إنهم يستخفّون بذاكرتنا الجمعية !

بقلم: نصر شمالي

ليس أخطر من حالة أمة تبدّدت ذاكرتها الجمعية أو اضطربت! إن أمة بلا ذاكرة هي أمة بلا تاريخ، وبالتالي بلا حاضر ولا مستقبل، أي أنها غير موجودة! ويتوجب علينا الإنتباه اليوم، أكثر من أي يوم مضى، إلى أن الحرب المفتوحة ضدّ أمتنا، وفي أحد أهم جبهاتها، تستهدف ذاكرة أمتنا، حيث أجهزة الدعاية والإعلام، الرسمية خاصة، تحاول إقناعنا بأن الأحداث الفظيعة الخارقة في فلسطين والعراق هي طارئة ومؤقتة وعابرة، كان يمكن أن لا تحدث لولا حماقات الاستبداد والإرهاب، وأن بالإمكان توقفها، والوصول إلى حلول معقولة، في حال الكفّ عن ارتكاب الحماقات!

إنهم يستخفون بذاكرتنا الجمعية، ويتوهمون أن باستطاعتهم إنهاكها، بحيث تعجز عن الربط بين الأحداث المترابطة القديمة والحديثة، وترى في الأحداث الراهنة ما يشبه الكوارث الطبيعية التي لا يد لأحد في حدوثها، والتي لا تحتاج إلى أكثر من حالة طوارىء!

تجار الأفيون بدأوا هذه الحرب!

 والحال أن الأحداث التي نشهدها اليوم في فلسطين والعراق بدأ التمهيد لها منذ عام 1800، حين انطلقت السفن الحربية الأميركية تقصف بمدافعها تباعاً كلاً من ليبيا وتونس والجزائر والمغرب، وتفرض على حكامها اتفاقات جائرة لخدمة سفن تجار الأفيون الأميركان، الذين كانوا يزاحمون الإنكليز على هذه التجارة، وعلى شحنها من بعض مرافىء المتوسط إلى الصين!

كانت القارة الأميركية قد استسلمت تماماً لمصيرها، ووقعت بكاملها في قبضة الإباديين الاستيطانيين، الأنجلوسكسون في الشمال واللاتين في الجنوب، وهاهم يتسابقون نحو آسيا وأفريقيا لمواصلة عمليات الإبادة والاستيطان فيهما، وقد شحنتهم نجاحاتهم الأميركية بالثقة. وبالفعل، بدأ اجتياح الجزائر، ابتداء من عام 1830، من قبل طلائع المستوطنين الفرنسيين اللاتين، بعد أن أنهكتها المدافع الانجلوسكسونية الأميركية على مدى العقود الثلاثة السابقة!

لقد كان عدد الأوروبيين المتواجدين في الجزائر، عندما بدأ الاجتياح، في حدود ستمائة فقط، لكن العدد وصل إلى خمسة آلاف بعد عامين، وبدأت تتبلور نواة المجتمع الإبادي الاستيطاني الذي سوف يحاول تكرار التجربة الأميركية!

اعتبار الجزائريين حيوانات متوحشة !

ما أن استقرت أقدام القوات النظامية الفرنسية على أرض الجزائر حتى وقف الجنرال بيجو خطيباً أمام قواته وقد أخذته العزّة بالإثم! لقد أعلن الجنرال أهداف الحملة بوضوح تام، من دون تلعثم ولا حرج، فقال:

-      " يجب القيام بغزو فرنسي أوروبي واسع. نحن بحاجة إلى معمّرين (مستوطنين) يهيّئون لكم أفضل الظروف. وحيث يوجد الماء الصالح والأرض الخصبة ينبغي توطين المعمّرين من دون أي اعتبار لمن يملك هذه الأرض. يجب أن نوزّعها (على المستوطنين) ونسجّلها ملكاً لهم. علينا أن نسير إلى غاية ثابتة، وأن نتوصل إلى تأسيس ولاية فرنسية. لابد من غزو واسع لأفريقيا مماثل لغزو القوط، فمن دون ذلك لن نصل إلى شيء"!

لقد كان الجنرال يتحدث عن "نيو فرانس" في الجزائر على غرار "نيو انجلند" في الولايات المتحدة، وكان ينظر إلى القارة الأفريقية تماماً مثلما نظروا إلى القارة الأميركية، ومثلما تحدث تيودور هرتزل عن "الدولة اليهودية" في فلسطين، التي لن يعيق قيامها سوى العقبات الطبيعية، كالأحراج الشوكية والأفاعي والذئاب وأشباه البشر، كما شرح هرتزل في يومياته! لقد كان الإباديون الإستيطانيون، وما زالوا، يعتقدون بأن ما يصحّ ويصلح في لندن وواشنطن لا يصحّ ولا يصلح في القاهرة أو بكين، وأن المعايير الحضارية والإنسانية في باريس لا يؤخذ بها أبداً في الجزائر أو دمشق أو هانوي، فالهندي والجزائري والفيتنامي والفلسطيني الطيّب، هو الميت فقط!

لقد وقف جنرال آخر من جنرالات حملة الإبادة والاستيطان في الجزائر، هو دورو فيجو، ليعلن بدوره أمام جنوده ما يلي:

-              "مادام تحضيرهم متعذّراً (يقصد عرب الجزائر) فلا بدّ من دفعهم بعيداً كالحيوانات المتوحشة التي تطرد من المناطق المأهولة. لابد من دحرهم إلى الصحراء أمام التقدّم البطيء لمؤسساتنا، وأن نلقي بهم دوماً إلى رمال الصحراء"!

من الواضح، طبعاً، أن المقصود بدحرهم إلى الصحراء دوماً هو إبادتهم وليس أي مصير آخر، والجنرال شارون الذي نتفرّج عليه اليوم هو الجنرال بيجو ذاته، يواصل مهمته الحضارية في فلسطين!

الدروس الجزائرية الثمينة والملهمة

بعد مائة وعشرة أعوام، أثناء الحرب العالمية الثانية، سيطر المستوطنون على السلطة الفرنسية في الجزائر سيطرة تامة. وفي عام 1951 صار عددهم مليوناً ومائة ألف، ثم بلغ المليونين وأكثر عام 1961. وعشية الانتفاضة الثورية الحاسمة والأخيرة، التي دامت سبع سنوات وتوّجت بالاستقلال، لم يكن قد بقي للشعب الجزائري سوى الصخور والرمال فعلاً،فأية طاقة جبارة جعلته ينتفض "فيزول القبر والكفن" على حدّ تعبير شاعرنا الخالد أبي الطيب المتنبي؟ إنها الذاكرة الجمعية، والنزعة الوحدوية العربية الإسلامية، التي لم تضطرب أبداً على مدى مائة وثلاثين عاماً، فقد خاض الجزائريون جهادهم الطويل دفاعاً عن وجودهم بصفتهم عرباً مسلمين، وصمدوا وانتصروا بفضل عروبتهم وإسلامهم، حيث لم يخامرهم الشك طوال ذلك الدهر، وفي أحلك الظروف، أنهم جزء وجزء فقط من أمة عظيمة قومياً وحضارياً، وزمنياً وجغرافياً. لقد كانت وحدويتهم هي سرّ انتصار ما هو صغير ظاهرياً ضدّ ما يبدو أكبر، وما هو ضعيف ظاهرياً ضدّ ما يبدو أقوى، وقد لخّص العالم الجليل المجاهد عبد الحميد بن باديس هذه المعاني بقوله الشهير: شعب الجزائر مسلم/ وإلى العروبة ينتسب!

انتصار الجزائر حسم مصيرنا !

لقد برهن انتصار الجزائر الأوّلي، وليس النهائي، أن هذه الأمة عصيّة على عمليات الإبادة والاستيطان مهما بلغ حجمها، وتنوّعت أساليبها وأدواتها، وطال أمدها. وأعطى الجزائريون هذا البرهان القاطع في ظروف دولية كانت مواتية لنجاح مثل هذه العمليات في قارات أخرى، بعكس الظروف الدولية الحالية غير المواتية. بل إن الانتصار الجزائري قرّر مسبقاً نتائج هذه المعارك الدائرة في فلسطين، ومعها المعارك المستجدّة في العراق، فما لم ينجح تحقيقه في الجزائر على مدى مائة واثنين وثلاثين عاماً سوف يستحيل قطعاً نجاحه في فلسطين، أو في العراق، أو في أي قطر آخر. لقد حسمت نتائج تجربة الجزائر الهائلة سلفاً مصير الأمة العربية والإسلامية لصالح الأمة العربية والإسلامية، ولصالح الإنسانية جمعاء!

Hosted by www.Geocities.ws

1