كلمات عارية - الملك لير.
محمد بركات - مجلة الإذاعة والتليفزيون - بتاريخ الأحد 17 مارس 2002

 

ذهبت لمشاهدة مسرحية "الملك لير" على خشبة المسرح القومى وأنا أعتقد أننى سوف أكون وحدى، أو مع قلة من المشاهدين الذين يعنيهم أمر المسرح العالمى الرفيع ... ولكنى فوجئت مفاجاة مذهلة إذ لم يكن هناك مكان واحد فى الصالة أو فى البلكون، فقد كان المسرح "كومبليه" وقال لى الصديق "جمال حجاج" مدير دار العرض إن المسرحية تحقق هذا الإقبال منذ اللحظة الأولى والتى تم فيها رفع الستار عن هذا العمل الكبير ... وفى داخل المسرح فوجئت بصفوة المتفرجين، ممن يجلسون وكأن على رؤوسهم الطير، ولم أخطئ وجود عدد كبير من الكتاب والنقاد والصحفيين والفنانين أساتذة الجامعات ابتداء من أنيس منصور حتى فاورق الفيشاوى ، ومن سمير سرحان حتى صابرين ..

وعشت مع الجميع ليلة لا تنسى مع هذا النص العبقرى الذى كتبه شاعر المسرح الإنجليزى العظيم وليم شكسبير، والذى أخرجه على خشبة مسرحنا العريق الفنان أحمد عبد الحليم، ولعب بطولته فى دور عمره الفنان يحيى الفخرانى ونخبة من أفضل ممثلى المسرح المصرى بشكل عام، والمسرح القومى عى نحو خاص..

وقد درسنا منذ خمسين سنة، ونحن أطفال زغب الحواصل أن مسرحية "الملك لير" تدور حول "عقوق الأبناء" كما يتجسد ذلك فى تذكر ابنتى الملك "جونريل" و"ريجان" لوالدهما "لير" ملك بريطانيا بعد أن وزع مملكته عليهما وحرم منها ابنته الثالثة الصغرى "كورديليا" التى لم تستطيع أن تجارى أختيها فى الملق والنفاق، ولكن عبقرية أحمد عبد الحليم تجلت وهو يخرج هذا العرض فى تجاوز هذا التفسير التقليدى الذى ارتبط بالمسرحية لأكثر من اربعة قرون، فقد عمد إلى الأخذ "بالتفسير السياسى" والتأكيد عليه حيث تبدو لنا مأساة "الملك لير" كحاكم مطلق يحب النفاق، ولا يسمع لنصيحة أو مشورة المحيطين به حتى ولو لم يستشر فيه أحدا، وهو القرار القاضى بتقسيم مملكته بين بناته، ورغم معارضة الجميع لهذا القرار، إلا أن الملك ككل حاكم فرد يقدم على ما أزمع عليه، حيث يتم تفتيت المملكة، ويتم طرد المخلصين، وتقريب المنافقين ومن ثم يشيع الفساد فى القصر وفى البلد كلها حيث يحيا الجميع فى ظل التأمر والدسائس والخداع، إلى أن تتم المأساة فصولا،

ويدفع الملك حياته ثمناً لفرديته، كما تدفع بنتاه الكبيرتان حياتهما ثمناً لتأمرهما على السلطة، يمثل ما يتم مصرع البراءة مجسداً فى الموت الفاجع للبنت الصغرى "كورديليا" كنتيجة طبيعية لهذا كله إذا لم يعد فى مملكة لير مكان للشرف ولا للفضيلة ولا للصدق كما تجسدها هذا الملاك الطاهر ..

ورغم التأكيد على هذا البعد السياسى فى تفسير المسرحية، إلا أنها لم تفقد أبداً بعدها الإنسانى القديم الجديد والمتمثل فى مأساة العقوق كما صورها شكسبير أبدع تصوير...

وقد ساعد على وصول كل كلمة فى هذا النص الصعب إلى عقل وقلب المشاهدين تلك الترجمة الرائقة التى قامت بها الدكتورة فاطمة موسى حيث قدمت لغة شكسبير الصعبة وتراكيبه الأصعب فى أبسط وأسهل وأجمل لغة يمكن أن يقدم بها - مثل هذا المسرح العميق، ولم يعكر صفو هذه اللغة الرائقة الشائقة سوى أشعار العامية التى كتبها أحمد فؤاد نجم وقالها .. المهرج أو البهلوان فى سياق غريب يحسب على المسرحية أكثر مما يحسب لها ..

وقد أكتملت كل عناصر العرض بعد ذلك ابتداء من الديكور البسيط لسمير زكى، حتى الموسيقى المبدعة لراجح داود، مروراً بأستعراضات عاطف عوض وأضاءة عاصم البدوى ..

 على أن أعظم ما فى هذا العرض بعد ذلك أو قبل ذلك هو الأداء التمثيلى الذى شارك فيه عشرات من الممثلين الذين كانوا نجموماً وأبطالا لا نستثنى منهم أحداً ابتداء من العظيمة "سوسن بدر" حتى الرائع أشرف عبد الغفور" مروراً بعشرات الأسماء مثل محمد ناجى وابراهيم الشرقاوى وسولى محمد على ومجدى أدريس، وريهام عبد الغفور، ولطفى لبيب، وحسام الشربينى، وعماد العروسى، وأحمد سلامة، وعمر فريد، ورشدى الشامى ويقف وسط الجميع يحيى الفخرانى كقامة فنية عالية لا يسمو إلى مكانتها إلا شكسبير ومسرحيته الخالدة .. لقد قدم الفخرانى دور عمره ولو لم يمثل بعد ذلك الكفاه ...

لقد عاش أعظم ممثلى المسرح الإنجليزى وهو لورانس أوليفييه على الشكسبيريات، وفى أحد الليالى كان يشاهده النجم الأمريكى جريجورى بيك، الذى فوجئ بالجمهور وهو يصفق لعشرة دقائق بعد المسرحية، وذهب "بيك" ليهنئ "أوليفييه" ويحسده على هذا التصفيق كله فقال له الممثل الإنجليزى: ولكنك تحصل على خمسة ملايين دولار فى الفليم الواحد .. فقال له جريجورى: إننى على استعداد لأن ادفع هذه الملايين الخمسة مقابل هذه الدقائق الخالدة من التصفيق والإعجاب وهذا هو الثمن الذى يحصل عليه يحيى الفخرانى كل ليلة!!

 

Hosted by www.Geocities.ws

1