العراق والمشروع الامبراطوري الاميركي

بقلم :  نصر شمالي

يعتقد الكاتب الاميركي نورمان ميلر أن هناك أسباباً أساسية غير معلنة وراء استعدادات الرئيس بوش وجماعته لشن حرب ضدّ العراق ، ومن هذه الأسباب استنتاجهم أن السبيل الوحيد لإنقاذ اميركا وانتشالها من انحدارها الحالي يستدعي تطوير نظامها الى حضور عسكري أعظم شأناً، والسير بها نحو جعلها امبراطورية. أما عن مظاهر انحدارها، أو اضمحلالها، فيقول ميلر أنها لاتقتصر على فضائح الشركات، والكنيسة، ومكتب التحقيقات الفيدرالي، بل تتعداها الى الأطفال الذين لم يعودوا قادرين على القراءة، والى الانحدار المخيف في سوية المدارس والجامعات ، حيث الدراسات الأساسية كالعلوم والتكنولوجيا والهندسة تتراجع بشكل لافت ، وحيث عدد الحائزين على درجات الدكتوراه من الاميركيين في تناقص مستمر، بينما عدد الآسيويين المتفوقين والخريجين في الميادين نفسها يتزايد بوتائر عالية!

الشرق العربي والصين الشعبية!

وهكذا، يرى ميلر أن العراق هو المبرر والمنطلق المناسب للاتجاه الامبراطوري  الاميركي. إن الحرب ضدّ العراق ، كما تصوّرها البوشيون منذ البداية، سوف تكون الخطوة السريعة والمفاجئة التي تمكنهم من السيطرة على مجمل منطقة الشرق الأدنى وجعلها قاعدتهم القوية، ليس بسبب احتياطياتها من النفط فحسب، بل أيضاً بسبب مخزونها الضخم من مياه نهري دجلة والفرات، فالنفط والمياه سوف يجعلان من منطقة مابين النهرين قاعدة قوية جداً ينطلق منها الاميركيون في سعيهم لبناء امبراطوريتهم العالمية !

إن الادارة الاميركية الحالية تسعى ــــ حسب ميلر ــــ الى إشاعة الديمقراطية في الشرق الأدنى ، غير أن عائقاً وحيداً ، بارزاً، تراه ينتصب في وجه مسيرتها الديمقاطية، هو الصين الشعبية . إن الصين هي أحد أكبر مخاوف إدارة بوش، باعتبارها أهم بدائل الولايات المتحدة التي تتراجع فيها ميادين التطور التعليمي والعلمي، التكنلوجي والهندسة خاصة. إن الادارة الاميركية، وهي تنظر الى العشرين  سنة القادمة ، ترى الصين وقد تفوقت تكنولوجياً ، وبما أن هذا التفوق يبدو كأنما هو محتوم فإن الادارة الاميركية  يجب أن تستعد منذ الآن كي تستطيع أن تقول للصين حينئذ : " حسناً، نحن نستطيع أن نعمل معاً ، وسنكون بالنسبة اليكم مثل الرومان بالنسبة للإغريق، أي أنكم ستكونون عبيدنا الاستثنائيين المثقفين ثقافة عالية ، فلا تحاولوا الهيمنة علينا لأن ذلك سيعني نكبتكم " !

يقول ميلر أن مثل هذا " السيناريو" الامبراطوري هو مايفكر فيه اليوم بعض أكثر المحافظين الجدد ذكاء في الادارة الاميركية بينما هم يستعدون للحرب انطلاقاً من العراق !

  التضحية بالديمقراطية لصالح الامبراطورية !

يقول نورمان ميلر أنه يخشى أن يفقد الاميركيةن ديمقراطيتهم عبر هذه العمليات التي يرتبونها. وبينما يتوقع البوشيون إشاعة الديمقراطية في المنطقة ( العربية ) ويعتقدون أن ذلك سوف يساعد على الحدّ من الارهاب، فإن ميلر يتوقع حدوث العكس تماماً !

من جهة أخرى ، اصطدم البوشيون بمعارضة دولية جاءت أكبر في الداخل ، فإذا  ماانتهى  الأمر الى تجنب الحرب ضد العراق تحت ضغط المعارضات الدولية ، والاستعاضة عنها باسترايتجية جديدة لاحتواء العراق، فإن ذلك، إذا ماحدث، سوف يوقع بوش في مأزق رهيب !

غير أن ميلر يعتقد أن الولايات المتحدة سوف تذهب الى الحرب ، سواء أعجب ذلك الاميركيين أم لم يعجبهم، وسواء أرادوه أم لم يريدوه. لماذا ؟ لأن الحرب هي الحل الوحيد الذي لايرى بوش وجماعته حلاً سواه ، أي أنه تحوّل الى طريق إجبارية !

            ماالذيسيترتب على ذهاب الادارة الاميركية الى الحرب؟

          إن هذا الاتجاه المأساوي المحتمل سوف يحوّل الولايات المتحدة الاميركية الى جمهورية موز كبيرة يكتسب فيها الجيش أهمية متعاظمة في حياة الاميركيين، ويشكل غلافاً يزداد سماكة باستمرار بينما هو يلف النظام الاميركي ، وسرعان ماسوف تستسلم الديمقراطية! يضيف ميلر : إن خبرتي الطويلة مع الطبيعة الانسانية، وقد بلغت الثمانين من العمر، تقول أنه من الممكن أن تكون الفاشية ، وليس الديمقراطية، هي الوضع الطبيعي الذي سينشأ ! لسوف ندعي في السنوات المقبلة للدفاع عن الديمقراطية، وسيكون الأمر غاية في الصعوبة، لأن خليط عالم الشركات، والجيش، والتوظيف الكامل للعلوم، سبق أن أرسى أجواء ماقبل الفاشية!

الأجواء المؤسسة للفاشية الاميركية!

هناك من يفصلون بين العهود الاميركية المتوالية ويميّزون بينها، بينما هي حقاً سلسلة متوالية الحلقات، فعهد كلينتون مجرّد إضافة لعهد بوش الأب، وعهد بوش الابن هو مجرّد إضافة لعهد كلينتون، حيث الاختلاف والتمايز ربما يقتصر على بعض المظاهر والأساليب لاأكثر، بينما الاسترايتيجية العامة واحدة!

          في عهد الرئيس الديمقراطي كلينتون تعرض العراق لأشد حالات الحصار وأفظع عمليات القصف الجوي، فهلك مئات الألوف من العراقيين، أما في فلسطين فقد شهد الاستيطان توسعاً هائلاً وسريعاً لم يشهده في أية مرحلة أخرى. وسواء في فلسطين أم في العراق، نجحت إدارة كلينتون الى حدّ كبير في ضبط ردود أفعال الضحايا وفي الحدّ من فعالية قواهم المنظمة . لقد كانت الاسترايتيجية نفسها ، واقتصر الاختلاف على الأسلوب فحسب !

في ايلول / سبتمبر 1999، وقف الرئيس الاميركي بيل كلينتون في نيوزيلاندا، مسنداً ظهره الى قاعدته العسكرية الضخمة في دييغو غارسيا، المقامة على أرض جزيرة غير مأهولة في عمق جنوبي المحيط الهندي، وأطل من فوق استراليا على مختلف أنحاء آسيا ، ليعلن أن هذه القارة العريقة بها محرمة على الاوروبيين إلا في الحدود التي تقررها إدارته وتسمح بها ! قال كلينتون : إن آسيا لن تكون موضوع مباحثات أو شراكات! وبعد ذلك بدأ في تشكيل قوة عسكرية اقليمية قوامها الأساسي من الاستراليين والنيوزيلانديين البيض، ثم انطلق وأعوانه يكيلون الاتهامات للحكومة الاندونيسية ، وخصوصاً للجيش الاندونيسي، بسبب انتهاك الديمقراطية وحقوق الانسان في تيمور الشرقية. وما هي تيمور الشرقية التي انتزعها كلينتون من وطنها الأم ؟ إنها عشرة مليارات دولار من النفط تم الاستيلاء عليها بالقوة جهاراً نهاراً ! إضافة إلى إقامة قاعدة عدوانية على أراضي تلك الجزيرة ! وهكذا فإن " الجو ما قبل فاشي " الذي أشار اليه نورمان ميلر قد نشأ في عهد إدارة كلينتون الديمقراطي، بل في عهود الادارات المتوالية التي سبقتها .

زمام التاريخ لايمسك به أحد !

لقد تغيرّ العالم وانتهى الأمر، وهو ما لايلاحظه ــــ للأسف ـــ أو لئلك الذين مازالوا يحملون بعودة الثنائية أو الثلاثية الدولية، وأولئك الذين يعتقدون بإمكانية سيادة اميركية سلمية مستقرة وديمقراطية ! أو اوروبية ، أو حتى صينية! إن مايجب أن نلاحظة اليوم في المقام الاول، هو أن زمام التاريخ لم يعد في حوزة أي قوة دولية مهما كانت عظمى . إن التاريخ يجري اليوم من دون أن يمسك أحد بعنانه. وفي عهد هذه الديكتاتورية الاميركية الباغته سوف يبقى القسر القهار سما بارزة في التعامل مع دول العالم ، بل هو سوف يشتد وطأة وقسوة في المدى المنظور ، معبراً عن نفسه بمالايحصى ولايطاق من عمليات التدخل في شؤون الأمم وأوطانها ، ومؤكداً ذاته طوال الوقت بهذه الخطابات الفظة الامنطقية واللاعقلانية، وأن هذا بمجمله ليستدعي الارتقاء بسوية خطا بنا ، وبسوية أدائنا للمساهمة في بلورة مشروع حضاري انساني تجتمع الأمم كلها على نصرته ، وتجعله قادراً على الامساك بزمام التاريخ لصالح الانسان عموماً .  

 

Hosted by www.Geocities.ws

1