنهم لا يملكون أي حق في فلسطين ، ان لم يكن أصولية ؟ وما هو حرمان الفلسطينيين من جميع حقوقهم ، حتى من حق اعاقة سكاكين الجزارين اليهود ، ان لم يكن أصولية ؟!

          ان الأصولية ، اذا سلّمنا بصحة هذا المصطلح ، ليست فقط ردود فعل المظلومين الدينية التي لا تستحق الذكر قياساً بأفعال الظالمين التي أنتجتها ، بل هي أيضاً الأصولية العلمانية التي تعتنقها أقوى وأغنى حكومات العالم ! وما هي هذه السياسات الغربية ، العلمانية ، وخاصة الأميركية الانكليزية ، التي تحتكر لوحدها منجزات العلوم الحديثة ، وتهدّد بالابادة كل أمة تحاول فقط السير على منوالها ؟

          ليست العلمانية في جوهرها سوى الوجه الحديث للأصولية الأوروبية الأميركية القديمة في تطورها من دينية الى علمانية ، وواشنطن التي بلغت اليوم ذروة صعودها وجبروتها ليست سوى نتاج خمسة قرون من صعود وجبروت تلك الأصولية المتعصبة مذهبياً والمتعالية عرقياً !

جذور الأصولية الأوروبية الأميركية :

          منذ نهاية العصر العربي الاسلامي وبداية العصر الأوروبي الأميركي ، أي منذ سقوط غرناطة واكتشاف أميركا عام 1492، بدأت سيادة الأصولية الأوروبية الأميركية عالمياً . لقد التف البرتغالي هنري الملاح حول مراكش واذا به يكتشف ويا للعجب سواحل أفريقية الغربية ، التي اكتشفها الفينيقيون وتعاملوا معها تجارياً قبل آلاف السنين ! واذا بالبابا نيقولاووس الخامس يبعث اليه من روما رسـالة جاء فيها : " ان سرورنا لعظيم أن نعلم بأن ولدنا هنري أمير البرتغال ، وهو يسير على خطا والده العظيم الذكر يوحنا ، وتلهمه الغيرة التي تملأ الأنفس كجندي باسـل من جنود المسيح ، قد اندفع – باسم الله – الى أقصى البلاد وأبعدها عن مجال علمنا (؟!) وأنه أدخل الى أحضان الكاثوليكية أولئك الغادرين من أعداء الله وأعداء المسيح ، مثل العرب والكفرة " !

          انه لمن الواضح ذلك الجهل المريع بالعالم المتمدن آنذاك ، وتلك الغطرسة الأصولية ، الضيقة الأفق ، التي تعتبر كل ما هو خارج الكاثوليكية مجرد أغيار غادرين كالذئاب ! وعندما هاجموا شعب الداهومي الأفريقي ، على سبيل المثال ، عاملوه كما تعامل قطعان المواشي ، بل أسوأ ، حيث كان مصدراً لتزويد البرازيل وغوايانا والمارتينيك وسان دومينغ بالعبيد ، وهو الشعب الذي كان متقدماً ومتمدناً في حينه أكثر من بعض الشعوب الأوروبية ، يتعاطى التجارة مع العرب في الشمال ، ويملك زراعة متقدمة ، وحكومة تفرض الرسوم الجمركية في الأسواق التجارية ، وتجبي الضرائب ، وله نقاباته الحرفية التي تضم صناعييه المهرة ، وجمعياته التعاونية ، ومدارسه ومستشفياته ، ودينه الاسلامي ، غير أن ذلك كله لم يشفع لشعب الداهومي ، وتقرّر مصيره كعبيد يشحنون الى أميركا ! لقد شحنوا الى البرازيل ما بين العامين 1570-1670 أكثر من أربعمئة ألف انسان ، بمعدل أربعة آلاف في العام الواحد ، ولم يتجاوز معدّل حياة ذلك الانسان في البرازيل السنوات السبع ، فنجم عن تلك الحقبة الرهيبة ، حقبة المتاجرة بشعوب أفريقيا وبيعها كعبيد ، هلاك ما ينوف عن مئة مليون انسان أفريقي . ان الأوضاع الكارثية المأساوية في أفريقيا اليوم ليست سوى نتاج تلك الأصولية الابادية الأوروبية الأميركية الفظيعة .

الأصولية ومرحلة الانتقال اللوثرية :

          في البدايات المبكرة لنهوض العصر الأوروبي الأميركي ونظامه العالمي قادت الكنيسة الكاثوليكية الحملات التدميرية الابادية ضدّ عالم الحرفة والتجارة العربي الاسلامي ، فكان رهبانها على رأس تلك الحملات التي توجهت أيضاً الى جنوب شرق آسيا ، مدمّرة طرق التجارة البحرية الدولية المنظمة الآمنة ، ومغلقة ثغور جبل طارق وباب المندب ومضيق هرمز ، لتفرض على الأمة العربية حصاراً محكماً مازال مستمراً حتى يومنا هذا . لكنها وهي تسهم عن غير قصد في التأسيس للنظام الرأسمالي الاحتكاري العالمي ، كانت تؤسس كذلك لظهور قوى جديدة تتجاوز ديكتاتوريتها ومحاكم التفتيش التابعة لها ، التي أبادت عشرات الألوف من الأوروبيين ذبحاً وحرقاً بسبب مخالفتهم لمذهبها ، فقامت ضدها مختلف الثورات الداعية الى سلطة العقل والمعرفة ، والى نشر الالحاد كطريق للخلاص من سلطة الكنيسة ، كذلك ظهرت اللوثرية البروتستانتية التي مهّدت بدورها لازدهار المشـاريع الرأسـمالية وانتصار النزعة الفردية .

          لقد وضعت اللوثرية حجر الزاوية للأصولية الغربية ، والأسس المتينة للديانة المالية الاقتصادية الأميريكة المعاصرة ، ونحن لا ندري ان كان مارتن لوثر ( 1483- 1546 ) قد تنبأ بما سوف يترتب على مذهبه من اجتهادات شايلوكية ربوية وسياسات دولية مدمّرة ! لقد اعتبر لوثر الملكية معياراً للتفريق بين الانسان والحيوان ، فهل كان يرى سقفاً أو حدّاً لها ؟ وهواتهم القديس فرنسيس الأسّيزي بأنه مختل العقل وطائش وأحمق وشّرير لأنه دعا أتباعه الى التخلي عن بعض ما يملكونه للفقراء ، فهل كان ضدّ تعاليم انجيل لوقا ؟

          على أية حال ، ان حكماء وول ستريت ، رجال المال والأعمال اللوثريين الأتقياء ، وضعوا مئات الدراسات عن تلازم الحضارة والملكية الفردية التي لا حدّ لها ولا سقف لها ، ودفعوا بفقراء العالم أجمع الى الهلاك ، ووصفوا كل من لا يؤمن بمذهبهم أنه متوحش وشيطان وشرير . ان هؤلاء الحكماء الأتقياء الأصوليين هم الذين بلغوا اليوم ذروة الجبروت والطغيان العالمي التي ليس بعدها ذروة أخرى ولا يليها سوى الهبوط .

الأصولية اللوثرية تجتاح أميركا :  

           في عام 1623 ، كانت تنهض على ضفاف نهر البوتوماك مدينة جميلة أشبه بحديقة كبيرة ، مدينة مزدهرة بالحرف والتجارة ، يسود أسواقها وأحياءها الوئام والسلام ، انها مدينة ( تكن شَتَنكة ) عاصمة شعب الكونوي ، الهندي الأحمر كما أسماه الغزاة ! لقد سوّيت هذه المدينة بالأرض ، بكل معنى الكلمة ، وأبيد سكانها عن بكرة أبيهم بكل معنى الكلمة أيضاً ، قبل أن ينتهي ذلك العام ( 1623 ) على أيدي الرسل اللوثريين . وفيما بعد جاء القائد اللوثري العظيم جورج واشنطن ( 1732- 1799 ) يخّب فوق أنقاض وعظام تلك المدينة الهندية وشعبها ، ليقيم على أنقاضها مدينة واشنطن العاصمة ، معلناً أن المدينة الجديدة ستنهض على أرض موحشة عذراء كانت تغمرها المستنقعات ! ولكن ، قبل سنوات قليلة من يومنا هذا ، في عهد الرئيس كلينتون أو الذين قبله ، أرادوا حفر حوض للسباحة في حائق البيت الأبيض ، واذا بآثار هولوكست شعب الكونوي ومدينته ترتفع على رفوش الرافعات عظاماً وأنقاضاً ، فأسرعوا يردمونها تحت جنح الظلام متخلين عن مشروع حوض السباحة !

          في عام 1779 ، أصدر جورج واشنطن أوامره الى الجنرال جون  سوليفان بأن يحيل مساكن شعب الأوركوا الى خراب ، وأن لا يصغي لنداءات السلام حتى تمحى مدنهم وقراهم وآثارهم عن وجه الأرض . وبعد أن نفّذ الجنرال تعليمات واشنطن كتب اليه يبشره بأن " المنطقة الجميلة تحوّلت من حديقة بديعة الى أطلال مهجورة تثير الرعب والمقت " ! وفي رسالة وجهها جورج واشنطن الى السناتور جيمس دواين فسّر المفهوم الأميركي " للأضرار الهامشية التي ترافق انتشار الحضارة " فقال : " ان طرد الهنود من أوطانهم بقوة السلاح لا يختلف عن طرد الوحوش المفترسة من غاباتها " !

          قارنوا مع ما يجري اليوم في فلسطين والعراق وغيرهما ، ولاحظوا في المقطع التالي اشارة توماس جيفرسون الى مفهوم التوسع الأميركي ، وقارنوه بمفهوم التوسع الاسرائيلي !

 يعتبر توماس جيفرسون ، الأصولي اللوثري العلماني ، رســـول الحرية الأميركية وكاتب وثيقة " الاستقلال " . غير أن جيفرسون هذا هو الذي أمر وزير دفاعه أن يواجه بالبلطة أولئك الهنود الذين يقاومون التوسع الأميركي ! ليس مقاومة وجود الأميركيين على أرض ليست لهم ، بل مقاومة توسعهم ! لقد أمره أن لا يضع البلطة حتى يفنيهم ، أو يسوقهم الى ما وراء نهر المسيسبي ، وسوقهم الى ما وراء المسيسبي لم يكن سوى اجراء مؤقتاً ، بالطبع ، ومجرّد مرحلة قبل أن تبدأ مرحلة توسع أخرى ! قال جيفرسون بالحرف : " نعم ، انهم قد يقتلون أفراداً منا ، لكننا سنفنيهم ونمحو آثارهم عن هذه الأرض ، فنحن مجبرون على قتل هؤلاء الوحوش أو طردهم الى الجرود مع وحوش الغابات " ! ان قول جيفرسون بأن الهنود سيقتلون أفراداً من جماعته ، يعني أنه هو من يهاجمهم ، وهو يعرف أنهم ضعفاء عزل ، لكنهم في دفاعهم عن أطفالهم لا بد وأن يقتلوا ولو خنقاً بأيديهم بعض جنوده ! ويالها من وقائع مرعبة تتكرر في جوهرها اليوم بالضبط ضد أبناء أمتنا في فلسطين والعراق وغيرهما !

          يقول الباحث العربي /الأميركي منير العكش في كتابه " أميركا والابادات الجماعية " أن عالمنا كلـه يعيش اليوم تحت رحــمة " مافيا " كولومبس الذي أوصى باستثمار ذهب أميركا في " تحرير أورشليم " ! وأن الهنود الحمر الذين أبيدوا بالنيابة عنا ككنعانيين ، بينما نحن الكنعانيون الحقيقيون ، ما يزالون يعيشون فينا ! يريد الباحث أن يقول ، بالطبع ، أنهم أبيدوا كعرب ، ونحن نباد اليوم كهنود حمر ، وكاستمرار لما بدأ في أميركا !

          ماهي الأصولية ، حسبما يعّرفونها اليوم ، ان لم تكن مجسّدة في جورج واشنطن ، مالك العبيد المرموق ، الذي يتاجر بالرقيق كسلعة ويستعملهم كأدوات وحيوانات ،والذي كان لا يكفّ عن التشكي من أن عبيده لا ينتجون على أراضيه بمقدار ما ينتج هو ، ولذلك كثيراً ماانهال بسوطه ، بيده ، على أجساد النساء اللواتي اتهمهن بالتظاهر بالمرض أو بالحبل ! لقد وصف عبيده الذين يتباطؤون خلال الثماني عشر ساعة من عملهم اليومي بالمخلوقات الكسولة المخادعة ، واتهمهم بسرقة المؤن ، فأقام رقابة صارمة على مخازنه ، وراح يقتل كلاب عبيده مدّعياً أنها تساعدهم في سرقاتهم الليلية للطعام !

          لقد كان جورج واشنطن نموذجاً للوثري البيوريتاني ، والانجليزي العلماني الأصولي ، أما جورج بوش الابن فهو خلاصة ذاك النموذج  ، وذروة تلك الأصولية التي لا بدّ وان نجمها على وشك الأفول ، أما غساسنتنا ومناذرتنا من أتباع الأصولية العلمانية الأوروبية الأميركية ، الذين لا يرون العيوب الا في امتهم ، فيبدو أنه قد فات أوان اقناعهم بالوقوف مع الحق الى جانب أهلهم ! 

 

 

 

 

 

 

14/12/2002

Hosted by www.Geocities.ws

1