القانون الدولي والقانون الاسلامي

المقدمة

 

في السنين الأخيرة ، عاد الاهتمام بالإسلام يتزايد باعتباره ظاهرة سياسية واسعة . فمنذ نهاية عقد السبعينات ، أحرز الإسلام السياسي انتصاراً كبيراً في تأسيس أول حكومة إسلامية ، في إيران . ومنذ عام 1979 ، وبقية الدول الإسلامية في مواجهة متزايدة مع الحركات الإسلامية الراغبة بتأسيس دول جديدة تعتمد كلياً على أحكام الشريعة الإسلامية ، وإلغاء الأنظمة العلمانية التي تحكم المجتمعات الإسلامية منذ نشوء الدول القومية ، بعد عصر الاستعمار .

والدولة الإسلامية ، كغيرها من الكيانات السياسية ، تقيم علاقات خارجية ، تنضم إلى المنظمات الدولية ، وتلتزم بالقانون الدولي والمبادئ العامة كمعايير تنظم علاقاتها مع الآخرين . فقد عاد من المستحيل ، في العالم المعاصر ، الانعزال عن الاتصالات الخارجية ، سياسياً واقتصادياً .وحتى أولئك الذين يبدون عداءً للغرب أو غير المسلمين ، إذا ما وصلوا للسلطة ، سيجدون أنفسهم مجبرين على إقامة علاقات خارجية ، وعقد معاهدات وإتفاقيات مع الدول غير الإسلامية . إن إدارة الدولة لا يمكنها أن تعتمد على الشعارات الثورية أو الأفكار المجردة ، ولا حتى على الحماس الديني ، بل بالتعامل بواقعية مع مفردات العصر ومتطلبات المجتمع الذي تدير شؤونه .

منذ عقد الثلاثينات في هذا القرن ، بدأت الدول الإسلامية في الانضمام إلى المنظمات الدولية; في البداية عصبة الأمم ، ثم منظمة الأمم المتحدة ووكالاتها . إن مشاركة الدول الإسلامية في النظام العالمي يمكن اعتباره ظاهرة رائعة في التاريخ الحديث للدول الإسلامية . هذه الظاهرة لها جذور تاريخية عندما كان العالم الإسلامي يقيم علاقات وثيقة مع الغرب منذ القرون الوسطى . وامتدت تلك العلاقات على مدى قرون طويلة ، وتضمنت أشكالاً وأبعاداً مختلفة . لقد أثر كل طرف بالآخر في كل المجالات والنشاطات بين الدول ، في السياسة والاقتصاد والثقافة والقانون والعلم . فكان هناك تأثير متبادل بين الطرفين .

وقد جهد فقهاء القانون أنفسهم في محاولة تقريب وجهات النظر الفقهية والقانونية بين العقل الغربي والواقع الاسلامي المتمثل بالنظم والحكومات الاسلامية وعطاء المفكرين والفلاسفة المسلمين فهل وفقوا في ذلك؟ هذا هو جوهر موضوع هذه الرسالة.

يعرض الفصل الأول لمحة تاريخية عن العلاقات بين العالم الإسلامي والغرب ، باعتبارها مدخلاً للدراسة ، من أجل متابعة تطور مختلف العلاقات بين الجانبين . سأحاول أن أسلط الضوء على أهم الأحداث والاتفاقيات الهامة التي يمكن اعتبارها منعطفات رئيسة في العلاقات الثنائية . إذ يبدو من المهم مناقشة تطور العلاقات في إطار محيطها التاريخي ، للتعرف على بدايات تأثير الغرب على القانون الدولي الإسلامي.

أما الفصل الثاني فيتطرق إلى المواجهة العسكرية ـ الاستعمار ـ بين الحضارتين : الإسلامية والغربية . وسأناقش كيف واجهت المؤسسات الدينية القوات العسكرية الغربية التي احتلت الأراضي الإسلامية . فمن المعروف أن القيادات الدينية لعبت دوراً هاماً في الكفاح أو الجهاد ضد الحكومات الاستعمارية . وعلى سبيل المثال ، قمت بإختيار أربعة بلدان إسلامية ، بلدين سنية المذهب وهي مصر والهند ، وبلدين شيعية هي العراق وإيران . وسيتركز الحديث والنقاش حول الثورات المحلية التي حدثت في تلك البلدان ، والتي كانت رد فعل مباشراً للاستعمار أو الحضور الأجنبي المهيمن على البلدان الإسلامية . أما الأحداث والثورات الأخرى فهي خارج نطاق هذه الدراسة . ويتضمن هذا الفصل مناقشات واسعة للقضايا الشرعية التي نشأت نتيجة الاحتلال الاستعماري للبلدان الإسلامية ، مثل الولاء للحاكم غير المسلم ، والوضع الشرعي للأجانب المقيمين في الأراضي الإسلامية ، وقضية الهجرة من دار الحرب .

ويبحث الفصل الثالث نظرية الحرب والسلم في الإسلام . إذ سأناقش التصورات والنظريات الإسلامية المختلفة بصدد طبيعة العلاقة مع غير المسلمين على الصعيد الدولي . إذ أنه من الضروري دراسة آراء الفقهاء ، وبضمنهم المعاصرين ، فيما يتعلق بالجهاد ، طالما أن أغلب الكتابات والمؤلفات حول القانون الدولي الإسلامي ، أو التي تتطرق لنظرة الإسلام للعلاقات الدولية ، تعتبر الجهاد محوراً أساسياً للنظرية الإسلامية في العلاقات الدولية . وعليه فإن هذه الدراسة لن تتطرق لتفاصيل وأحكام الجهاد . فأحكام الجهاد لا علاقة لها بهذه الدراسة . ومع ذلك فقد ناقشت دوافع الجهاد باعتباره أحد قواعد القانون الدولي الإسلامي ، ومعرفة ما إذا كان السلم أم الحرب هو الأصل في العلاقة مع غير المسلمين أم لا .

أعتقد أن الجهاد يحتل موقعاً منفصلاً في الشريعة الإسلامية ، وأن أحكام الجهاد يجري تطبيقها عندما تنشب الحرب الفعلية . وأن الجهاد يحتل فصلاً خاصاً في القانون الإسلامي وليس أصلاً في السياسة الخارجية أو العلاقات الخارجية للدولة الإسلامية . فكما أن القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة يتضمنان فصولاً ومقررات خاصة بالحرب وشؤون الحرب والجرحى والأسرى ، فلا يجري التطرق إليها إلا في حالة وقوع الحرب ، ولا يجري اتهام القانون الدولي بأنه عدواني لمجرد أنه يتضمن قوانين تنظم قضايا وشؤون الحروب ، كذلك موقع الجهاد في الشريعة الإسلامية . فالإسلام نظام وتشريع متكامل ، للسلم والحرب . وكما توجد هناك أحكام للجهاد والحرب ، هناك أحكام وقواعد تنظم السلم ، والتي قلما يُتطرق إليها .

أما الفصل الرابع فيناقش المعاهدات السلمية مع الدول غير الإسلامية . إذ أن النظرة السائدة عن النظرية التقليدية في الإسلام فيما يتعلق بالعلاقات الخارجية بأنها تميل للعدوانية والتوسع ، وطالما أن الاعتقاد السائد بين الباحثين والأكاديميين بأن الإسلام لا يعرف المعاهدات السلمية مع غير المسلمين ، أو أنها إن وجدت ، فهي محدّدة بفترة مؤقتة، غالباً لا تتجاوز عشر سنوات ، لذلك سأناقش المعاهدات السلمية المبكرة في صدر الإسلام وما بعده . وكذلك موضوع الفترة المحدّدة بعشر سنوات ، وهل هي تشريع أم عرف أم رأي ؟.

وسأتابع ، في هذا الفصل أيضاً ، تطور المعاهدات السلمية بين أوربا والعالم الإسلامي . ويمكن إحراز ذلك من خلال مناقشة تأثير الامتيازات الأجنبية على القانون الإسلامي ، بصورة عامة ، والقانون الدولي الإسلامي بشكل خاص . منذ القرون الوسطى وحتى القرن العشرين ، كان نظام الامتيازات يمثل حضور الأنظمة القانونية الغربية في البلدان الإسلامية . فقد كان للامتيازات تأثير هام في قبول المفاهيم والقواعد القانونية الغربية في المجتمعات الإسلامية . وسيتركز النقاش حول القضايا التي نشأت من الامتيازات والتي لها علاقة بالقانون الدولي الإسلامي ، مثل الإعفاء الضريبي للأجانب غير المسلمين ، الامتيازات والحصانة القضائية للرعايا الأجانب مما جعل سلطة القاضي غير المسلم أعلى من سلطة الدولة الإسلامية التي يقيم فيها ، حماية الأقليات غير الإسلامية ، وترسيخ السلم مع الغرب .

ونتيجة لتطور القانون الدولي الإسلامي ، يساهم الفقهاء المعاصرون بطرح نظريات جديدة فيما يخص الوضعية الشرعية للدول غير الإسلامية . يناقش الفصل الخامس الآراء المتفاوتة بين الفقهاء تجاه التقسيم الثنائي للعالم ، أي دار الإسلام ودار الحرب ، والإجابة على السؤال : إلى أي قسم تنتمي الدول الغربية  ؟

إستناداً إلى بعض الفقهاء ، تعتبر الدول غير الإسلامية دار عهد . وهذا ما يزيل عقبات كثيرة في بناء علاقات قوية مع هذه الدول ، ويسمح بتوسيع مساهمة العالم الإسلامي في النظام العالمي . وتؤدي هذه النظرة إلى موقف أكثر تسامحاً فيما يتعلق بإقامة الأقليات المسلمة المهاجرة في الغرب .

ويناقش الفصل السادس وجهة النظر الإسلامية تجاه الإتفاقيات الدولية ، وسياسة الدول الإسلامية بهذا الصدد . إن الدول الإسلامية أنشأت علاقات خارجية مع الدول غير الإسلامية في وقت مبكر ، وعقدت معها اتفاقيات عديدة . وتلزم هذه الاتفاقيات الدول الإسلامية باحترامها وتنفيذها ، ليس على أساس سياسي أو قانوني فحسب ، بل على أساس ديني أيضاً . وسنناقش القواعد القانونية في عقد المعاهدات الدولية ، حيث سيتم التطرق إلى مبان شرعية هامة ذات تأثير في القانون الدولي الإسلامي ، مثل المصلحة والعرف ، التي يعتمدها الفقه الإسلامي في قبول الاتفاقيات والالتزامات الدولية . وسيكون هذا الفصل مقدمة للفصل التالي الذي يعالج العلاقة بين الإسلام والأمم المتحدة .

ويسلط الفصل السابع الأضواء على النقاشات الفقهية الإسلامية التي تتعلق بانضمام الدول الإسلامية إلى الأمم المتحدة ، وقبول مبادئ ميثاقها . وتمثل هذه المرحلة الذروة التي بلغتها الدول الإسلامية في قبولها النظام الدولي ومنظماته ووكالاته . وسأناقش مبادئ ميثاق الأمم المتحدة وتأثيرها على الدول الإسلامية الحديثة وعلاقاتها الدولية; وهذه المبادئ هي : مبدأ التعايش السلمي ، مبدأ الحل السلمي للنزاعات الدولية ، مبدأ الامتناع عن استخدام القوة ، مبدأ السيادة ، مبدأ حق تقرير المصير ، مبدأ عدم التدخل بالشؤون الداخلية ، ومبدأ الاعتراف بالدول غير الإسلامية . وأحدثت هذه المبادئ جدلاً بين الفقهاء ، كما أدت إلى حضور حيّ للفقه الإسلامي في القضايا والمبادئ الدولية . إن مثل ذلك النمط من التفكير يبدو ضرورياً لتطوير القانون الدولي الإسلامي ، وإبداع قواعد فقهية عصرية تتعامل مع المشاكل والعلاقات والمبادئ الدولية .

ويناقش الفصل الثامن نظرة الإسلام للقضاء الدولي . إذ أن اللجوء إلى محكمة غير إسلامية هو ظاهرة جديدة في العالم الإسلامي ، وقد رفعت العديد من الدول الإسلامية قضاياها ونزاعاتها إلى محكمة العدل الدولية . وسأسلط الضوء على القواعد الشرعية التي جعلت الدول الإسلامية ترضى بقضاء محكمة غربية تطبق قانوناً غير إسلامي . وسأناقش ايضاً مبادئ وأسس تأسيس محكمة العدل الإسلامية الدولية ، وقضايا التحكيم وصفات القاضي والمحكم .

إن هدف هذه الدراسة هو تقييم ومتابعة تطور القانون الدولي الإسلامي من خلال علاقة العالم الإسلامي بالغرب . إذ سيقتصر البحث حول تأثير هذه العلاقة على القانون الدولي الإسلامي ، دون بقية العوامل الأخرى . منهجياً ، سأقوم أولاً بتحديد مبدأ أو مفهوم معين في القانون الدولي (الغربي) ، ثم معرفة كيف تم قبولها من قبل المسلمين ، وكيف اُدرجت ضمن القانون الدولي الإسلامي . إن تقييم قبول هذه المفاهيم سيتخذ منحيين : الأول : تاريخي ، لإلقاء الضوء على الظروف وطبيعة المحيط السياسي الذي خلق الأجواء لقبول هذه القواعد . الثاني : شرعي ، لمعرفة ما إذا كانت هذه المبادئ الجديدة مبنية على أحكام وقواعد الشريعة الإسلامية ومصادرها . وستتركز المناقشات ، فيما يتعلق بالمنحى الثاني ، على فتاوى الفقهاء وآراء العلماء والباحثين . ولغرض إحراز هذا الهدف ، سأستخدم المصادر التالية :

ـ الفتاوى

الفتوى هي رأي فقهي بصدد موضوع معين في القانون الإسلامي . وهي الحكم الشرعي الكلي للأشياء . وقد تتعلق بمواضيع عديدة ، شرعية ، اجتماعية وسياسية ، مما يواجهه المسلمون في حياتهم اليومية . وتمثل الفتوى الرأي القانونيـ الديني للفقيه أو المفتي بصدد مسألة معينة .

وعلى مر القرون ، واجهت الفقهاء قضايا مستجدة في كل عصر ، كان من اللازم عليهم إعطاء حلول تنطبق مع قواعد الشريعة . وقد نجح بعض الفقهاء أحياناً في تطوير نظرات وحلول جديدة لمشاكل المجتمعات الإسلامية . وإذا كان الفقه الإسلامي يسير ببطء حتى القرن التاسع عشر ، إلا أن القرن العشرين حمل تحديات كثيرة وكبيرة للمسلمين ، جعلت الفقهاء يبذلون جهوداً لملاحقتها. وما زالت هناك قضايا وجوانب في شتى الميادين بحاجة إلى رأي الإسلام فيها . إذ ما زال العلم والتكنولوجيا والتقدم الصناعي والطبي يطرح أسئلة بحاجة إلى إجابة إسلامية رصينة ، تستطيع تكييف المجتمعات الإسلامية مع التغيرات المتسارعة التي يشهدها عالمنا اليوم .

ومن هذه القضايا موضوع العلاقة مع غير المسلمين ، فقد قدم بعض الفقهاء صياغات لقواعد إسلامية جديدة ، أزاحت النظريات التقليدية باتجاه وضعية ديناميكية للأطروحة الإسلامية . وكان لبعض الفتاوى تأثير عظيم في المجتمعات الإسلامية ، ولعبت أدواراً رئيسة في الأحداث التاريخية والسياسية . كما أحرز الفقهاء وبنجاح تقدماً ملحوظاً في قبول المبادئ الجديدة ، والمأخوذة أصلاً من المفاهيم الغربية ، فوضعوا بذلك الدول الإسلامية ، إلى حد ما ، في توافق وانسجام مع المتغيرات الدولية ، وإقامة علاقات دولية مع بقية دول العالم ، وبضمنها الدول غير الإسلامية .

وفي هذا الصدد حرصت على استقصاء آراء الفقهاء المعاصرين فيما يتعلق بقضايا القانون الدولي الإسلامي والعلاقات الدولية مع الدول غير الإسلامية والانضمام للمنظمات الدولية وغيرها من المواضيع التي تضمنتها هذه الدراسة . وقد أجاب بعضهم [1][1] مشكورين من خلال اجابات مختلفة على شكل فتاوى معاصرة ، قد تكون لأول مرة يتطرق فيها الفقه الإسلامي إلى هذه القضايا . لذلك فهي تتضمن جوانب إبداع وأصالة ومعاصرة ، بشكل يفتح الآفاق أمام الفقه الإسلامي للنمو والتطور فيما يتعلق بالقانون الدولي الإسلامي . ولا يسعني في هذه المناسبة إلا توجيه الشكر والامتنان لكل الفقهاء والعلماء والأجلاء ومنهم سماحة السيد محمد حسين فضل الله (مرجع ديني كبير) ، سماحة السيد كاظم الحائري (مجتهد في الحوزة العلمية في قم) ، سماحة الشيخ لطف الله الصافي (مرجع ديني كبير) ، وسماحة الشيخ محمد علي التسخيري (مستشار قائد الجمهورية الإسلامية الإيرانية للشؤون الدولية) [2][2] .

ومن الأمور المستجدة في هذه الفتاوى أنها ذكرت أن فكرة الجهاد الابتدائي لم تعد قائمة بعد الآن ، طالما أن الدول الإسلامية وقعت معاهدات سلمية أو معاهدات عدم اعتداء مع الدول غير الإسلامية . كما أن الانضمام إلى ميثاق الأمم المتحدة بمثابة توقيع معاهدة سلمية مع الدول المنضمة إليها . وتضمنت هذه الفتاوى مفاهيم ونظرات متطورة تجاه الاتقافيات الدولية ، ومحكمة العدل الدولية ، بشكل تساهم فيه هذه الفتاوى بتطوير القانون الدولي الإسلامي 

ـ المعاهدات

المعاهدة هي اتفاق بين طرفين أو أكثر ، تتضمن التزامات متبادلة بينهم ، وتنظيم العلاقة بين أطرافها . وتمثل المعاهدات ، بصورة عامة ، الأهداف والمصالح التي يجب بلوغها وحمايتها بواسطة الاتفاق أو العهد أو الامتياز . وتعكس المعاهدات بوضوح طبيعة الأفكار السائدة والأنظمة السياسية للدول في فترة تاريخية معينة . فالمعاهدات تمثل وثائق هامة تجسد المبادئ والقواعد التي كانت تحكم العلاقات الدولية بين الأمم والحكومات . وما تزال الاتفاقيات تمثل مصدراً رئيساً في القواعد القانونية الدولية ، وتلعب دوراً هاماً في العلاقات الدولية .

وعبر عصور طويلة ، مارست الدول الإسلامية توقيع الاتفاقيات والمعاهدات مع الدول غير الإسلامية . وتضمنت تلك الاتفاقيات التزامات وقواعد وشروطاً ومبادئ عديدة ، بشكل تمثل تطوراً في القانون الدولي الإسلامي . ومن خلال التركيز على معاهدات معينة ، يمكن اعتبارها خطوات متقدمة في تطوير القانون الدولي الإسلامي ، وقبول مفاهيم جديدة ، بشكل يجعل الباحث يتصور طبيعة الظروف التاريخية التي جعلت تلك الدول توقّع هذه المعاهدة أو تلك .

من الصحيح القول أنه ليس كل الحكام المسلمين ، عبر التاريخ ، قاموا بتوقيع اتفاقيات ومعاهدات مع الدول غير الإسلامية دون الرجوع للمؤسسة الدينية او استشارة الفقهاء المعاصرين لهم ، ولكن يمكن القول ، إلى حد ما ، أن الدول الإسلامية وقعت تلك الاتفاقيات وفقاً لأحكام الشريعة الإسلامية ، وخاصة عند وجود مؤسسة دينية متطورة ، أو فقيه أو مفتي يعمل في البلاط الملكي; مثلما هو الحال في الدولتين العثمانية والصفوية .

ـ كتابات الباحثين المعاصرين

تقدم الكتابات والدراسات الحديثة للعلماء والباحثين المسلمين مساهمة كبيرة في تطوير آراء ونظرات جديدة فيما يتعلق بالقانون الدولي الإسلامي ، والعلاقات الدولية للدول الإسلامية . فقد بذلوا جهوداً حثيثة لبناء أسس جديدة في إعادة تفسير مصادر الشريعة ، أي القرآن والسنّة بصورة رئيسة . وقاموا بمقارنات واسعة وعميقة بين المبادئ العامة للقانون الدولي والمفاهيم الإسلامية . وقد ساروا شوطاً كبيراً في تقليص الفجوة بين مبادئ القانونين ، وقاموا بصياغة أفكار قانونية جديدة ، بشكل جعل الدول الإسلامية تقيم علاقاتها الخارجية بثقة وشرعية .

إن قسماً كبيراً من الكتابات الإسلامية ، في هذا الصدد ، هي ردود أفعال للإتهامات التي تطلق على الإسلام من قبل الباحثين الغربيين والكتّاب العلمانيين المحليين ، مما يدفع العالم والفقيه المسلم للإجابة والرد على تلك الاتهامات ، ويسعون من خلال مؤلفاتهم وكتاباتهم وردودهم دحض الافتراءات ، والتأكيد على أن الإسلام يمتلك منظومة من القيم والأخلاق الإنسانية الرفيعة تجاه البشرية جمعاء ، وأن الأحكام الإسلامية تتضمن معاملة إنسانية ذات مستوى عال يمكنها أن تحقق مبادئ العدل للبشرية .

ومن الضروري القول بأن كتابات المستشرقين والباحثين غير المسلمين قد احتلت قسماً هاماً من مصادر هذه الدراسة . فقد أغنت الدراسة بمعلومات وأفكار ونقاشات وتحليلات رائعة ، تتعلق بقضايا تاريخية وقانونية ذات صلة مباشرة بالقانون الدولي الإسلامي .

واستخدمت في هذه الدراسة وثائق إسلامية معاصرة ذات أهمية خاصة ، كونها صدرت من مجامع علمية لها قيمتها وثقلها في العالم الإسلامي من الفقهاء والعلماء والقانونيين المسلمين ، مثل :

1 ـ ميثاق منظمة المؤتمر الإسلامي الصادر عام 1972 .

2 ـ النظام الداخلي لمحكمة العدل الإسلامية الصادر عام 1986 .

3 ـ دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية الصادر عام 1979 .

4 ـ بيانات المؤتمرات الإسلامية ، مثل مجمع البحوث الإسلامية في الأزهر، ووثيقة مكة الصادرة عام 1990.

إن هذا الكتاب في الأصل رسالة ماجستير قدمتها إلى قسم الدراسات الإسلامية في جامعة ليدن بهولندا ، وحازت على درجة الامتياز . وأصل الرسالة باللغة الانجليزية ، فأعدت كتابتها باللغة العربية ، وأضفت إليها ما يهم القارئ العربي المسلم .

القانون الدولي والقانون الدولي الإسلامي

يعرّف القانون الدولي بأنه مجموعة القواعد التي تعين حقوق الدول وواجباتها المختلفة في علاقاتها المتبادلة [3][1]، أو مجموعة القواعد القانونية الملزمة للدول والشخصيات القانونية الدولية الأخرى في علاقاتها المتبادلة [4][2] . فالموضوع الذي يتعامل به القانون الدولي يقع خارج الدولة وليس في أنظمتها الداخلية . فهو ينصبّ على حقوق الدول وعلاقاتها مع بعضها . وقد أضيف إليه بعض الأفراد الذين يمثلون شخصيات دولية كالأمين العام للأمم المتحدة .

وتعود جذور القواعد الدولية إلى عصور سحيقة في التاريخ . فرغم عدم وجود علاقات وثيقة بين الوحدات الدولية والشعوب المتجاورة لكن الحاجة كانت تقتضي تنظيم بعض القضايا أو العلاقات المتبادلة في ظروف محدودة . فغالباً ما تنشأ حروب بينها ، وتنتهي بانتصار إحداها ، فيجتمع الفريقان لتنظيم قضايا تبادل الأسرى أو دفع الجزية أو الإتفاق على إنهاء حالة العداء بينهما ، أو المرور في أراضي الدولة الأخرى . وقد حفلت المصادر التاريخية باتفاقيات دولية في عهود الفراعنة والسومريين والآشوريين والبابليين واليونان والرومان والهند والصين وغيرهم . وشهدت روما والمدن والأقاليم المجاورة لها معاهدات صداقة تنص على احترام السفراء والمبعوثين ، وعلى التحكيم عند نشوء نزاع . ومنها نشأت بعض قواعد العرف الدولي ، وبتكرارها صارت قواعد قانونية دولية .

وبسبب النظرة الاستعلائية للرومان واليونان ، حيث أنها تعتبر نفسها شعوباً ممتازة ، وتعتبر الشعوب الأخرى همجية يجوز استعبادها بالقوة ، نشأت فكرة التمييز العنصري بين الدول; حيث امتازت تشريعات القانون الروماني بالكثير من المساواة بين أفراد الشعب الروماني ، في حين اختلفت تلك التشريعات عن التي وضعت لحكم شعوب الدول التابعة لروما أو ما كان يطلق عليهم البرابرة . وعندما يقع خلاف بين هذه الدويلات التابعة كانت روما هي التي تفصل فيه ، فنشأت بذلك فكرة وجود دولة كبرى لها صفة الرئاسة العليا بين الدول . وظلت هذه الرئاسة لأباطرة الرومان في عهد الدولة الرومانية الغربية (اللاتينية) . وبعد سقوطها عام 476 م انتقلت إلى الامبراطورية الرومانية الشرقية (البيزنطية) . ومن بعدها للامبراطورية الجرمانية التي نشأت عندما قام البابا ليو الثالث بتتويج شارلمان في روما عام 800 م . فلما ضعفت هذه انتقلت سلطة الرئاسة للبابا ، فجمع في يديه سلطة الرئاسة الدينية ، التي كانت له على جميع أنحاء العالم المسيحي ، وسلطة الرئاسة الدنيوية على أمراء وملوك الدول المسيحية [5][3] .

تأثير المسيحية على القانون الدولي

في العصور الوسطى بات من الضروري قيام البابا بتتويج الملك ومنحه بركته ، وأخذت المجالس الكنسية تضع القواعد الدولية وتعمل على إيجاد أسرة دولية تجمع بين دول أوربا الغربية تحت السلطة العليا للبابا . ومن القواعد التي وضعتها (صلح الإله) و (هدنة الرب) التي تنظم الصلح والهدنة بين الدول المسيحية المتحاربة . ووضعت قاعدة (هدنة الرب) في القرن الحادي عشر، ومفادها : أنه لا يحل لمسيحي أن يحارب مسيحياً آخر من غروب شمس الأربعاء حتى مطلع يوم الإثنين ، وشمل التحريم أيام الأعياد . وهي تشابة الأشهر الحرم في الشريعة الإسلامية ، وهي ذو القعدة وذو الحجة ومحرم لتأمين انتقال الحجاج من وإلى مكة المكرمة ، ورابع (رجب) يتوسط باقي أشهر العام .

وكثرت المؤتمرات الدينية والدولية التي يدعو إليها البابا ويحضرها الأمراء والملوك من دول أوربا المسيحية . وكان للحروب الصليبية دور رئيس في تشكيل الهوية الأوربية للشعوب المسيحية في أوربا . فقد كانت عاملاً هاماً في تكتل وتماسك الدول الأوربية بهدف تعبئة الناس للمشاركة في الأهداف المعلنة للحروب وهي (تخليص الأراضي المقدسة من أيدي الوثنيين وتحرير الصليب) . فلأول مرة تجتمع القارة الأوربية متخلصة من حواجز التباين والصراعات بين القبائل والشعوب والأجناس المتنوعة (فرنج وسكسون وجرمان ونورمانديين ولومبارديين وصقليين وبورغنديين) ، فعزز ذلك الجهد المشترك في الحروب ، عزز المفهوم السياسي والديني للعالم المسيحي ، والذي خلق بدوره المفهوم الثقافي لأوربا . وعندما حض البابا أوريان الثاني في خطابه الشهير الذي ألقاه في كليرمون (فرنسا) في تشرين الثاني 1095 المسيحيين على شنّ حرب على (الجنس الشرير) الذي كان يمتلك الأرض المقدسة ، إنما كان يعلن ميثاق المدنية الغربية [6][1] ، وقد أثر تماس المسيحيين مع المسلمين طوال قرنين من الحروب الصليبية على نمط المبادئ والأعراف التي اعتمدها الأوربيون فيما بعد . فقد كان للقواعد الشرعية الإسلامية كقواعد الحرب والسلم والهدنة والصلح وغيرها تأثير في القانون الدولي الأوربي ، فعندما عاد الملوك وأمراء الإقطاع إلى أوربا نقلوا معهم بعض النظم السياسية والإدارية ، فمثلاً كانت الدول الأوربية على شكل إقطاعيات كثيرة ، لكل جيشه وضرائبه وعلاقاته الداخلية والخارجية ، ورأوا أن الإسلام أرسى قواعد الدولة المركزية حيث يرأسها شخص واحد ، يقوم بتعيين وعزل الولاة على الأقاليم . فبدأ ملوك فرنسا بالقضاء على نظام الإقطاع ووحدوا دولهم ، وتبعهم ملوك إيطاليا وألمانيا . فأدى ذلك إلى ظهور دول في أوربا متحدة يستطيع رؤساؤها التحدث باسمها ، والارتباط مع الدول الأخرى بعلاقات دولية عامة ثابتة [7][2].

 

القانون الدولي الإسلامي

بدأ الاهتمام بالعلاقات الدولية بين المسلمين وغيرهم خارج الجزيرة العربية في المرحلة المكية ، عندما نصح الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) بعض أصحابه من المسلمين الأوائل بالهجرة إلى الحبشة للتخلص من ظلم قريش لهم . وجاءت سورة الروم تتحدث عن حرب بين دولتين عظميين في المنطقة (الروم والفرس) ، وحدد القرآن الموقف الإسلامي من تلك الحرب التي انتصر فيها الفرس ، وبشر المسلمين بانتصار الروم بعد بضع سنين . وحالما استقرت دولة المدينة باشر النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بإرسال رسائل إلى الدول الكبرى في المنطقة (بيزنطة وفارس ومصر واليمن والحبشة) يدعو زعماءها وشعوبها إلى الإسلام . وبعد ثمانين عاماً كانت الدولة الإسلامية أكبر امبراطورية في المنطقة تمتد من الهند شرقاً إلى إسبانيا غرباً . فأصبحت لها حدود مشتركة وطويلة مع العديد من الدول والشعوب غير المسلمة . وكانت علاقات الدولة الإسلامية (الأموية والعباسية) متوترة مع جميع جيرانها عدا الحبشة . وبسبب الحروب والمعارك كانت هناك حاجة ماسة لتنظيم فترات الهدنة والصلح والجزية وتبادل الأسرى وإقرار السلم .

بدأ الفقهاء المسلمون يتناولون قضايا القانون الدولي في كتب الفقه فيما يعرف بالسِّيَر (جمع سيرة) والتي يقصد بها طريقة معاملة المسلمين لغير المسلمين خارج (دار الإسلام) . وتتضمن لفظة السيرة معنيين ، الأول : والذي كان المؤرخون وأصحاب السير يستعملونه ، يعني قصة أو سيرة حياة الرجل . والثاني : وكان الفقهاء يستعملونه ويعني تصرف الدولة في علاقاتها مع الشعوب الأخرى [8][1] . يقول السرخسي في شرحه الوافي لكتاب (السير الكبير للشيباني) : إعلم أن السير جمع سيرة ، وبه سمي هذا الكتاب لأنه يبين فيه سيرة المسلمين في المعاملة مع المشركين من أهل الحرب ومع أهل العهد منهم من المستأمنين وأهل الذمة ومع المرتدين الذين هم أخبث من الكفار بالانكار بعد الإقرار ، ومع أهل البغي الذين حالهم دون حال المشركين وإن كانوا جاهلين وفي التأويل مبطلين [9][2] .

ومن أوائل الفقهاء المسلمين الذين تناولوا قضايا السير هو محمد بن الحسن الشيباني الذي كتب مؤلفه (السّيَر الكبير) ، وعبد الرحمن الأوزاعي (توفي 157 هـ، 774 م) من الذين عالجوا السير كموضوع مستقل من مواضيع الفقه . وكان سفيان الثوري (توفي عام 161 هـ، 778 م) والشعبي (توفي عام 104 هـ، 723 م) شديدي الاهتمام بموضوع الحرب . ويبدو أن آراءهما كان لها تأثير في أبي حنيفة (توفي عام 150 هـ، 768 م) وفي نفوس تلاميذه من بعده وخاصة أبو يوسف والشيباني اللذين عالجا الموضوع بإسهاب . ولم يعر فقهاء الحجاز كمالك بن أنس (توفي عام 179 هـ، 796 م) أقل اهتمام لأنهم كانوا بعيدين عن المناطقالتي حصل فيها الاتصال المباشر بين الإسلام وبين شعوب أخرى ، فلم يبالوا كثيراً بالمشكلات التي كانت تنشأ نتيجة لهذا الاحتكاك بين المسلمين وبين الشعوب الأخرى [10][3] . في حين كان فقهاء العراق من الحنفيين وفقهاء المغرب المالكيين على تماس مباشر مع الشعوب والدول غير الإسلامية .

وجرى تصنيف العالم إلى (دار الإسلام) و(دار الحرب) ، وهي تسميات لم ترد لا في القرآن الكريم ولا في السنة النبوية ، بل مجرد مصطلحات ابتكرها الفقهاء للتمييز بين الأرض الإسلامية التي يسودها القانون الإسلامي والأراضي التي تعود لغير المسلمين وتسودها قوانين غير إسلامية . وكان الفقهاء القدامى يتناولون موضوع السير إما في باب الجهاد أو أبواب أخرى كالمغازي والغنائم والردة وعهد الأمان . ويشبه التقسيم الإسلامي من حيث المبدأ على الأقل ، ما قبله البلشفيك في روسيا ، فهذه البلاد هي الوطن العام لكل شيوعي و(دار السلام) للقائلين بهذه الأيديولوجيا ، وما بقي من العالم حيث يسود أصحاب الأموال فهي (دار حرب) يتعين فيها على كل ثائر شيوعي أن يتخذ جميع الوسائل ، هو وحزبه ، للإستيلاء على مقاليد السلطة فيها [11][4] .

وقد تناول أبو حنيفة وتلامذته بعض المفاهيم ذات الصلة بالقانون الدولي مثل مبدأ المعاملة بالمثل أي معاملة غير المسلمين الداخلين إلى دار الإسلام كما يعامل المسلمون في دار الحرب . كما ينطبق هذا المبدأ أيضاً على التمثيل الدبلوماسي رغم أن حصانة الممثل الدبلوماسي كان عرفاً متبعاً في التمثيل الدبلوماسي . ويطبق أيضاً في تبادل الأسرى وفي دفع الفدية . وكانوا يعتبرون المسلمين وغير المسلمين شخصيتين لكل منهما وضعها القانوني سواء كانوا أفراداً أو جماعات . وكان لانفصال الأقاليم آثار قانونية تمس علاقات المسلمين مع غيرهم من الشعوب . وهكذا نجد أن أبا حنيفة ، في الوقت الذي كانت فيه الشريعة الإسلامية ملزمة لكل مسلم في أي إقليم يقيم فيه ، يدخل فكرة الإقليمية في العلاقات بين المسلمين وغير المسلمين . وعليه صار استنباط الأحكام الشرعية المتعلقة بهذا الموضوع يستند إلى العرف والقياس وإلى الإقليمية أو (الدار) بالاصطلاح الإسلامي . وقد اختلف فقهاء آخرون كالأوزاعي مع أبي حنيفة حول فكرة الإقليمية .

وينشأ عن هذا المبدأ الأساسي قضية أخرى وهي أنه على المسلمين أن يعترفوا بأحكام البلدان غير الإسلامية وقوانينها على أنها ملزمة للمسلمين عندما يكونون مقيمين في دار الحرب . وكان أبو حنيفة يعتبر أعمال الأفراد المسلمين المقيمين في دار الحرب التي تخالف قوانين البلاد أعمال سرقة وقطع سبيل .

وإذا كان الغرب يعتبر العالم والسياسي الهولندي هوجو دي غروت  HugoDE Groot الذي عاش في القرن السابع عشر هو أبو القانون الدولي فإن بعض الباحثين الغربيين يعتبرون الشيباني (دي غروت الإسلام) . وقد اعترف هانس روزه (إن إحلال الشيباني محلاً رفيعاً في تاريخ القانون الدولي محلاً يستحقه بجدارة) ، فأسس عام 1955 (جمعية الشيباني للقانون الدولي) [12][5].

الدولة الإسلامية والقانون الدولي الحديث

بقي العالم منقسماً إلى وحدات دولية على أساس ديني ، أوربا المسيحية ، والشرق الأوسط الإسلامي ، والهند والصين وما جاورها هندوسية وبوذية وكونفشيوسية . ورغم وجود عدة دول ووحدات سياسية داخل الكيان الديني لكن العامل الديني بقي يسيطر على فكرة التقسيم الدولي . وبدأ القانون الدولي يتطور حين أقر مبدأ الفصل بين العقائد الدينية وبين العلاقات الخارجية . وقد أدى هذا المبدأ إلى إعادة القضايا الدينية إلى إطارها الداخلي الوطني ، بالخلاف من العقيدة الإسلامية التي تعتبر المسلمين كياناً واحداً أو ما يعرف بالأمة الإسلامية ، رغم وجودهم في دول متعددة جغرافياً وسياسياً . ففي مطلع القرن السادس عشر كان العالم الإسلامي ينقسم إلى ثلاث وحدات سياسية مستقلة هي الدولة العثمانية في تركيا والدولة الصفوية في إيران والدولة المغولية في الهند . ورغم وجود تنافس واختلاف مذهبي وحروب دامية بين العثمانيين والصفويين لكنهم اضطروا إلى تنظيم علاقاتهما على أسس علمانية واعتراف كل دولة بالأخرى . في حين كانتا ترفضان تنظيم علاقاتهما على أساس المساواة والمعاملة بالمثل . فعندما أعلنت إيران المذهب الشيعي مذهباً رسمياً للدولة ، غضب الباب العالي ، ولم يعترف بحق هذه الدولة بالإعلان عن مذهبها الرسمي كما تعلن الدولة العثمانية عن مذهبها السني ، فأصدر السلطان أوامره بطرد وقتل المواطنين الشيعة المقيمين داخل الدولة العثمانية . ورداً على ذلك وحسب مبدأ المعاملة بالمثل راحت إيران تطرد أو تقتل المواطنين السنة القاطنين في بلادها .

ولعل أهم التغييرات التي تناولت العلاقات بين المسلمين وغير المسلمين هو إقرار العلاقات السلمية بين الشعوب المختلفة ديناً وعرقاً . فقد عقد السلطان سليمان القانوني عام 1535 معاهدة مع ملك فرنسا ، فرنسيس الأول ، تضمنت الاعتراف بأن السلم هو القاعدة التي تنظم علاقات المسلمين بغيرهم . واعتبرت المعاهدة ملك فرنسا ومبعوثيه على قدم المساواة مع السلطان العثماني وممثليه . وتنص المادة الأولى على قيام سلام قانوني وأكيد بين السلطان العثماني وملك فرنسا ، ما داما على قيد الحياة ، وعلى منح رعاياهما المقيمين في بلاديهما حقوقاً متبادلة . وقد أعفي الرعايا الفرنسيون من دفع الجزية . كما أنهم منحوا حرية ممارسة عقائدهم الدينية ، وحق المقاضاة في محاكمهم القنصلية بحسب قوانين بلادهم [13][1] . وهو أمر يحدث لأول مرة حيث يطبق قانون غير إسلامي في محاكم على أراض إسلامية . كما أنه جرى إعفاء غير المسلمين المقيمين في الأراضي الإسلامية من دفع الجزية . ولم يجرِ تحديد إقامتهم كما في السابق حيث لا يتجاوز عهد الأمان السنة الواحدة . كما أن المعاهدة غير محددة الأمد في حين كان الفقهاء القدامى يشترطون أن لا تزيد مدة الصلح على عشر سنوات .

ومن التغييرات الهامة في نظرة المسلمين وعلاقاتهم بغيرهم هو قبولهم بمبدأ سيادة الأرض وسيادة قانون ذلك الإقليم ، تلك السيادة التي تفرضها طبيعة انفصال الإقليم عن غيره من الأقاليم . فقد كانت نظرة الدولة الإسلامية أنها دولة عالمية والقانون شخصي لا علاقة له بالأرض . فأصبح المواطن يظهر ولاءه للدولة المستقلة داخل إطارها استقلالاً كاملاً وليس للدولة العالمية الشاملة . وجرى تعزيز المفهوم الأوربي لفصل الإقليم واحترام حدوده وتطبيق قانونه فوق أراضيه . إن مبدأ تبعية المواطن لدين حاكمه الذي تبنته الدول الأوربية أول مرة في معاهدة الصلح المعروفة بمعاهدة أوجزبرج سنة 1555 أصبح أساساً للنظام الأوربي بعد معاهدة وستفاليا عام 1648 ، كما أنه كان عاملاً فعالاً في تنسيق العلاقات بين الدول المسيحية في أوربا ، ثم في تنسيق علاقتها مع العالم الخارجي الذي لا يدين بالمسيحية وفي تمهيد السبيل لخلق مجتمع دولي [14][2] .

لقد تطور القانون الدولي المسيحي منذ معاهدة وستفاليا التي حققت ما يلي :

1 ـ أنها قضت على نفوذ البابا في رئاسته على الدول ، فقضت بذلك على فكرة وجود رئيس أعلى يسيطر على الدول الأوربية .

2 ـ أقرت مبدأ المساواة بين الدول المسيحية جميعها سواء الكاثوليكية أو البروتستانتية ، الملكية أو الإقطاعية ، وذلك باجتماعها في مؤتمر عام لم يدع إليه البابا .

3 ـ أحلت نظام السفارات الدائمة محل السفارات المؤقتة ، مما أدى إلى دوام اتصال الدول بعضها ببعض.

4 ـ أنشأت المعاهدة فكرة التوازن الدولي في أوربا ، كوسيلة أساسية من وسائل حفظ السلام ، ومفادها أن تتكاتف الدول على الحيلولة دون توسع أي دولة على حساب دولة أخرى . فقررت استقلال كثير من الدول التي التهمتها الامبراطورية الجرمانية من قبل .

5 ـ فتحت باب تدوين قواعد القانون الدولي العام بتسجيلها في المعاهدات المقبلة تباعاً .

ومن الأحداث السياسية الهامة هو انضمام روسيا إلى جماعة الدول الأوربية واعتبارها دولة كبرى ، وإعلان استقلال أمريكا عام 1776 ثم قيام الثورة الفرنسية عام 1789 التي نادت بحق الأمم في اختيار نظمها الدستورية بحيث لا يفرض على دولة ما نظام ملكي بحجة التوازن الدولي أو الإبقاء على العروش المسيحية الأصيلة . وقد حققت أوربا انجازاً كبيراً حين اتفقت جميعاً ضد نابليون الذي أخذ يتوسع من اجل تكوين امبراطورية عظيمة ، فهزمته أوربا ، ثم اجتمعت في مؤتمر فينا عام 1815 حيث وضعت قواعد دولية جديدة . فقد أعاد الملكية إلى بروسيا (ألمانيا) والنمسا ، وضم السويد إلى النرويج وجعل منهما دولة اتحاد حقيقي . كما ضم بلجيكا إلى هولندا كدولة ملكية قوية ، وجعل سويسرا دولة محايدة لتكون سداً يصد التوسع الفرنسي مستقبلاً [15][3] .

لم تكن الدول الأوربية تعتبر الدولة العثمانية عضواً في المجموعة الأوربية ولا خاضعة للقانون الدولي الأوربي لأن العرف الأوربي لم يكن ملزماً لغير الأوربيين . وفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر ارتأت الدول الأوربية أن تعامل تركيا بوصفها عضواً في المجموعة الأوربية . كما سمحت لتركيا أن تكون عضواً يشترك في القانون العام ضمن مجموعة الأسرة الأوربية بدعوة من الدول التي وقعت معاهدة باريس (30 آذار 1856). وكانت تركيا قد أخذت قبل عام 1856 سنوات كثيرة تعمل طبقاً للقانون الدولي بإقامتها علاقات دبلوماسية وبعقدها معاهدات مع الشعوب الأوربية .

الإسلام المعاصر والقانون الدولي

بعد انهيار الدولة العثمانية عام 1918 بهزيمتها في الحرب العالمية الأولى ، وقعت بقية الأقاليم الإسلامية تحت الاحتلال الأجنبي . فأصبح نصف العالم الإسلامي تحت الاحتلال البريطاني والنصف الآخر تحت الحكم الفرنسي والهولندي والإيطالي والإسباني . ولم يأت عام 1920 حتى قررت عصبة الأمم فرض الانتداب على العراق وسوريا وفلسطين والأردن ومصـر تنفيذاً للقرار الدولي . وفي السنوات اللاحقة بذل المسلمون تضحيات جسيمة من أجل نيل الاستقلال . وعندما حققـت هذا الهـدف أرادت ممارسـة حقوقها بما تتطلبه منها شخصيتها الدولية ، فأخذت تعقـد الاتفاقيات ، وتنضـم إلى المعاهـدات والمنظمـات الدوليـة .

ولما كان القانون الدولي المطبق في هذه المنظمات والمعاهدات يستند أساساً إلى قواعد وأعراف غير إسلامية ، ولما كانت الحكومات والدول التي أقيمت بعد الاستقلال دولا قومية وعلمانية فلم تكن هناك صعوبات أو مشاكل فيما يتعلق بطبيعة التعامل مع القانون الدولي . ولكن بعد الصحوة الإسلامية وتأسيس أول جمهورية إسلامية عام 1979 ، وسعي العديد من الأنظمة والحكومات إلى الانسجام مع القواعد والتعاليم الإسلامية بدأت إثارة بعض التساؤلات والإشكالات حول تعامل الإسلام مع القانون الدولي ، أي هل يوجد مانع شرعي وفقهي من القبول بالتعامل مع مبادئ القانون الدولي ؟ وهل الأفضل التعامل معه أم تأسيس قانون دولي إسلامي ؟ وهل تختلف مبادئ ومصادر القانون الدولي عن مصادر القانون الدولي الإسلامي ؟

يرى بعض الباحثين أن مصادر القانون الدولي الإسلامي بموجب مفاهيم القانون الدولي المعاصر تتفق عموماً مع القواعد الكلية التي حددها الفقهاء المعاصرون وفقهاء القانون ، والمنصوص عليها في القانون الأساسي لمحكمة العدل الدولية . ويمكن جمع هذه المصادر في أربع فئات: العرف والسلطة والعقد والعقل . فالسنّة والعادات المحلية هي ما نسميه بالعرف . وأما القرآن الكريم والسنة الشريفة فهي المصدر الذي نسميه السلطة . وأما المبادئ والقوانين التي كانت تتضمنها المعاهدات التي كان يبرمها المسلمون مع غيرهم من الشعوب فإنها تمثل مبدأ العقد . وأما المؤلفات الفقهية التي ترتكز على مصادر الشريعة فهي التي تمثل العقل [16][1] .

ونرى أن التشريع الإسلامي يمتلك من الاتساع والمرونة ما يمكنه أن يتعامل مع القانون الدولي بمنحى إسلامي دون فقدان حالة المعاصرة والتطور التشريعي والتغييرات الدولية . وقد اخترت بعض المفردات الدولية كدليل على قابلية الفقه الإسلامي لاستيعاب تطور العقل البشري وتغير النظم والقوانين ومسايرة مصلحة الإنسانية طالما أن الإسلام صالح لكل زمان ومكان .

العلاقات الإسلامية ـ الأوربية في التاريخ

تمثل العلاقات بين الغرب والعالم الإسلامي دوراً متبادلاً في المشهد التاريخي . أحياناً يأتي المسلمون إلى أوربا (إسبانيا ، صقلية والبلقان) ، وأحياناً يذهب الغرب إلى العالم الإسلامي (الصليبيون ، الاستعمار) . وتتغير العلاقات ، حسب الظروف ، من المصالح الاقتصادية المشتركة والدبلوماسية المتبادلة إلى الحروب والمعارك . وكان سوء الفهم وعدم الثقة هما أبرز معالم العلاقات التاريخية بينهما .

لقد كان أول انطباع لامبراطور بيزنطة هرقل Heraclius (حكم610 ـ 641 م) إيجابياً تجاه الإسلام . فقد وصلته رسالة من الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) عام 6 هـ/628م يدعوه فيها إلى الإسلام . وقبل أن يتخذ أي موقف من الدين الجديد أخذ يسأل عن الرسول الجديد . يقول الطبري «فلما قدم عليه كتاب رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) مع دحية بن خليفة ، أخذه هرقل ، فجعله بين فخذيه وخاصرته» [17][1]، وطلب معلومات حول النبي(ص) ، فجلب له أبو سفيان إذ تصادف أنه كان في تجارة له بالشام ، فسأله عنه . وتقول بعض المصادر الإسلامية أن هرقل كاد أن يعتنق الإسلام ، «وأنه قد جمع البطارقة والقساوسة وقال لهم : يا معشر الروم ، إني جمعتكم لخير ، إنه أتاني كتاب هذا الرجل يدعوني إلى دينه; وأنه والله للنبي الذي كنا ننتظره ونجده في كتبنا ، فهلموا فلنتبعه ونصدقه ، فتسلم لنا دنيانا وآخرتنا» [18][2]، لكنهم رفضوا مقالته .

في عام 8هـ/629م أرسل الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) جيشاً لقتال الروم يتألف من ثلاثة آلاف محارب ، حيث التقى الجيشان في واقعة مؤتة ، التي خسر فيها الجيش الإسلامي واستشهد قادته الثلاثة [19][3] . ولم يكن الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) مطمئناً لنوايا الروم ، ففي عام 9هـ/630م وصلته أنباء عن حشود على الحدود مع الجزيرة ، فجهز جيشاً قاده بنفسه(صلى الله عليه وآله وسلم) ، لكنه لم تحدث معركة ، ووصل الجيش الإسلامي حتى منطقة تبوك .

وبعد وفاة الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) بدأ الخليفة أبو بكر الصديق ستراتيجية جديدة تمثلت بالتوسع في الفتوحات شمال الجزيرة العربية . بدأت الحملات العسكرية بفتح العراق عام 12هـ/633م ودحر الامبراطورية الساسانية ، ثم سوريا عام 13هج/634 م ثم عاصمتها دمشق عام 14هـ/635م التي خسرتها الامبراطورية البيزنطية .

وفي العام التالي حقق خالد بن الوليد انتصاراً ظافراً على جيش هرقل في معركة اليرموك ، حيث واجه الجيش الإسلامي وتعداده 25 ألف رجل الجيش البيزنطي وهو ضعف عدده . وخلال سبع سنوات (633 ـ 640م) أصبحت كل الشام تحت الحكم الإسلامي ، من البحر الأحمر حتى جبال طوروس [20][4] .

واستطاع قائد آخر هو عمرو بن العاص أن يفتح مصر ، المقاطعة البيزنطية الشقيقة ، عام 20هـ/641م. وكانت مصر تمثل مخزن قمح الامبراطورية الرومانية الشرقية ، وأغنى ممتلكاتها . إذ كانت مصر نقطة انطلاق لبقية النفوذ البيزنطي في شمال أفريقيا لينتهي في صقلية وإسبانيا 

العلاقات الاسلامية الاوربية في التاريخ

إسبانيا

تقدمت الفتوحات الاسلامية بسرعة فائقة ، حتى قيل أن العرب فتحوا نصف العالم في نصف قرن ، أو مقولة نابليون أن العرب فتحوا في 90 عاماً ما فتحه الرومان في 900 عام . وبعد مصر وأفريقيا(تونس) اتجهت الجيوش الإسلامية غرباً لتحرر شمال أفريقيا بكامله إلى وصلت على ضفاف الأطلسي . وأصبحت القيروان ، في تونس، مركز قيادة موسى بن نصير وجنوده من البربر الذين اعتنقوا الإسلام وساهموا في نشره في تلك المنطقة . في عام 92هـ/711م أرسل موسى أحد قواده الأشداء ، طارق بن زياد ، على رأس قوة مؤلفة من 700 جندي ليعبروا البحر باتجاه الساحل الإسباني [21][1] . وكانت القوة قد عبرت مضيق جبل طارق بمراكب أرسلها الحاكم البيزنطي جوليان  Julianلمدينة سيوتا Ceuta، وكان الحاكم في صراع مع الملك القوطي رودريك Roderick [22][2]، فاستنجد بالمسلمين لمساعدته ، فأمده موسى بقوة عسكرية من العرب والبربر . لقد استنجد جوليان بقوة أجنبية لمواجهة الملك رودريك . وكان يعتقد أنها قوات نجدة فقط ، ولكن قوات طارق بن زياد استمرت في تقدمها ، لتصبح نواة دولة مسلمة تحكم إسبانيا لمدة ثمانية قرون (711 ـ 1492م) [23][3] . وقد عزز موسى قوات طارق ، فجهز جيشاً من عشرة آلاف يقوده بنفسه . وعاد موسى بن نصير بالغنائم والأسرى ، ومن بينهم 400 أمير قوطي يلبسون التيجان والملابس الفاخرة . وهو اول مشهد يرى فيه المسلمون عائلة ملكية غربية في الأسر .

أسس المسلمون دولة عظيمة في الأندلس ، وكانت لديهم خطط للتوسع في العمق الأوربي . ففي عام 717 م ، أي بعد ست سنوات على دخولهم إسبانيا ، قام القائد عبد الرحمن الغافقي بحملة عسكرية ، إذ عبر جبال البرانس  Pyreneesباتجاه فرنسا . وصل عبد الرحمن مقاطعة بوردو Bordeaux وتوقف بجوار تور Tours على مشهد من كنيسة سانت مارتن . St.Martin، وفي تشرين الأول 732م التقى جيش عبد الرحمن مع قوات تشارلس Charles، الذي لقب فيما بعد بمارتل Martel (أي المطرقة) . وكان شارل مارتل رئيس البلاط الفرنسي ، وجد شارلمان [24][4] . وقد خسر المسلمون في معركة بلاط الشهداء خسارة كبيرة ، واستشهد قائدهم. وفي الليل غادر الجنود المنطقة منسحبين إلى إسبانيا ، ولم يعد يفكر أحد بفتح فرنسا .

صقلية

كان بنو الأغلب يحكمون شمال أفريقيا في العصر العباسي . وكان حاكم القيروان زيادة الله (حكم 817 ـ 838 م) قد تلقى طلباً من مجموعة من الثوار على الحكم البيزنطي لصقلية Sicily وسرقوسة Syracuse، فأرسل حملة بحرية تمكنت من فتح باليرمو Palermo عاصمة الجزيرة . وتقدم الجيش الإسلامي ليحكم سيطرته على بقية أنحاء الجزيرة ، ولتبقى 240 عاماً بأيدي المسلمين . وأصبحت صقلية أكبر قاعدة بحرية للأسطول الإسلامي في البحر المتوسط . وامتد تأثير المسلمين ليس إلى الأطراف الجنوبية لإيطاليا فحسب ، بل وصل التهديد إلى نابولي Naples وبقية المدن الشمالية ، وحتى روما نفسها تعرضت للتهديد عام 846 م .

وفي عام 1071 سقطت باليرمو بأيدي الفاتحين النورمان Norman، وعادت صقلية مرة أخرى للنفوذ المسيحي . وكان النورمان قبائل غير متحضرة ، ولذلك أبقوا على الإدارة والتنظيمات القانونية التي أقامها المسلمون ، وحتى الموظفين المسلمين بقوا يزاولون أعمالهم في الكتابة والترجمة والحسابات والرسائل . وقد أحاط الملوك النورمان أنفسهم بالعلماء المسلمين من فلكيين وأطباء وفلاسفة . وقد كتب الجغرافي المسلم الإدريسي (ت 1166م) كتابه المعروف (كتاب روجر) بناءً على طلب الملك روجر Roger [1][1].

لقد مثلت إسبانيا وصقلية جسراً عبرت عليه الثقافة الإسلامية فكراً وعلماً وفلسفة إلى أوربا . ومن خلالهما وصلت كتب العلماء والفلاسفة المسلمين إلى المراكز العلمية الأوربية بعد ترجمتها إلى اللغات الأوربية . وبقيت بعض الكتب العربية مراجعاً لعدة قرون في أوربا ، مثل كتاب (القانون) لابن سينا الذي طبع 30 طبعة لاتينية في الثلاثين سنة الأخيرة من القرن الخامس عشر . وكتاب الزهراوي في الطب بقي مرجعاً في مدارس الطب مثل مدرسة Salerno في إيطاليا ومدرسة Montpeller في فرنسا . وكان مزيناً بالصور مما يدل على خبرة الزهراوي بالتشريح وتقنيته وآلاته . وكان كتاب الكيمياء لجابر بن حيان وجداول الخوارزمي الفلكية مراجع معتمدة في هذه العلوم . وكان لابن رشد Averroes ه( 1126 ـ 1198م) دور في الفلسفة الأوربية . فقد اطلع الأوربيون على آراء أرسطو من خلال تعليقاته والنصوص التي يوردها في مقالاته . وكان للمدرسة الرشدية Averroism تأثير كبير في الأوساط الفكرية والعلمية الأوربية ، وهيمنت على جامعات باريس ونابولي . وقد درس توما الإكويني  AquinasThomas (ت 1274) الإيطالي رائد الفلسفة في جامعة نابولي . ودرس روجر بيكون Bacon Roger (ت 1294) الإنجليزي في جامعة باريس . ويعد بيكون رائد المنهج التجريبي في الفكر

العلاقات في العصور الأولى (Middle Ages)

كانت الكراهية والعداء هما الملامح البارزة التي هيمنت على العلاقات بين الشرق الإسلامي والغرب المسيحي . وخلال قرون نشأت مصالح مشتركة بين العالم الإسلامي وأوربا . وكانت التجارة المحور الرئيس للنشاط الاقتصادي في تلك المرحلة . فكانت حركة الاستيراد والتصدير على أوجها لنقل المنتجات والبضائع في أرجاء العالم ، من الصين شرقاً إلى إسبانيا غرباً ، تعبر القوافل التجارية الصحارى والجبال وتمر بمختلف الدول والأمم والشعوب ، وتمخر السفن عباب البحار من أجل إيصال بضائعها ، متحملة الأهوال والمخاطر .وكان لهذه النشاطات التجارية دور في نشوء علاقات بين الملوك والأمراء والسلاطين والشعوب . فكان التجار ورجالهم يرحلون من بلد إلى بلد ، ويقيمون في هذه المدينة وتلك من أجل تجارتهم . واستمرار التجارة والنقل والسفر يحتاج إلى اتفاقيات سلم ومعاهدات تسمح بالمرور والإقامة وتنظيم الضرائب على القوافل والسفن . فكان الحكام يقومون بهذه المعاهدات لتشجيع التجارة وما تجلبه من خير ودخل للحاكم .

بالإضافة إلى التجارة ، كانت هناك أنواع أخرى من الارتباطات ، فكانت هناك علاقات ثقافية ودبلوماسية وسياحة وحج وسفر طلباً للعلم وغيره . في عام 765م أرسل ملك فرنسا Pippin بعثة دبلوماسية إلى الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور . عادت البعثة بعد ثلاث سنوات ترافقها سفارة عباسية مع هدايا من الخليفة . إستقبل الملك (ببين) المبعوثين المسلمين باحترام وحفاوة ، ثم أذن لهم بالعودة عن طريق مرسيليا Marseilles [25][1]. وفي عهد هارون الرشيد (حكم 786 ـ 809م) وولده المأمون (حكم 813 ـ 833م) شهدت العلاقات مع أوربا ذروتها . فقد غدت بغداد عاصمة دولية للتجارة ومركزاً صناعياً . وكانت ثروات البلاط العباسي تزداد غنىً ، من الجزية السنوية التي يدفعها امبراطور بيزنطة ، إثر انتصار هارون عليه في وقت مبكر . وكان الرشيد والمأمون يتبادلان الهدايا مع شارلمان Charlemagne، الذي غدا حليفاً أوربياً جيداً ضد الدولة الأموية في الأندلس .

يصف أحد المؤرخين الفارق الشاسع بين البلاطين العباسي والفرنسي فيقول: «كان شارلمان ومساعدوه يواجهون مصاعب في القراءة والكتابة ، في حين كان البلاط العباسي يعجّ بالشعراء والكتّاب والعلماء والفقهاء والموسيقيين والمغنين . وكان بينهم عدد من المترجمين الذين يجيدون عدة لغات أجنبية» [26][2]. وكانت هناك رسائل متبادلة بين الملوك ، وقد ذكرت التواريخ بعض هذه الرسائل . فكانت تتضمن شتى المواضيع والشؤون كالاتفاقيات السلمية ، وتهديدات بشن الحرب ، ودعوة للإسلام ، وجدل ديني حول الألوهية والنبوة ، وطلب كتب أو شراء عبيد ، وتبادل أسرى أو معاهدات تجارية . وكانت العلاقات تعتمد كلياً على طبيعة مواقف الحكام وأمزجتهم ومصالحهم ، والظروف التي تمر بها الدول ، والاستقرار والأمن على الحدود .

وقد أرسل شارلمان ملك فرنسا وابن ببين ، عدة بعثات إلى الشرق ، إثنتين منها إلى هارون الرشيد عامي 797 و802 م. أما العداء مع بيزنطة فقد كان قاسماً مشتركاً بين الدولة العباسية وأوربا الرومانية. وفي العصر العباسي ساءت العلاقات مع بيزنطة في فترات متلاحقة . ففي عام 782م شن الخليفة المهدي (حكم 775 ـ 805م) حملة عسكرية على القسطنطينية ، أدت إلى توقيع معاهدة مهينة للروم البيزنطيين ، إذ تضمنت أن تدفع الإمبراطورة إيرينا Irene جزية سنوية مقدارها 70 ألف درهم . وحاول خليفتها الإمبراطور نقفور الأول Nicephorus (802 ـ 811م) أن يتخلص من هذا الالتزام المالي الباهض ، وطالب الرشيد بإعادة ما دفع من مبالغ . وأرسل رسالة ذات لهجة حادة إلى هارون جاء فيها :

من نقفور ملك الروم إلى هارون ملك العرب .

أما بعد : فإن الملكة التي كانت قبلي أقامتك مقام الرخ ، وأقامت نفسها مقام البيدق ، فحملت إليك من أموالها ما كنتَ حقيقاً بحمل أضعافه لها ، ولكن ذلك ضعف النساء وحمقهن . فإذا قرأت كتابي هذا أردد ما حصل لك من أموالها ، وإلا فالسيف بيننا وبينك [27][3] .

غضب الرشيد كثيراً من تهديد نقفور ، فكتب له جواباً جاء فيه :

بسم الله الرحمن الرحيم

من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم ، وقد قرأت كتابك يا ابن الكافرة ، والجواب ما تراه لا ما تسمعه [28][4] . فشن حملة عسكرية هاجم فيها آسيا الصغرى ومدينة هرقلية Heraclea على البحر الأسود ، فاحتلها وسبى أهلها . ثم عقد صلحاً مع نقفور مع دفع جزية سنوية ، وجزية شخصية عن نقفور وعائلته [29][5] . وخلال الهجوم الإسلامي ، اُسرت إحدى الفتيات الروميات ، وكانت خطيبة لابن الامبراطور نقفور ، فأرسل رسالة إلى الرشيد راجياً إياه أن يعيدها ، فلبى الرشيد طلبه وأرسلها له مع هدايا [30][6] .

ولم تكن العلاقات متوترة طوال الوقت ، بل تخللتها فترات من الهدوء والاستقرار والأمن ، وكانت الدولة الإسلامية تمارس وظيفتها في الدعوة إلى الإسلام وتبليغ مبادئه وأحكامه إلى الناس كافة . فكتب التاريخ تنقل بعض هذه الجهود ، سواء بالسفارات أو بالرسائل . فقد أرسل هارون الرشيد رسالة طويلة ، كتبها الفقيه إبن الليث ، إلى الامبراطور قسطنطين Constantine يشرح فيها عقائد الإسلام بأدلة عقلية ، وتاريخ الإسلام ، واحتجاجات ومناقشات دينية حول صحة نبوة الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) ، وتفنيد العقيدة المسيحية ، ويحبذ له دخول الإسلام ونتائجه وعواقبه [31][7] . وأرسل المأمون رسالة إلى الامبراطور ثيوفيل Theofel يعلمه فيها بقبول الهدنة بين الدولتين ، والتي تضمنتها رسالة الامبراطور إليه .

ومن القضايا الإنسانية الشائعة بين الدولتين ، هي تبادل الأسرى . وتحتاج عمليات التبادل إلى مفاوضات واتفاقيات يتم فيها تثبيت أعداد الأسرى من كلا الطرفين ، ومواعيد التسليم ، ومكان التبادل ، الذي يكون غالباً عند الحدود ، ويشرف عليها حكام المقاطعات الحدودية . في عام 283هـ/896م ، مثلا; حدثت عملية تبادل أسرى بين الامبراطوريتين العباسية والبيزنطية ، بإشراف حاكم طرسوس ، أحمد بن طغان ، والذي أرسل رسالة إلى الخليفة المعتضد يخبره فيها بنجاح المهمة التي أوكلت إليه . وقد استغرقت العملية إثني عشر يوماً تم فيها استرجاع 2504 أسيراً مسلماً من رجال ونساء وأطفال . وفي اليوم التالي تم إطلاق سراح المبعوث الرومي سيمون ، وأطلق الروم سراح المبعوث العباسي يحيى بن عبد الباقي [32][8] .

ولا يقتصر تبادل العلاقات مع أوربا على العصر العباسي ، بل كان للدول الإسلامية عبر التاريخ علاقات واسعة معها ، كالدولة الإخشيدية والطولونية والفاطمية والأيوبية والمملوكية .

مرحلة الحروب الصليبية

تمثل المرحلة الصليبية فترة مظلمة في تاريخ العلاقات بين أوربا والعالم الإسلامي ، مرحلة مليئة بالعنف والحروب والنهب والمذابح الوحشية وتدمير المدن ، وتصاعد الحقد والكراهية وعدم الاستقرار . من جانب آخر كانت مناسبة لاكتشاف كل طرف الطرف الآخر عن قرب ، وعبر التعامل المباشر . يعلق الباحث نورمان دانييل Norman Daniel على المزاعم المسيحية فيقول : «لقد اعتبر المسيحيون الحروب الصليبية حرباً مقدسة War Holy من أجل انتزاع الأرض التي تعود للمسيحيين . ولا زالوا يعتقدون بأنهم الأمة الوحيدة التي نهب منها ثلث أفضل ممتلكات الكنيسة بعد ظهور الإسلام» [33][1].

بدأت الخطوة الأولى من الحروب الصليبية ، عندما وجه الإمبراطور البيزنطي الكسيوس كومونيس Communes Alexius (حكم 1081 ـ 1118م) نداءات متكررة طالباً مساعدة بابوية لمواجهة احتلال الأتراك السلاجقة جزءاً من أراضي الإمبراطورية، ليس بعيداً عن العاصمة القسطنطينية. ورداً على استغاثته ، ألقى البابا أوربان الثاني II Urban (1088 ـ 1099م) خطاباً في عام 1095 ، جنوب فرنسا ، قريباً من الحدود الإسلامية لإسبانيا . وكان خطابه مليئاً بالإشاعات عن وحشية المسلمين وفظاعتهم ، ملمحاً إلى الأطماع الشخصية ومؤكداً على أتباعه «في دخول الطريق إلى الضريح المقدس ، وانتزاعه من العنصر الشرير ، ووضعه بأيديهم» [34][2]. ورفع شعاراً دينياً يبرر الحملات المرتقبة ويشجع الناس عليه ، فكان شعار (هذه مشيئة الله) هو القادر على تعبئة الجماهير . وسرعان ما انتشرت دعوة البابا مثل النار في الهشيم من فرنسا إلى بقية الأوربيين ، غني وفقير ، شاب وكهل . فقد تبنى التبشير بالحركة الصليبية بطرس الناسك الذي كان يتمتع بالفصاحة والقدرة على التأثير ، فطاف أقاليم فرنسا ليخرج منها بخمسة عشر ألف متطوع معهم نساؤهم وأطفالهم .

وبحلول عام 1097 كان هناك 000ر150 محارب صليبي قد وصلوا القسطنطينية ، معظمهم قدم من فرنسا والنورمان .

وهناك عدة أسباب داخلية وخارجية مهدت الأجواء لتنامي الحملات الصليبية وهي :

1 ـ يدعي الباحث أرنست باركر Barker Ernest أن السلاجقة قد احتلوا القدس عام 1071 ، وهم قوم قساة ، لا يعرفون التسامح مثل الحكام المسلمين السابقين ، أي الفاطميين . فكان المسيحيون يواجهون صعوبات كثيرة أثناء رحلتهم إلى حج القدس [35][3] . «فأدرك المسيحيون في الغرب ما يعترض طريقهم ، ويمنع حركتهم الطبيعية نحو منبع ديانتهم ، فكان من الطبيعي أنه لا بد لهم آخر الأمر أن يبذلوا جهدهم في تمهيد طريقهم».

وهذا السبب الذي يعرضه باركر مبالغ فيه لأن طريق القدس بقي مفتوحاً أمام المسيحيين في كل العصور ، وحتى في المرحلة الصليبية وما بعدها مما يشير إلى التسامح الإسلامي الفريد من نوعه . ومتناسياً أنه عام 1021 م أصبح الإشراف على الأماكن المقدسة ، مثل كنيسة القيامة وبيت لحم والمؤسسات الملحقة بها كالمستشفى والمدرسة ، من قبل الإمبراطورية البيزنطية ، بعد أن كانت حتى ذلك الوقت برعاية الكنيسة اللاتينية الرومانية . ويعترف باركر أن «البيزنطيين لم يحرصوا على أن يجعلوا طريق الحجاج هيناً سهلاً . وكان لزاماً على البابا فكتور الثاني أن يجأر بالشكوى إلى الإمبراطورة تيودورا ، بسبب ما لجأ إليه موظفوها من ابتزاز الحجاج وإهانتهم» [36][4].

2 ـ إن البحث عن وسائل جديدة مباشرة للاتصال بطرق التجارة الشرقية ، يعتبر من الأغراض التي انطوت عليها الحروب الصليبية ذاتها . وأدت إلى ما يصح تسميته اكتشاف آسيا في القرن الثالث عشر [37][5] .

فالمدن الإيطالية التي اشتهرت بتجارتها كانت تبحث عن طرق مباشرة لشراء المنتجات الشرقية من الهند والصين ، دون وساطة العرب المسلمين . فالطرق البحرية كانت غالية ومحفوفة بالمخاطر .

3 ـ كان الأمراء الأوربيون يبحثون عن ثروات وأراض جديدة . فكانت الأطماع متوجهة نحو الشرق ، حيث الكنوز والثراء والتجارة والذهب والحرير والجواري . فهذه الأحلام لعبت دوراً في تأجيج الحماسة .

4 ـ كان الناس العاديون في أوربا يعيشون في أوضاع مزرية من الفقر وتكرر المجاعات والأوبئة التي فتكت بعشرات الآلاف . ففي عام 1094 إنتشر الطاعون من الفلاندرز Flanders إلى بوهيميا Bohemia. وفي عام 1095 حدثت مجاعة في منطقة اللورين Lauren بفرنسا . وتعرضت الكثير من الأراضي الزراعية للخراب نتيجة غزوات الفايكنغ والبرابرة ، فقلّت الأقوات في الوقت الذي ازدادت أعداد السكان . ثم أن الحروب والمنازعات بين الأمراء والإقطاعيين أسهمت في الإخلال بالأمن وتعريض أرواح الناس للهلاك وممتلكاتهم للنهب ، مما جعل الغالبية العظمى من أهالي غرب أوربا يعيشون في حالة يرثى لها من الفقر والحرمان والخوف ، دون أن يجدوا أي ضمان لحماية أرواحهم وممتلكاتهم وأرزاقهم [38][6] .

فاعتقد هؤلاء البسطاء أن مشاكلهم ستحل بهجرتهم إلى الشرق . ففي عام 1096 نجح الصليبيون بتجنيد خمسة جيوش من هؤلاء المعدمين .

5 ـ كان هناك عدد كبير من المغامرين ، المفلسين مثل الزعيم الصليبي والتر المفلس ، وقطاع الطرق ، والعبيد الهاربين والرهبان المستائين. لقد كانت هناك دوافع كثيرة للبحث عن مناجم الذهب الموعودة في الشرق .

وعلى الرغم من أن الجنود الأوربيين كان يحملون علامات الصليب ، دليلاً على الدافع الديني للحملات الصليبية ، لكن الدين كان آخر سبب وراءها . فخلال عبورهم هنغاريا ثم أراضي الدولة البيزنطية ، نسيت الجموع أنهم يخترقون بلاداً مسيحية ، فأخذوا ينهبون ويسلبون ويعتدون على الأهالي الآمنين [39][7] . وأثناء انتظارهم العبور إلى الجانب الآسيوي من الإمبراطورية البيزنطية ، كان تجمع الصليبيين أمام أسوار القسطنطينية يثير مخاوف الدولة ومتاعبها ، إذ أخذ الصليبيون يواصلون نهب القرى والضياع المجاورة ، ويعتدون على الأهالي ويسلبونهم أقواتهم وأمتعتهم ، بل أن الكنائس لم تسلم من إعتداءات أولئك الرعاع [40][8]. فأسرع الإمبراطور الكسيوس إلى نقلهم إلى الشاطئ الآخر . واستمر ذلك السلوك الوحشي بمهاجمة القرى المسيحية والمزارع والمواشي والكنائس [41][9] .

وعندما احتل الصليبيون مدينة القدس ، لم يرحموا أحداً «وحتى إخوانهم في الدين لم يوفروهم ، وكان من أول ما اتخذوه من تدابير أنهم طردوا من كنيسة القيامة جميع الكهنة من الكنيسة الشرقية ، روماً وجيورجيين وأرمنيين وأقباطاً وسرياناً ، والذي كانوا يقيمون القداسات معاً تبعاً لمذهب كان جميع الفاتحين قد احترموه حتى ذلك الحين .وإذ ذهل وجهاء الطوائف المسيحية أمام هذا القدر من التعصب ، فقد عزموا على المقاومة ، ورفضوا أن يكشفوا للمحتل عن المكان الذي خبأوا فيه الصليب الحقيقي الذي مات عليه المسيح .وإذ قبض الأوربيون على الكهنة المكلفين بحراسة الصليب ، وأخضعوهم للتعذيب فقد تمكنوا من انتزاع سرهم والحصول منهم بالقوة على أغلى ما يملكون من ذخائر» [42][10].

وقد ذبح الصليبيون آلاف المدنيين الأبرياء من سكان القدس دون سبب ، فقط لمجرد الإنتقام من المسلمين. ففي يوم 15 تموز 1099 دخل الصليبيون المدينة المقدسة وارتكبوا مذابح فظيعة . يصف أحد المؤرخين اللاتينيين المشاهد المريعة فيقول «كانت أكداس الرؤوس والأيدي ترى من بعيد في الساحات والشوارع» [43][11].

ويصف مؤرخ آخر ذلك اليوم العصيب فيقول «ولا يزال النازحون يرتجفون كلما تحدثوا بذلك وتجمد أبصارهم وكأنهم لا يزالون يرون بأعينهم أولئك المقاتلين الشُّقر المدرعين المعتمرين الخُوَذ وقد انتشروا في الشوارع شاهرين سيوفهم ، ذابحين الرجال والنساء والأطفال ، ناهبين البيوت ، مخربين المساجد . وعندما توقفت المذبحة بعد يومين لم يكن قد بقي مسلم واحد داخل الأسوار . فقد انتهز بعضهم فرصة الهرج فانسلوا إلى الخارج من الأبواب التي كان المحاصِرون قد خلعوها . وأما الآخرون فكانوا مطروحين بالآلاف في مناقع الدم عند أعتاب مساكنهم أو بجوار المساجد ، وكان بينهم عدد كبير من الأئمة والعلماء والزهاد المتصوفين الذين كانوا قد غادروا بلادهم وجاؤوا يقضون بقية أيامهم في عزلة في هذه الأماكن المقدسة . ولقد أُكرِه من بقوا على قيد الحياة على القيام بأشق الأعمال : أن يحملوا جثث ذويهم فوق ظهورهم ويكدسوها بلا قبور في الأراضي البور ثم يحرقوها قبل أن يُذبحوا بدورهم أو يباعوا في أسواق النخاسة» [44][12].

أما المؤرخ والدبلوماسي المسلم أسامة بن منقذ (488 ـ 584 هـ /1091 ـ 1188م) الذي عاصر الحروب الصليبية ، فقد كتب في مذكراته عن تلك الأحداث ووصف تفاصيلها . فكان قد شاهد الأحداث عن قرب لأنه كان كاتباً (سكرتيراً) لدى صلاح الدين الأيوبي [45][13] . وأورد إبن الأثير في كتابه (الكامل في التاريخ) بعض جرائم الصليبيين ، إذ ينقل الحادثة التالية التي تعبر عن الوحشية والقسوة . فقد هاجم الصليبيون مدينة المعرة في سوريا ، «وعند الفجر وصل الفرنج ، إنها المذبحة ، فوضع الفرنج فيهم السيف ثلاثة أيام فقتلوا ما يزيد على مائة ألف وسَبَوا السبي الكثير» [46][14]. ويصف أحد المؤرخين الصليبيين ، راول دي كين ، المرافق للجيش الذي دخل المعرة فيقول «كان جماعتنا في المعرة يغلون وثنيين بالغين في القدور ، ويشكون الأولاد في سفافيد ويلتهمونهم مشويين» [47][15].

ويرى أرنست باركر أن الحروب الصليبية ، أصلاً ، مشروع فرنسي . فقد زرعت بذورها في أرض فرنسية ، بلدة كليرمون Clermonte، وكان أول مبشر بها هـو بابا فرنسي الأصل ، أوربان الثاني . وأنها والمملكة التي أقامها الصليبيون في الشرق كانت في جـوهـرها مملكـة فرنسية ، في لغتها وعاداتها ، وفي فضائلها ورذائلها [48][16] . ولعل ما يؤيد ذلك أن العرب كانوا يسمونهم بالفرنجـة ، وهـو لقب يخص الفرنسيين ، ولكـن استخدامـه يعم كل الغربيين . من جانب آخـر لا تتحدث المراجع العربية عن (حروب صليبية) بل عن حروب وغزوات ضد الفرنجـة . إن مصطلـح (صليبي) هـو ما أطلقه الأوربيـون على أنفسهم في تلـك الفتـرة ، لإسباغ البعد الديني على حروبهم ، ويمثل الصليب المسيحية ، إذ صار شعاراً لها .

رغم المقاومة التي أبداها المسلمون في الدفاع عن أنفسهم ، إلا أن الحركة الحقيقية بدأت بعد قرن ونصف من وصول الصليبيين . فقد تمكن زنكي ، وهو تركي يحكم الموصل ، عام 1144 م أن يستعيد مدينة الرها Edessa. وأكمل إبنه نور الدين حركة التحرير ، إنطلاقاً من عاصمته دمشق . إذ بدأ بعمليات عسكرية ومناوشات ضد القوات الصليبية . وبلغت المقاومة الإسلامية ذروتها حين وصل صلاح الدين إلى عرش مصر بعد الفاطميين . إذ استطاع صلاح الدين أن يوحد مصر وسوريا تحت هيمنته ، فوضع الصليبيين بين حجري الرحى ، سوريا شمالاً وغرباً ، ومصر جنوباً وغرباً . وحقق صلاح الدين إنتصاراً كبيراً في معركة حطين في 4 تموز 1187 م ، حين هزم الملك الصليبي غي دو لوزينيان Guy de Lusignan، ملك القدس ، وتمزق جيشه البالغ 000ر20 محارب ، ووقع الملك أسيراً . ودخل صلاح الدين القدس دون مقاومة ، فأكرم الأسرى وأطلق سراحهم ، وعامل المسيحيين بالإحسان والتسامح.

بعد فشل الحروب الصليبية ، بقي الأوربيون يبحثون عن أرض جديدة قادرة على استيعاب طموحاتهم وأطماعهم . فبدأت حركة استكشافات جغرافية واسعة . لقد كانوا يبحثون عن خيار آخر غير أوربا التي ضاقت بهم ، وضاقت إمكاناتها فأصبحت الحروب هي لغة التعامل في التنازع على الثروات والموارد الطبيعية والأراضي . أصبح البحث عن أرض جديدة بمثابة الحل الأمثل للمشاكل التي تعانيها القارة الأوربية ، الصراعات السياسية ، الأزمات الإقتصادية ، الخلافات المذهبية والإضطهاد الديني . في عام 1492 م تم اكتشاف أميركا ، واكتشفت أستراليا عام 1606 م فكانتا الحل الذي انتظره الأوربيون قروناً . فأخذت موجات المهاجرين تتدفق على الأرض الجديدة ، لكنهم لم يجدوا حضارة مزدهرة كما في الشرق ، بل قبائل بدائية وشعوباً متأخرة ، سرعان ما أبادوها ، وليقيموا فيها إلى الأبد 

العلاقات في الفترة الصليبية

بقي الصليبيون قرنين في الشرق الأوسط ، أسسوا فيها بضع دول ، يحيط بها المسلمون من أهل البلاد . وكان الصليبيون يحملون السمات الأوربية آنذاك من التأخر العلمي والجمود الفكري ، إضافة إلى فظاظة وقسوة واضحة ، فلم يكن لديهم ما يعطونه بقدر ما تعلموه من المسلمين . وعلى الرغم من أن الحضارة الإسلامية في القرن الثاني عشر قد فقدت بريقها وأبهتها ، ولكنها كانت ما تزال على مستوىً عال مقارنة بالوضع الأوربي . ولا يسع المجال للتطرق إلى تفاصيل التأثير الإسلامي على الغازين الصليبيين ، ولكن سنذكر بعضها . فعلى الصعيد العسكري تعلم الأوربيون استخدام الحمام لنقل البريد ، واستعمال النار لإعطاء إشارات ضوئية ليلاً والتخاطب عن بعد . وأصبحت زهرة الزنبق ، شعار الطبقة الأرستقراطية المسلمة ، من مظاهر النبلاء والأمراء الأوربيين . وتعلم الأوربيون استخدام السكر ، الذي كان ينتج بكميات كبيرة . وكانوا حتى ذلك الوقت يستخدمون العسل في الطعام والأدوية .

وأصبحت الألفاظ والكلمات العربية متداولة ، إذ وجدت طريقها إلى اللغات الأوربية إلى يومنا هذا . وهيأ الإتصال المباشر مع العرب المسلمين فرصة للأوربيين في التعرف إلى الأدب العربي والعادات والتقاليد . يقول المؤرخ توماس آرنولد : في القرن الثاني عشر ، جذب الإسلام الكثير من الصليبيين ، الذين إعتنقوه . ولم يقتصر ذلك على الناس العاديين ، بل الأمراء والقادة . ففي الليلة السابقة لمعركة حطين ، إعتنق الإسلام ستة أمراء من مملكة القدس ، والتحقوا بقوات العدو (المسلمين) ، دون إكراه [49][1] .

كانت الوضعية السياسية للمنطقة عبارة عن مجموعة من الإمارات الصغيرة ، المتداخلة الحدود ، بعضها يحكمها مسلمون والأخرى يحكمها مسيحيون . وكانت العلاقات بينها تتراوح بين التعاون والمصالح وبين التوتر والحروب . وكل حاكم أو أمير يرتبط بعلاقات مع جيرانه المسلمين والمسيحيين وفق ما تمليه مصالحه . فكانوا يعقدون معاهدات واتفاقيات تنظم شؤون العلاقات والتجارة والضرائب ومرور القوافل والحجاج والمسافرين . مثلاً ، سمح ريموند Raymond حاكم طرابلس الصليبي لقوات الملك الأفضل بالمرور في أراضيه لخوض حرب ضد عدوه . وكان رتشارد الأول I Richard على علاقة ودية مع الملك العادل .

لقد كان من الطبيعي أن تقوى العلاقات بين الأمراء والحكام المسلمين والمسيحيين معاً . وقد تصل العلاقات إلى مستوى التحالف العسكري بين المسلمين والصليبيين ، فتجد حلفاً يضم حكاماً مسلمين ومسيحيين يناوئ حلفاً آخر يضم أيضاً مسلمين وصليبيين . ففي عام 1115م أرسل السلطان السلجوقي محمد حملة لتأديب حكام حلب ودمشق الذين اتهمهم بقتل حاكم الموصل عشية الاستعداد للهجوم على الفرنج . «وعندما وصلت الحملة كانت تنتظرها مفاجأة ، فقد كان بغدوين Bagdwin ملك القدس الصليبي يقف إلى جانب طغتكين حاكم دمشق محاطين بعساكرهما وعساكر إنطاكية وحلب وطرابلس . فإذ كان أمراء الشام ، مسلمين وفرنجاً على السواء ، قد أحسوا بأنهم مهددون من قبل السلطان فقد قرروا أن يتحالفوا ، واضطر الجيش السلجوقي إلى الانسحاب بشكل مخجل بعد عدة اشهر . وعندها أقسم السلطان محمد بألا يهتم بالمشكلة الفرنجية . ولسوف يبر بقسمه» [50][2].

لقد بات من الأمور العادية أن يستعين الحاكم بقوة حاكم مجاور دون النظر إلى دينه ، مسيحي أم مسلم ، فالمهم هو أن ينجد الحاكم بقوة عسكرية لمواجهة وضع متأزم ، عصيان داخلي أو غزو من خارج الإمارة. ففي عام 1130م قتل بيمند الثانيBohemond II  حاكم إنطاكية Antioch على يد غازي إبن الأمير دانشمند «وأرسل رأسه الأشقر محنطاً بعناية وموضوعاً في علبة من الفضة هدية إلى الخليفة العباسي في بغداد . وعندما وصل نبأ موته إلى إنطاكية نظمت أرملته (أليكس) إبنة بغدوين الثاني ، ملك القدس ، إنقلاباً حقيقياً . فتعاونت مع المسيحيين الشرقيين المقيمين في المدينة ، وأرسلت رسالة إلى زنكي الأتابكي تعرض فيه حلفاً ضد أبيها بالذات ، وتعده بالاعتراف بسلطانه المطلق . قبض أبوها على الرسول وعلى الحصان المهدى إلى زنكي ، ودخل إنطاكية بجيشه لإعادة الأمور إلى ما كانت ، بيد الصليبيين» [51][3].

يعلق أحد المؤرخين على هذا الموقف فيقول: «إنه لموقف غريب يعلن عن ولادة جيل جديد من الفرنج ، الجيل الثاني ، ليس بينه وبين رواد الغزو أي شيء مشترك . فإذ كانت الأميرة الشابة من أم أرمنية ، ولم تكن قد عرفت أوربا أبداً ، فإنها تشعر بأنها شرقية وتتصرف على هذا الأساس» [52][4].

وكانت الكنيسة الرومانية ترى أن هذه الوضعية مخالفة للتعاليم المسيحية «وأن الذين يتاجرون بالأمتعة الحربية مع المسلمين ، على الرغم من تحريم ذلك من قبل المجالس الكنسية ، يعتبرون أبناء شريرين للكنيسة ، وهم مسيحيون مزيفون ، يؤمنون بعقيدة الكنيسة الرومانية بالكلام فقط ، وينكرونها بأفعالهم» [53][5]. وتطرق وليم  William of Adamإلى أنواع التعامل مع (الظالمين) الذين «يدمرون ميراث الرب» . ووضعت مقررات كنسية وصدرت أوامر بابوية تقيد التجارة بالمواد الحربية فأصبح ممنوعاً، التجارة بالسلاح ، الحديد ، الخشب وبناء السفن ، أو الإبحار نحو موانئ العدو في كل الأحوال . وأما المتاجرة بالأغذية وغيرها فتصبح ممنوعة في حالة الحرب فقط [54][6] . ومع ذلك بقيت التجارة مزدهرة مع المسلمين ، وبقيت الإتصالات غير التجارية جارية بين الجماعات المسيحية والعالم الإسلامي .

ولقد دهش الرحالة الأندلسي إبن جبير الذي كان يزور دمشق في تلك السنة ، 1183م حين كان صلاح الدين يستعد لمعركة حطين ، لرؤية القوافل تذهب وتجيء بيسر بين مصر ودمشق عبر بلاد الفرنج . وقد لاحظ أن للنصارى على المسلمين ضريبة يؤدون في بلادهم ، وهي من الأمَنَة على غاية . وتجار النصارى أيضاً يؤدون في بلاد المسلمين على سلعهم . والاتفاق بينهم والاعتدال في جميع الأحوال . وأهل الحرب مشتغلون بحربهم ، والناس في عافية» [55][7].

أما أهل الحرب فكان يملأهم الملل والتعب من حصار المدن والقلاع ، والمناوشات الحربية الدائمة . «وشيئاً فشيئاً قامت صيغة تعايش ، فكان فرسان الفرنج وأمراء المسلمين يتداعَون بين مناوشتين إلى مآدب ، ويتحادثون بدعة ، ويمارسون الألعاب معاً في بعض الأحيان كما يروي بهاء الدين : ذات يوم قرر الرجال من الفريقين ، وقد أتعبهم القتال أن ينظموا معركة بين الأولاد ، فخرج فَتَيان من المدينة لمقارعة فتيين من الكفار . وفي حمأة المصارعة وثب أحد الصبيين المسلمين على نظيره وطرحه أرضاً وأخذ بخناقه . وعندما رأى الفرنج أنه يوشك أن يقتله اقتربوا منه وقالوا له : دعه ! لقد صار حقاً أسيرك وسوف نفتديه منك . وأخذ دينارين وتركه» [56][8].

وكانت تجارة العبيد من التجارات المزدهرة في تلك العصور . وقد مارس المسلمون والمسيحيون هذه التجارة ، وكان العبيد من كل الأديان أيضاً ، مسلمين ومسيحيين ويهوداً . فأصحاب المزارع والملاك والأمراء كانوا يشترون العبيد للعمل في الأرض والزراعة وتربية المواشي . وكانت المصالح الذاتية هي الأساس في تعاملهم مع الواقع . وقد نشأت أعراف وتقاليد بعضها متعصب وبعيد عن التسامح ، مثلاً لا يستطيع أمير مسيحي طرد مسلم من أرضه دون سبب ، لا يؤذيه . من جانب آخر كان الحكام المسيحيون يمنعون المسيحي من العمل في منزل مسلم أو يهودي . وأن لا يعمل المسلمون واليهود في الوظائف العامة ، وعليهم أن يرتدوا ملابس معينة . وكانت لائحة كليمنتينا  Clementinaeتمنع نداءات الصلاة أو الحج في الأراضي الخاضعة للسيطرة المسيحية .

الدبلوماسية الدولية في العصور الوسطى

كان للدولة الإخشيدية في مصر وسوريا علاقات وثيقة مع بيزنطة . وكان الاتصال الجغرافي المباشر بين مصر والدولة البيزنطية من ناحية الحدود الشمالية ، وتنافسهما البحري المستمر في شرقي البحر الأبيض المتوسط ، وعلاقاتهما التجارية الهامة ، مما يستوجب تنظيم العلاقات الدبلوماسية بين الدولتين بصورة مرضية . ولم تكن الخلافة ببغداد بعيدة عن تحسين علاقاتها مع بيزنطة . في عام 326 هـ/936م أرسل القيصر رومانوس وشريكاه القيصران اسطفانوس وقسطنطين سفارة إلى الخليفة العباسي الراضي بالله . وكانت الرسالة مكتوبة بلغتين ، باللغة اليونانية بالذهب ، ومعها ترجمة عربية مكتوبة بالفضة ، جاء فيها: (بإسم الأب والإبن وروح القدس الإله الواحد ، الحمد لله ذي الفضل العظيم ، الرؤوف بعباده ، الجامع للمفترقات ، والمؤلف للأمم المختلفة في العداوة حتى يصيروا واحداً).

ثم يعرب القياصرة بعد ذلك عن رغبتهم في طلب الهدنة وعقد أواصر الصداقة مع المسلمين . فرد الخليفة عليهم بكتاب جاء فيه :

(من عبدالله أبي العباس الإمام الراضي بالله أمير المؤمنين إلى رومانس وقسطنطين واسطفانس رؤساء الروم . سلام على من اتبع الهدى ، وتمسك بالعروة الوثقى ، وسلك سبيل النجاة والزلفى ..) وفيه يجيبهم إلى ما طلبوا من عقد الهدنة والصداقة [57][1] .

وفي العام التالي أرسل القيصر رومانوس سفارة أخرى إلى الإخشيد أمير مصر . وتضمنت مؤاخذة دبلوماسية على الإخشيد ، إذ تضمن كتاب القيصر أنه تنازل لمكاتبة الإخشيد مباشرة ، لأن مقامه كقيصر الدولة الرومانية الشرقية يحتم عليه ألا يكاتب من هو دون الخليفة ، ولكنه مع ذلك قد خص الإخشيد بالمكاتبة لما نمى إليه من رفيع مكانته ، وحميد سيرته ، وموفور عدالته ورحمته .

وقد رد الإخشيد على كتاب القيصر بكتاب شهير من إنشاء كاتبه إبراهيم بن عبدالله البجيرمي ، وكان من أبرع كتاب عصره . ويعتبر هذا الرد وثيقة دبلوماسية من الطراز الأول تفيض إباءً وحزماً ، ويطبعها في نفس الوقت طابع بارع من اللباقة والمجاملة; ذلك أن الإخشيد لم يغضب لما وجهه إليه القيصر من عبارات المن والاستعلاء ، ولكنه بالعكس أكرم وفادة رسوليه ، وغمرهما بالتحف المختارة هدية إلى سيدهما ، وبذل لهما كل تسهيل ممكن لتحقيق مهمتهما التجارية . على أنه لم ينس في نفس الوقت أن يجيب القيصر على منه واستعلائه ، وأن يفند أقواله فيما زعمه من تفضله بمكاتبته . وجاء في الجواب :

(وأما ما وصفته من ارتفاع محلك عن مرتبة من هو دون الخليفة في المكاتبة لما يقتضيه عظم ملككم ، وأنه الملك القديم الموهوب من الله ، الباقي على الدهر ، وأنك إنما خصصتنا بالمكاتبة لما تحققته من حالنا عندك ، فإن ذلك لو كان حقاً ، وكانت منزلتنا كما ذكرته تقصر عن منزلة من تكاتبه ، وكان لك في ترك مكاتبتنا غنم ورشد ، لكان من الأمر البين أن أحظى وأرشد وأولى بمن حل محلك أن يعمل بما فيه صلاح رعيته ، ولا يراه وصمة ولا نقيصة ولا عيباً ، ولا يقع في معاناة صغيرة تعقبها كبيرة ، فإن السائس الفاضل قد يركب الأخطار ويخوض الغمار ، ويعرض مهجته فيما ينفع رعيته ، والذي تجشمته من مكاتبتنا إن كان كما وصفته ، فهو أمر سهل يسير ، لأمر عظيم خطير ..) . وأما عن مطالب القيصر فإن الإخشيد يجيبه عما طلب من تنظيم الفداء وتبادل الأسرى ، ويشكر القيصر على عنايته بالأسرى المسلمين ، وما يلقونه من المعاملة الحسنة . ويبدي الإخشيد إستعداده لعقد الصداقة مع القيصر ، مشيراً إلى ذلك بقوله :

(وأما ما ابتدأتنا به من المواصلة ، واستشعرته لنا من المودة والمحبة ، فإن عندنا من مقابلة ذلك ما توجبه السياسة التي تجمعنا على اختلاف المذاهب ، وتقتضيه نسبة الشرف الذي يؤلفنا على تباين النحل) [58][2].

وتأثرت العلاقات بين البيزنطيين والفاطميين ببعض الحوادث والظروف السياسية التي أحاطت بها . فمن جانب كانت بيزنطة تشعر بالقلق من تزايد حركة السلاجقة في بغداد ، ومن جانب آخر حاولت القسطنطينية استغلال الصراع والتنافس بين الدولتين الإسلاميتين ، السلجوقية والفاطمية . ففي عام 446هـ/1053م عانت مصر من الوباء الذي امتد أعواماً ، ورافقته كالعادة مجاعة وغلاء وقحط ، فأرسل المستنصر بالله الفاطمي رسالة إلى إمبراطور القسطنطينية وهو قسطنطين التاسع IX Constantine، يطلب منه معونة اقتصادية وإرسال أغذية وغلال . وكانت الدولة البيزنطية تعاني إضطرابات داخلية، وتواجه تهديدات السلاجقة الذين كانوا من قبل قد اقتحموا بعض مدنها وأقاليمها ، حتى وصلوا حدود أرمينيا . فلبى قسطنطين الدعوة ، ووجدها فرصة لتقوية العلاقة مع مصر ، وتفادي نشاطها العسكري من الجنوب ومن البحر . وتم الاتفاق واُعدت شحنات المؤن لإرسالها إلى مصر ، لكن قسطنطين توفي قبل تنفيذ الإتفاق عام 1054 . فخلفته على عرش قسطنطينية الإمبراطورة تيودورا ، واشترطت لإرسال المؤن إلى مصر شروطاً رفضها المستنصر بالله ، ومنها أن يمدها بقوة عسكرية لعونها على مواجهة السلاجقة ومحاربة الخارجين عليها . فانقطعت المفاوضات بين الفريقين ، وغضب المستنصر ، وقرر إرسال حملة عسكرية إلى الحدود البيزنطية ، فانتصرت على الحدود البرية ، لكن الاُسطول البيزنطي غزا السواحل السورية ، وهزم المصريين ، وتم أسر القائد المسلم وجماعة كبيرة من الضباط والقادة ، فتوقف المستنصر عن مواصلة الحرب ، ولجأ إلى المهادنة والمفاوضة ، وأرسل سفيراً إلى البلاط البيزنطي سعياً لعقد الصلح وتنظيم العلاقات . وكان السفير هو القاضي أبو عبدالله محمد بن سلامة بن جعفر القضاعي الشافعي المصري . فوصل القسطنطينية عام 1055م ، وصلى في جامعها ، وخطب للخليفة  [59][3].

تشير بعض المصادر التاريخية إلى وجود مسجد في القسطنطينية ، وهي ظاهرة تبدو غريبة في ذلك العصر المبكر . ولعل المسجد قد بني في القرن العاشر كي يقيم الرسل والتجار المسلمون الصلوات فيه . وكانت تقام فيه صلاة الجمعة ، ويخطب به للخليفة المسلم ، الصديق لبيزنطة ، فتارة يكون الخليفة العباسي وتارة الخليفة الفاطمي ، حسب الأوضاع السياسية . وفي عام 1027م قام الإمبراطور البيزنطي بتجديد بناء المسجد ، وقام بإصلاحه قسطنطين التاسع عام 1048م [60][4]. وقد يكون دار للضيافة للوفود الإسلامية ألحق به المسجد . وتشير بعض المصادر التاريخية إلى أن الخطبة في المسجد باسم الخليفة كانت ضمن عقد هدنة مع مصر; كما أن الملك الظاهر يرفع الحجر عن كنيسة القيامة ببيت المقدس ، يقوم القيصر بإصلاح المسجد  [61][5].

في عام 1248 وصل ملك فرنسا لويس التاسع IX Louis (حكم 1226 ـ 1270 م) إلى الشرق للإشراف على حملة عسكرية جديدة على مصر ، والتي فشلت فيما بعد ووقع لويس أسيراً فيها في معركة المنصورة . وانتظاراً لفصل الربيع ، إستقر لويس في جزيرة قبرص للراحة قبل المباشرة بتحقيق الحلم الفرنسي . فبدأ سلسلة من النشاطات الدبلوماسية بما يخدم خطته : إبرام حلف مع المغول لوضع العالم الإسلامي بين فكي كماشة . ففي عام 1248م إستقبل وفداً مغولياً جاء للحصول على دعم غربي ، فلوح الوفد بإمكانية إعتناق المغول الديانة المسيحية ، فبادر إلى تزويد البعثة عند عودتها بالهدايا الدنيوية والدينية النفيسة إلى خان المغول  [62][6]. فقد كان كلاهما ، المغول والصليبيون ، يبحثون عن حليف مناسب لمواجهة العدو المشترك ، الإسلام . وبقي التعاون بين المغول والصليبيين بسيطاً ، رغم اعتناق بعضهم المسيحية . ففي عام 1251 عاد المغول بموجة جديدة من الهجمات الوحشية يقودها ثلاثة إخوة من أحفاد جنكيزخان وهم مُنكا وكوبلاي وهولاكو . فأما الأول فعين عاهلاً غير مدافع للإمبراطورية وعاصمته كراكورم في منغوليا; وأما الثاني فحكم سعيداً في بكين; وأما الثالث فقد استقر في إيران ، وكان طامحاً في غزو الشرق الإسلامي بأسره حتى شواطئ المتوسط ، وربما حتى النيل . وكان هولاكو شخصية مركبة ، فمن الولع بالعلوم والفلسفة ومخالطة الأدباء ، إلى وحش دموي متعطش للدماء والدمار . ولا يقل سلوكه في موضوع الدين تناقضاً . فعلى الرغم من تأثره بالمسيحية ـ كانت أمه وزوجته الأثيرة وعدد من معاونيه ينتمون إلى الكنيسة النسطورية ـ فإنه لم يتخل قط عن الشمانية ديانة شعبه التقليدية .

في عام 1258م دخل هولاكو بغداد فاتحاً فأباد أهلها ، ودمر أسواقها ومدارسها ومكتباتها ، بعد أن اتفق مع أهلها على التسليم والإبقاء على حياتهم . فقتل في بغداد زهاء 000ر80 نسمة . ولم يسلم من الذبح سوى الطائفة المسيحية بناء على تدخل زوجة الخان  [63][7].

واصل هولاكو مسيرته باتجاه الشام ليكمل فتوحاته ومذابحه . وكانت الأقلية المسيحية تتواجد في المدن السورية . ولما دخلت جيوش هولاكو ، كانت مواقف المسيحيين من فرنج وشرقيين مختلفة تجاه هولاكو : فالأرمن وقفوا بشخص ملكهم (هتهوم) في صف المغول ، كما وقف في صفهم صهره بيمند حاكم إنطاكية وهو فرنجي . والتزم فرنج عكا في المقابل وقفة حياد هو أميل إلى المسلمين . ولكن الشعور السائد في الشرق كما في الغرب هو أن الحملة المغولية نوع من حرب مقدسة تُشن على الإسلام وتمثل تتمة للحملات الفرنجية . وقد دعم هذا الشعور أن نائب هولاكو الرئيس في بلاد الشام ، القائد كيتبوكا ، وهو مسيحي نسطوري . وعندما أُخذت دمشق في أول آذار 1260 م ، كان الذين دخلوها ظافرين ، وسط استنكار العرب الشديد ، ثلاثة أمراء مسيحيين هم بيمند وهتهوم وكيتبوكا  [64][8].

إعتمدت السياسة الخارجية الأوربية منهجاً براغماتياً ، إذ كانت تنتهز أية فرصة لتحقيق مصالحها ، وتتعامل مع الواقع السياسي من أجل تعبئة كل الجهود والإمكانيات من أجل مصالحها . في القرن السادس عشر عندما كانت الدولة العثمانية تمارس ضغطاً قوياً على أوربا ، بعد توسعها داخل القارة الأوربية ، والسيطرة على أقاليم أوربية واسعة ، فبادرت الدول الأوربية الأخرى إلى محاولة لتخفيف الضغط العثماني عنها ، وفتح جبهات أخرى على الدولة العثمانية ، كي تسحب جزءاً من قواتها في أوربا ، نحو تلك الجبهات . فكانت سياسة تحسين وتوثيق علاقات أوربا بمنافسي وأعداء العثمانيين ، أي مصر وإيران الصفوية .

فقد شهدت القاهرة وأصفهان حركة دبلوماسية غربية ، واستقبلت وفوداً وسفارات أوربية عديدة . كما شهدت البلاطات الأوربية سفراء مسلمين . ففي عام 1518 م أرسل الشاه عباس الصفوي مبعوثين إلى بولندا وهنغاريا . واستقبل البلاط الصفوي سفارة اسبانية عام 1529 من قبل تشارلس كونت إسبانيا ، إلى الشاه إسماعيل . وكانت رسالة الوفد الإسباني تتركز بالطلب من الشاه الصفوي إرسال قوة عسكرية إلى الحدود مع العثمانيين لممارسة ضغط عليهم ، من أجل سحب قسم من قواتهم المتواجدة في أوربا [65][9].

في تلك الفترة كانت لإيران علاقات جيدة مع أوربا ، فقد كانت هناك العديد من السفارات السياسية والمعاهدات الإقتصادية . ففي عام 1598م وصلت أول بعثة دبلوماسية إلى إيران ، تألفت من 27 عضواً برئاسة إثنين من النبلاء الإنجليز هما السير أنتوني شيرلي Shirly Anthony Sir وأخوه روبرت شيرلي  RobertShirly. لقد كانت مهمتهما عسكرية هي تأسيس جيش فارسي حديث . وتمكنا من تجنيد وتدريب 000ر12 رجل مجهزين بالبنادق والمدافع الإنجليزية  [66][10]. وفي عام 1600 كلف الشاه الصفوي ، السير أنتوني شيرلي بمهمة دبلوماسية ، إذ طلب منه ترؤس وفد إيراني يزور أوربا ، وإجراء إتصالات مع الحكومات والدول الأوربية . وضم الوفد حسين علي بيك وأربعين آخرين ، زار النمسا وألمانيا وإيطاليا وفرنسا وإسبانيا . واستغرقت البعثة سنتين نجحت خلالهما في ترسيخ أسس العلاقات السياسية مع أوربا . كما قابلت البابا في روما ، وشرحت له سياسة التحالف ضد العثمانيين ، فوعد البابا بالتعاون مقابل أن يمنح القساوسة والمبشرين الكاثوليك الإيرانيين حرية أكثر في نشاطاتهم  [67][11]. وفي عام 1602 أرسل البابا كولمان الثامن VIII Colman بعثة أكليركية برئاسة بير جان تادي Pere   Juan Tadiإلى البلاط الصفوي ، حيث استقبله الشاه الذي استلم الرسالة والهدايا . ثم سمح الشاه عباس ببناء كنيسة في أصفهان . وبقي الأسقف تادي عدة سنوات في فارس متمتعاً بضيافة الشاه .

وكان الأوربيون يتنافسون من أجل السيادة على منطقة الخليج ، فالتجار الهولنديون والألمان كانوا في منافسة حادة من أجل الهيمنة على السوق الإيراني ، والسيطرة على صناعة الحرير في إيران . وفي تلك الفترة حصل الألمان على امتياز لتصدير الحرير الإيراني إلى أوربا عبر الأراضي الروسية  [68][12]. أغضب الإمتياز الهولنديين ، مما دعا ممثل شركة الهند الشرقية في المنطقة نيكولاس ياكوب أوفرشخل Nicholas Jacob Overschle إلى لقاء السفير الألماني في فارس ، أوتو برخمان Otto Brugmann، وأبلغه بأن التجارة الألمانية تهدد المصالح الهولندية ، لكن الألمان لم يعيروا أهمية للتحذير الهولندي . عندذاك بادر الهولنديون إلى رفع أسعار الحرير ، الأمر الذي سبب اضطراباً في الأسواق . وجد التجار الألمان الأسعار باهضة جداً ، بحيث أن شراءها يكلفهم غالياً ، إضافة إلى أنهم يجب أن يدفعوا ضرائب وجمارك . فلم يعد باستطاعتهم شراء الحرير ، فاضطروا إلى مغادرة إيران . بعد رحيل الألمان قام الهولنديون بتخفيض الأسعار مرة أخرى ، وليحتفظوا بهيمنتهم على الأسواق .

وجد الشاه في ممارسة الهولنديين خلقاً غير لائق ، فأصدر أمراً بأن يدفع الهولنديون الجمارك أيضاً . رفض الهولنديون دفع الضريبة . تطورت القضية واستمرت إلى عهد الشاه عباس الثاني . وفي عام 1645 هاجم الأسطول الهولندي جزيرة قشم وجزيرة هرمز وميناء بندر عباس ، من أجل إعاقة التجارة البريطانية في المنطقة . أثار الهجوم البحري قلق الشاه فطلب من الإدميرال نيكولاس بلوك Block Nicholas التفاوض وتسوية القضية . إتفق الطرفان ووقعا اتفاقية منحت الهولنديين إمتيازات أكبر  [69][13].

في العصور الوسطى ، كانت العلاقات الخارجية تتركز على الصلات التقليدية والدينية ، إذ كان من الطبيعي ، وليس دائماً ، أن تكون الدول تسعى إلى التحالف مع نظيراتها في الدين والعقيدة ، فالمسلم يرغب بالمسلم ، والمسيحي يفضل المسيحي . ولكن ذلك لا يعني أنه لا توجد صراعات وحروب بين أتباع الدين الواحد ، وأن مصالحهم لا تتقاطع ، بل نريد الإشارة إلى أن العامل الديني يبقى دافعاً هاماً في السياسة الخارجية . في عام 1489 وخلال تقدم القوات المسيحية في العمق الإسباني جنوباً لإستعادة الأندلس من المسلمين ، أرسل الأمراء الأندلسيون عدة رسائل إلى الحكام المسلمين ، طالبين المساعدة للوقوف بوجه الهجوم المسيحي بقيادة الملك فرناندو Fernando. وكانت القاهرة قد استقبلت بعثة أندلسية طلبت مساعدة عسكرية لمواجهة القوات المسيحية المحيطة بغرناطة . يصف إبن إياس وصول السفارة إلى مصر بقوله : وفي ذي العقدة سنة 892هـ/ 1487م جاء قاصد من عند ملك المغرب صاحب الأندلس ، وعلى يد مكاتبة من مرسله تتضمن أن السلطان يرسل له تجريدة تعينه على قتال الفرنج ، فإنهم أشرفوا على أخذ غرناطة وهو في المحاصرة معهم  [70][14]. في ذلك الوقت كانت علاقات مصر المملوكية جيدة مع الدول الأوربية . قرر الملك الأشرف قايتباي المحمودي الظاهري تكليف رعاياه المسيحيين في القدس للتوسط بالأمر . فبعث برسالة إلى القساوسة في كنيسة القيامة طالباً منهم «أن يرسلوا كتاباً على يد قسيس من أعيانهم إلى ملك الفرنج صاحب نابل (نابولي الإيطالية) ، بأن يكاتب صاحب أشبيلية (الإسباني المسيحي) بأن يحل عن أهل مدينة غرناطة ويرحل عنهم» [71][15]، وإلا يقوم السلطان بإلقاء القبض على المسيحيين المقيمين في القدس وأشرافهم ، ويمنع الأوربيين من دخول القدس ، بل ويهدمها . فلبى القساوسة الأمر ، وراسلوا حاكم نابولي ، لكن لم تثمر شيئاً ، إذ دخل فرناندو غرناطة وسقطت آخر مدينة أندلسية مسلمة .

ولم يكن موقف العثمانيين أفضل من موقف مصر التي اكتفت بالتهديد والوعيد . فقد راسل الأندلسيون السلطان العثماني بايزيد الثاني طلباً للعون ، فاتصل بمصر وعقدا هدنة مؤقتة ، تنهي الحروب والعداوات بين الدولتين المسلمتين ، ووضعا خطة مشتركة بإرسال أسطول قوي لغزو صقلية التي كانت يومئذ من أملاك إسبانيا ليشغل بذلك اهتمام إيزابيلا وفرناندو ، وأن تبعث قوات برية من مصر وأفريقية ، تعبر مضيق جبل طارق إلى الأندلس لمساعدة جيوشها [72][16]. وبقيت الخطة مجرد حبر على ورق ، وتهاون العثمانيون في إنقاذ الأندلس في الوقت الذي كانت لديهم قوات كبيرة في أوربا ، ويجوب أسطولهم البحر المتوسط . فضاعت الأندلس بسبب تقاعس المسلمين وتهاونهم واستفحال العداوة والتجزئة بينهم .

يقع شمال أفريقيا على الشاطئ الجنوبي للبحر المتوسط فيما تحتل أوربا الشاطئ الشمالي منه . هذا الوضع الجغرافي أتاح الفرصة لإقامة علاقات مباشرة ومستمرة مع أوربا . وكان للبلاط المغربي خبرة طويلة في العلاقات الدبلوماسية مع الدول الأوربية . في عام 1610 وصل الشيخ أحمد بن قاسم الحجري إلى باريس ، في مهمة خاصة . فقد تعرضت الطائفة المورسكية ، التي كانت تقيم في إسبانيا بعد سقوطها بأيدي المسيحيين ، للنهب من قبل أصحاب السفن الفرنسية التي استأجروها لنقلهم من إسبانيا إلى المغرب ، بعد أن طردهم فيليب الثالث من إسبانيا لرفضهم التخلي عن الإسلام وإعتناق المسيحية . على إثر هذا النهب ، إتصلت بعض العائلات بسلطان المغرب المولى زيدان ، وطلبوا منه مساعدتهم ، وإرسال من يطالب بحقهم . يقول الحجري :

(وبعد ما أخذ فيليب الثالث كل ما كان لهم ، أخرجوهم في بعض الجزر من بلاد المسلمين ، وأربعة من تلك السفن المنهوبة خرجت بالمغرب ... وطلبوا من السلطان المولى زيدان ... أن يأذن لهم في إرسال بعض من أصحابهم مع رجل من الأندلس من الذين كانوا قبلهم بتلك المدينة ، وأسفر نظره أن نمشي بأصحابهم وأعطانا السلطان كتابه) [73][17]. واستطاع الحجري أن يتم المهمة بنجاح ، وأعاد الأموال المنهوبة إلى أصحابها ، فقال (والحمد لله أن كل من وكلني من جميع الأندلس وصل إليه شيء من الدراهم) [74][18].

وزار الحجري هولندا وتجول في مدنها ، أمستردام وليدن ولاهاي ، والتقى بالمستشرق الهولندي الكبير إربينيوس Erpenius، وكانت لديه حوارات ونقاشات معه . وقد ورد ذكر أحمد الحجري في رسالة بعثها إربينيوس بتاريخ 28 أيلول 1611 إلى صديقه المستشرق كازابون Casaubon قال له فيها :

(ووراء كل ما كنت أتوقع ، فقد وصل إلى زيارتي تاجر مغربي مسلم إسمه أحمد ، وهو رجل متحضر وذكي . وكان قد درس الأدب في شبابه ، ويتكلم العربية الفصحى بصورة جيدة ولكن متواضعة ... لقد كنا نتكلم بالعربية ، لأنه كان يتكلم الإسبانية إضافة إلى العربية ، لكنني لا أتكلم بها . وقد كنا نتناقش دائماً في أمور الدين) [75][19]. أما أحمد الحجري فقد وصف إربينيوس بأنه لم يكن يجيد العربية ، بل كان (يعرب الأسماء ويصرف الأفعال) ، وذكر بأنه أخذ يعلم المستشرق إربينيوس اللغة العربية عندما التقاه في باريس عند الطبيب هبرت ، الذي كان قد تعرف عليه في مراكش . يصف الحجري ذلك اللقاء بقوله : (والتقيت في تلك المدينة (باريز) برجل من علمائهم كان يقرأ بالعربية ، وبعض النصارى يقرأون عليه ، كان يسمى بأبرت وقال لي : أنا أخدمك فيما تحتاجني ... وما نحب منك إلا أن نقرأ عليك في الكتب التي عندي بالعربية).

وتطرق الحجري في وصفه لرحلته ولقاءاته ، إلى الحديث عن المجتمع الأوربي في ذلك الوقت ، الإقتصاد ، السياسة ، طراز المدن ، العادات والتقاليد ، الطعام والملابس .

تطور القانون الدولي الإسلامي في القرون الوسطى

على الرغم من دعوة القرآن إلى التعارف وإقامة علاقات مع غير المسلمين من شعوب وقبائل ، وأن الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)قد بدأ بسلسلة من الإتصالات الدبلوماسية وأرسل سفراءه إلى الدول المجاورة مثل بيزنطة وفارس ومصر والحبشة ، إلا أن خلفاءه لم يواصلوا مبادرته وسياسته . لقد حققوا فتوحات كبيرة وسعت رقعة الدولة الإسلامية بشكل متسارع خلال فترة زمنية قصيرة . لقد أدت هذه الفتوحات المفاجئة إلى زوال إحدى القوى العظمى آنذاك ، الإمبراطورية الساسانية ، وانسحاب القوة العظمى الأخرى ، الامبراطورية البيزنطية ، من تواجدها التأريخي في الشام (سوريا وفلسطين والأردن) . لقد غيرت هذه الفتوحات مكانة ووضعية العرب ، من محاربين بدو إلى حكام متحضرين . كما غرست الشعور لديهم بالقوة والسيادة على غيرهم من الأمم ، وخاصة غير المسلمين . فقد نما الشعور القومي في العصر الأموي مما أدى إلى الإزدراء بغير العرب ، وحرمانهم من حقوق المواطنة والمساواة التي يكفلها الإسلام لهم .

لقد وضعت الظروف والتغيرات الجديدة الدولة الإسلامية في تحديات جديدة ، حيث أصبحت تتعامل بشكل مباشر مع الدول غير المسلمة ، وخاصة الواقعة على حدود دار الإسلام . وجد المسلمون أن هناك حاجة لصيغة جديدة في التعامل مع الدول غير المسلمة ، بالإضافة إلى سياستها المتسامحة تجاه الأقليات غير الإسلامية داخل الدولة الإسلامية . قام الفقهاء بتطوير فرع من الفقه الإسلامي ، له علاقة بالعلاقات الخارجية ، هو السّيَر ، لتلبية متطلبات الظروف المستجدة والقضايا الطارئة . فهذا يعتبر أساس القانون الدولي الإسلامي  [76][1].

لعبت العلاقات بين الدولة الإسلامية والدول غير الإسلامية دوراً هاماً في تطوير مفاهيم وآراء جديدة في الفقه الإسلامي . فالواقع وقضاياه ومشاكله تطرح أسئلة وتطلب حلولاً ، لا بد للفقه أن يبدي رأيه فيها ، سواء كانت القضايا نابعة من داخل المجتمع الإسلامي أو بسبب علاقته واتصاله بالأمم الأخرى . قد يكون من الصحيح القول بأن القانون الدولي الإسلامي أو السير ، نشأ أولاً لتنظيم قضايا الحرب والقتال وشؤون الأسرى وعقد الهدنة أو غيرها ، لكن هناك دوافع وأسباباً أخرى جعلت القانون الدولي الإسلامي يتوسع ليشمل أمراً غير الحرب مع الكفار . فقد كانت التجارة وانتقال الأفراد والتجار إلى دار الحرب ، والتعاون السياسي مع دار الكفر وغيرها أموراً تدفع الفقهاء إلى المزيد من البحث والإجتهاد لمواجهة الأوضاع السياسية والإجتماعية والإقتصادية المتغيرة . ففي العصر العباسي عقد الخليفة هارون الرشيد حلفاً مع فرنسا المسيحية ، وكلاهما كان ضد بيزنطة . وصلت العلاقات العباسية ـ الفرنسية ذروتها عندما قبل هارون بمبادرة أسقف القدس الذي أرسل بعثة إلى شارلمان ملك فرنسا تحمل معها هدية عبارة عن مفاتيح الضريح المقدس والمدينة مع الراية  [77][2]. يعتبر البروفسور بوكلر  Bucklerهذه الخطوة بمثابة منصب رمزي لشارلمان باعتباره والياً للقدس تحت سلطة الخليفة العباسي . ويحتج بأن مثل هذا المنصب ، وحسب الماوردي ، يكون بتوكيل من الخليفة ، الذي يمكن أن يمنحه لغير مسلم . ويرفض مجيد خدوري ذلك التفسير قائلاً أن العلاقات الدبلوماسية بين شارلمان والرشيد كانت سياسية . ولم يتم التعامل أبداً مع القدس باعتبارها جزءاً من صفقة سياسية ، حتى يقال أنه يمكن تعيين وال غير مسلم عليها . وينفي وجود أي شيء في كتابات الماوردي تسمح بمثل ذلك ، كما يدعي بوكلر ، وإعطاء مثل ذلك المنصب إلى غير مسلم [78][3].

لقد فرضت متطلبات الدولة الإسلامية وحقائق الحياة وواقعها على المسلمين أن يتولى الفقهاء التعامل مع المستجدات ، ومنها كيفية التعامل مع الدول غير الإسلامية ، وإعطاء وجهة نظر الشريعة بالمسائل المطروحة عليهم . ويلاحظ أن ليس كل فقهاء الإسلام تعرضوا لذلك الواقع ، فقد كان فقهاء الحجاز بعيدين عن الإحتكاك بالأمم الأخرى ، ولذلك لم يتعرضوا لمسائل التعامل مع الدول غير الإسلامية . فالفقيه مالك بن أنس فقيه الحجاز (93 ـ 179هـ/712 ـ 796م) لم يخصص إلا فصلاً صغيراً عن الجهاد . كما أن شيوخه من قبل كابن شهاب الزهري (ت 124هـ/742م) وربيعة الرأي (ت 136هـ/ 754م) إهتموا بالموضوع أقل منه . ذلك أن فقهاء الحجاز كانوا بعيدين عن المناطق التي حصل فيها الإتصال المباشر بين الاسلام وبين شعوب أخرى، فلم يبالوا كثيراً بالمشكلات التي كانت تنشأ نتيجة لهذا الإحتكاك بين المسلمين وبين الشعوب الأخرى [79][4].

ومن تلاميذه الذين اهتموا بالجهاد سحنون الذي كتب (المدونة) خارج الحجاز ، في القيروان . من جانب آخر نجد أن فقهاء العراق أولوا إهتماماً كبيراً بقضايا الحرب والجهاد ، بل أن القانون الدولي الإسلامي يمكن إعتباره من إجتهاد فقهاء العراق . فالفقيه أبو حنيفة (80 ـ150هـ/699 ـ 802م) الذي نشأ ودرس في الكوفة وتوفي في بغداد ، وتلامذته أمثال محمد بن الحسن الشيباني (132 ـ 189 هـ/750 ـ 805م) وأبي يوسف القاضي (113 ـ 182هـ/ 731 ـ 798م) وأبي اسحاق الفزاري (ت 186هـ/802م) قد كتبوا وفصلوا في باب السير وقضايا جهاد الكفار والتعامل مع الدول غير المسلمة أكثر من معاصريهم من الفقهاء . ويعد عبد الرحمن الأوزاعي (ت 157 هـ/774 م) أحد الفقهاء القدامى الذين عالجوا السير كموضوع مستقل من مواضيع الشريعة . وكانت آراء الأوزاعي في هذا الموضوع ـ وهي آراء توصل إليها في سوريا في العهد الأموي ، إذ أنه عاش معظم حياته في ذلك العهد ـ تمثل التفكير الشرعي لتلك الحقبة  [80][5].

بصورة عامة ، كان فقهاء المغرب وشمال أفريقيا قد تعاملوا بشكل مباشر مع قضية العلاقات مع غير المسلمين أكثـر من فقهاء المشرق (العراق ، سوريا ، الحجاز وفارس) . فالفقيه المالكي سحنون ، أبو سعيد عبدالسلام التنوخي (ت 240 هـ / 855 م) كتب مفصلاً في مسائل الحرب ، لأن الإسلام في شمال أفريقيا وإسبانيا كان على اتصال يومي ومباشر مع الدول الأوربية وغير الإسلامية ، ولكن معالجته تعكس تأثره بالفقهاء الحنفية ليس بأقل من تأثره بالمالكية فيما يتعلق بهذا الموضوع . وتعتبر (المدونة) لسحنون من عمدة المؤلفات في المذهب المالكي ، إضافة إلى (الواضحة) لعبد الملك بن حبيب ، و(العتيبية) لمحمد ابن أحمد العتبي القرطبي (ت 255هـ /869م) ، و(الموازية) لمحمد بن إبراهيم بن زياد الإسكندري المعروف بالمواز (ت 269هـ/882م) [81][6]. وأصل المدونة كتبها أسد بن الفرات (ت 213هـ/828م) الذي توفي أثناء حصار سرقوسة في جزيرة صقلية . وتعرف بالمدونة الأسدية ، وقام سحنون بشرحها فنسبت إليه .

وأصدر الفقيه الأندلسي إبن ربيع (ت 719هـ/1320م) فتوى تتعلق بوضعية الأقلية الإسلامية تحت الحكم المسيحي . كما عالج الفقيه الأندلسي إبن رشد مسائل ذات علاقة بالتعامل مع غير المسلمين .

وفي القرن الخامس عشر ، كتب الفقيه المغربي ، الأندلسي الأصل ، عبد العباس الونشريسي مقالة بعنوان (أسنى المتاجر في بيان أحكام من غلب على وطنه النصارى ولم يهاجر) . ناقش الونشريسي مسائل تتعلق بشرعية البقاء تحت الحكم المسيحي . فقد سئل من قبل جماعة من المهاجرين المسلمين الذين غادروا الأندلس بعد سقوط غرناطة وعودة الحكم المسيحي بقيادة الملك فرناندو والملكة إيزابيلا إلى إسبانيا . وكان هؤلاء المهاجرون قد رغبوا بالعودة إلى الأندلس حيث عاشوا ، عندما واجهوا ضيق العيش وقلة الرزق في المهجر . وسنناقش هذه القضية لاحقاً .

وفي القـرن الحادي عشـر تعرض الفقيـه المازري ، في شمال أفريقيا ، لسؤال مـن قبل جماعة من المسلمين في صقلية حول شرعية الأحكام التي تصدرها المحاكم المسيحية وقضاتها ، وصحة شهادة الشهود غير المسلمين ، هل يجوز قبولها أم لا [82][7].

 

الإسلام والإستعمار

بدأ التوسع الأوربي مصاحباً لحركة الإستكشافات الجغرافية والتجارة الدولية . فقد أسس الإسبان والبرتغاليون والهولنديون إمبراطوريات تجارية في آسيا ، ثم خلفهم البريطانيون والفرنسيون فشيدوا إمبراطوريات إستيطانية ، إستعمارية . وكانت الإكتشافات العلمية وبناء البواخر الضخمة والحاجة إلى المواد الخام وإنشاء الأسواق التجارية من العوامل الهامة في توسع نطاق الإستعمار وسيطرته وعمله في القضاء على مقومات الأمم المستعبدة لإدامة الإستعمار [83][1]. ورافق صعود الرأسمالية الصناعية في أوربا ، وتسارع إيقاع التوسع الأوربي الذي اتخذ نمطاً مختلفاً . فحتى ذلك الحين كان الحافز الرئيس وراء التوسع الأوربي هو التجارة في سلع الترف والرفاهية ، وكانت السيطرة على البحار أهم من السيطرة على الأرض لأن امتلاك مواقع تجارية صغيرة كان كافياً لضمان المصالح التجارية التي يحرص عليها ذلك النوع من التوسع الأوربي . إلا أنه نتيجة لصعود الرأسمالية الصناعية في أوربا خلال القرن التاسع عشر ، أخذت الدول الأوربية توسع في نطاق سيطرتها على الأرض إما توسلاً الى إحتكار أسواق تصدير المواد الخام والمنتجات الزراعية وأسواق إستيراد المنتجات المصنعة ، وإما لحماية مصالحها الإستراتيجية . وفي بعض المناطق ، كانت السيطرة الإستعمارية تهدف إلى إنشاء مستعمرات للمستوطنين البيض [84][2]. فقد قامت فرنسا بجهود حثيثة لتوطين الفرنسيين في الجزائر وتونس ، ونجحت بريطانيا وهولندا في إقامة دولة اعتمدت على المستوطنين البيض في جنوب أفريقيا . وهذا تقويم تاريخي لحركة الإستعمار في العالم الإسلامي :

1 ـ الإستعمار الهولندي :

                                                               1621 جزيرة جاوة

                                                               1874 جزيرة سومطرة (أندونيسيا)

2 ـ الإستعمار البريطاني :

                                                               1757 البنغال (بنغلاديش)

                                                               1849 البنجاب (باكستان)

                                                               1815 نيجيريا

                                                               1882 مصر

                                                               1870 تنزانيا

                                                               1898 السودان

                                                                1917 العراق

                                                               1920 الأردن وفلسطين

3 ـ الإستعمار الفرنسي :

                                                               1830 الجزائر

                                                               1881 تونس

                                                               1882 السنغال

                                                               1882 مدغشقر

                                                               1912 المغرب

                                                               1918 سوريا ولبنان

4 ـ الإستعمار الإيطالي :

                                                               1887 الصومال وأرتيريا

                                                               1911 ليبيا

5 ـ الإستعمار الإسباني :

                                                               1914 الريف (شمال المغرب)

لم تعانِ بقية البلدان الإسلامية من الإحتلال العسكري المباشر ، ولكنها لم تكن بمنأى عن النفوذ الغربي ، السياسي والإقتصادي . فالنفوذ البريطاني كان لديه حضور قوي في إيران والجزيرة العربية . ونتيجة للإستعمار ، شهد العالم الإسلامي تغييرات جذرية في شتى النواحي الإقتصادية والإجتماعية والفكرية 

الجهاد والإستعمار

في المراحل الأولى من التوغل الأوربي في العالم الإسلامي قاوم المسلمون في مواقع كثيرة الوضع الجديد بالقوة . وكانت عقيدة الجهاد هي الطريقة الوحيدة القادرة على تعبئة الجماهير ضد الغزو الإستعماري ، وأرضية دينية للكفاح المسلح ، ومعياراً دقيقاً لتحديد العدو  [85][1].

لقد كانت المجتمعات الإسلامية في ذلك الوقت تفتقد للتنظيم عدا المؤسسات الدينية ، التي كان بوسعها تعبئة الجماهير في حركة منظمة ضد القوى الإستعمارية . ففي أفريقيا تزعمت الحركات الصوفية والطرق الدينية حركة الجهاد ضد الإستعمار ، على الرغم من الصبغة السلمية ومبدأ اللاعنف الذي تتسم به الحركات الصوفية عموماً ، والإنكفاء عن شؤون المجتمع والدولة . فكان أتباع الطريقة السنوسية في ليبيا ، والتيجانية في الجزائر ، والإدريسية في المغرب ، والختمية في السودان ، على رأس المقاتلين والمجاهدين الذين قاتلوا القوات الأوربية .

في هذا الفصل ، لن أتطرق لهذه الحركات ، لأن ذلك خارج موضوع هذه الدراسة . وقد اخترت بعض الحركات والثورات الإسلامية والتي لها صلة مباشرة بالغرب والنفوذ الغربي ، والعلاقات الخارجية للدولة الإسلامية . وسأركز البحث على حركة المرجعية الشيعية في إيران والعراق ، بهدف توضيح مدى تأثير المؤسسة الدينية الشيعية في الأحداث السياسية ، ودور المجتهدين الشيعة في التاريخ المعاصر ، وتعاملهم مع المنظمات الدولية والشؤون الخارجية . كما سألقي الضوء على حركة الجهاد الإسلامي في بلدين إسلاميين سنيين ، هما مصر ، ودور الأزهر أثناء الإستعمار الفرنسي والبريطاني; ودور الحركة الدينية في الهند . وسيتناول البحث حركة مقاومة الإستعمار التي قادتها المؤسسات الدينية دون غيرها من الحركات العلمانية ، لأننا نبحث في عقيدة الجهاد ، وهي عقيدة دينية خالصة .

العراق : من حركة الجهاد إلى ثورة الإستقلال

لعبت المرجعة الدينية الشيعية دورأ أساسياً في حركة الجهاد التي انطلقت لمواجهة الغزو البريطاني للعراق . في 6 تشرين الثاني 1914 نزلت القوات البريطانية ـ الهندية إلى ميناء الفاو . في 9 تشرين الثاني 1914 وصلت إلى علماء الدين في العتبات المقدسة وسائر المدن العراقية برقية جاء فيها :

(ثغر البصرة الكفار محيطون به ، الجميع تحت السلاح ، نخشى على باقي بلاد الإسلام ، ساعدونا بأمر العشائر بالدفاع) [86][1]. وسرعان ما اتخذت المرجعية الدينية الموقف اللازم في مثل هذه الأمور ، فعقد اجتماع حافل في النجف الأشرف ، في مسجد الهندي ، حضره الكثير من العلماء والوجهاء ورؤساء العشائر ، وخطب فيه السيد محمد سعيد الحبوبي والشيخ عبدالكريم الجزائري والشيخ جواد الجواهري ، حيث ذكروا وجوب مشاركة الحكومة المسلمة (تركيا) في دفع الكفار عن بلاد الإسلام [87][2] . وصدرت فتاوى الجهاد لتعبئة الناس وتشجيعهم على المشاركة في الجهاد . فقد أصدرت فتاوى الجهاد ضد القوات البريطانية . وفي مرقد الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام)في النجف ، ارتقى المنبر المرجع الديني السيد محمد كاظم اليزدي وخطب في الناس يحثهم على الدفاع عن البلاد الإسلامية ، وأفتى بالجهاد ، وأوجب على الغني العاجز جسدياً أن يجهز من ماله الفقير القوي  [88][3]. وفي الكاظمية كان الشيخ مهدي الخالصي أشد الناس حماساً للجهاد ، وكتب رسالة بعنوان (الحسام البتار في جهاد الكفار) . ولم يكتف الخالصي بهذا بل أصدر حكماً أوجب فيه على المسلمين صرف أموالهم في الجهاد حتى تزول غائلة الكفار ، ومن امتنع عن بذل ماله وجب أخذه منه كرهاً . وردت فتوى السيد اليزدي في برقياته ورسائله [89][4]التي أرسلها إلى أبناء العشائر والمدن ، نذكر منها :

(إلى إخواننا المؤمنين الموحدين من أهالي عفك، لا يخفى عليكم تحقق هجوم الكفرة على ثغور المسلمين ، فانفروا كما قال الله خفافاً وثقالاً . ولألفينكم كما يقول عز من قائل (أشداء على الكفار رحماء بينهم) ، فانهضوا بتوفيق الله إلى جهاد عدوكم وعدو نبيكم . وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة . فقد أعلنا بوجوب الدفاع عن حوزة المسلمين وبيضة الدين . وقد فضل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً .        محمد كاظم الطباطبائي) [90][5]

ولم يكتف المجتهدون الشيعة بالفتاوى وحث الناس على الجهاد ، بل شاركوا هم شخصياً في كتائب المجاهدين التي انطلقت لمواجهة القوات البريطانية ، ففي 15 تشرين الثاني 1914 ، أي بعد أسبوع من الغزو ، خرج السيد محمد سعيد الحبوبي من النجف يصحبه جماعة من أصحابه ، وقد تقلد سيفه ، فتوجه إلى الجبهة عن طريق السماوة والناصرية . وفي 17 تشرين الثاني 1914 تحرك موكب السيد عبد الرزاق الحلو . وفي 19 تشرين الثاني 1914 ، وصادف اليوم الأول من محرم 1333 ، غادر السيد مهدي الحيدري الكاظمية متوجهاً إلى جبهة القتال . وفي 22 كانون الأول 1914 غادر النجف الشيخ جعفر الشيخ عبد الحسين والشيخ عبدالكريم الجزائري والشيخ حسين الحلي والشيخ حسين الواسطي والشيخ منصور المحتصر وكثير من علماء وطلبة الحوزة العلمية . وفي 28 تشرين الثاني 1914 ، تحرك المجاهدون عن طريق بغداد بقيادة كل من شيخ الشريعة الأصفهاني والسيد علي الداماد والسيد مصطفى الكاشاني ، وموفدي السيد كاظم اليزدي وهم ابنه السيد محمد والشيخ محمد حسين كاشف الغطاء  [91][6].

وكانت أول مواجهة عسكرية مع القوات البريطانية في معركة الروطة في 20 كانون الأول 1915 خسر فيها الإنجليز ، فاضطروا إلى الإنسحاب . وكانت المعركة الثانية في الشعيبة في 12 نيسان 1915 وقد خسر فيها المجاهدون ، فتقدمت القوات البريطانية نحو الشمال . لقد كان لفتاوى الفقهاء دور في تعبئة الجماهير ضد الإستعمار البريطاني . وأدت حركة الجهاد إلى تأخير التقدم البريطاني في العراق ثلاث سنوات ، أي حتى آذار 1917 . وقد اعترفت المصادر البريطانية بالخسائر الجسيمة التي تكبدتها في حرب العراق . فقد خسرت بريطانيا 1297 جندياً ، بينما خسر المجاهدون 3000 مسلم  [92][7].

 

ثورة العشرين 1920

بعد دخول القوات البريطانية بغداد ، بدأ التفكير بتأسيس إدارة حكومية جديدة ، وكان هناك تياران داخل الحكومة البريطانية :

الأول : يدعو إلى وضع العراق تحت الإدارة البريطانية المباشرة ، ويتزعمه الكولونيل أرنولد ولسن نائب الحاكم المدني العام في العراق ، ويؤيده بعض الوجهاء والتجار والعلماء من أهل البلاد .

الثاني : يرى أن أفضل طريقة لحكم العراق هي الإدارة غير المباشرة من قبل بريطانيا .

في 30 تشرين الثاني 1918 أعلنت الإدارة العسكرية البريطانية عن عزمها القيام باستفتاء للتعرف على وجهة نظر السكان المحليين في مختلف المناطق . وأن يتضمن الإستفتاء الأسئلة التالية :

1 ـ هل يرغبون في دولة عربية واحدة ، تحت الوصاية البريطانية ، تمتد من الحدود الشمالية لولاية الموصل حتى الخليج الفارسي ؟

2 ـ هل يرغبون ، في هذه الحالة ، في رئيس عربي بالإسم يرأس هذه الدولة الجديدة ؟

3 ـ من هو الرئيس الذي يريدونه في هذه الحالة ؟ [93][1].

وحاول ولسن أن ينفذ وجهة نظره ، فأقنع بعض العوام بتأييد موقفه . وأصدر تعليماته إلى ضباط الإرتباط في المدن العراقية ، وأبلغهم بعدم قبول غير الأجوبة المرضية والملائمة للإنجليز . وقد وقع بعض أهالي كربلاء مضبطة يقولون فيها:

(وقد إجتمعت أفكارنا عموماً ، وصار نظرنا على ما فيه صلاح العموم ، بأن نكون تحت ظل حكومتنا العطوفة الرؤوفة البريطانية العظمى مدة من الزمان لترقي العراق خصوصاً ممالكنا وتعمير بلادنا ويكون بذلك مصلحة العموم) [94][2].

وفي الموصل إجتمع بعض العلماء والأشراف ، ووقعوا على مضبطة كتبها بخطه القاضي أحمد أفندي الفخري هذا نصها :

(نعرض الشكر لدولة بريطانيا العظمى على إنقاذنا من الأتراك ، وتخليصنا من الهلاك ، وإعطائنا الحرية والعدالة ، والسعي في ترقي ولايتنا بالتجارة والزراعة والمعارف ، ونشر الأمن في جميع الأطراف . ونؤمل من الدولة المشار إليها أن تحسن علينا بحمايتنا ، وإدارة شؤون ولايتنا إلى زمن يمكن فيه أن نفوز بالنجاح ، ويحصل لنا الترقي والصلاح ، ونسترحم إبلاغ معروضاتنا هذه من سعادتكم إلى عرش الملك جورج الأعظم ، والأمر لمن له الأمر .

حرر في 10 كانون الثاني 1919) [95][3].

يقول فيليب إيرلاند : بذل الإنجليز سعيهم من أجل جمع تواقيع شيوخ العشائر لصالح الحكم البريطاني ، وخاصة في المدن الكبرى كالبصرة ، حيث كان ملاك الأرض مستفيدين من الإحتلال البريطاني ، وأغلبهم أعلن عن تأييده الحكم البريطاني المباشر . وفي الموصل صدرت عشرة إعلانات (مضابط) موقعة من ممثلي المؤسسات الدينية ، سبعة منها تعود لغير المسلمين الذين طالبوا بالحكم البريطاني المباشر او الحماية البريطانية . وبيانان للمسلمين وآخر للأكراد الذين أصروا على أنهم لن يعيشوا تحت حكم عربي أبداً ، وطالب اليزيدية بذلك أيضاً . وأعلن بقية المسلمين في الموصل عن رغبتهم في الحماية البريطانية [96][4].

أما أغلبية الشعب العراقي فقد رفضت صيغة الإحتلال والحكم البريطاني المباشر . فقد أصدر المرجع الديني الشيخ محمد تقي الشيرازي فتوى بصدد الإستفتاء جاء فيها :

ليس لأحد من المسلمين أن ينتخب ويختار غير المسلم للإمارة والسلطنة على المسلمين .

20 ربيع الأول 1337 (23 كانون الثاني 1919) [97][5].

وقد تم استنساخ الفتوى وتوزيعها في المدن والمساجد والمراكز العامة . فكانت هذه الفتوى قد حسمت الموقف ، وأوضحت الموقف الشرعي تجاه الإستفتاء واختيار غير المسلم حاكماً على المسلم بإرادته ورغبته . فكان رفض المقترح البريطاني قد تصاعد في أنحاء المدن العراقية بتأثير من المدن المقدسة ، النجف وكربلاء والكاظمية ، وبتأثير المجتهدين الذين أيدوا فتوى الشيرازي الذي اعتبر من يرغب بحكومة غير مسلمة كافراً  [98][6].

إن موقف الفقهاء والمجتهدين يتضمن بعدين :

الأول : ديني فقهي ، إذ توجب الشريعة الإسلامية طاعة أولي الأمر من المسلمين لا أن يطيعوا السلطة الحاكمة إذا كانت من الكفار . يقول تعالى (اطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) (النساء : 59).

الثاني : سياسي ، إذ كانت بريطانيا وفرنسا قد وعدتا بإنشاء دولة عربية بعد انسحاب النفوذ العثماني من المنطقة العربية . فقد جاء في البلاغ البريطاني ـ الفرنسي الصادر في 7 تشرين الثاني 1918 «أن الغرض الذي ترمي اليه كل من بريطانيا وفرنسا في الشرق ، هو تأسيس حكومات وإدارات وطنية ، تستمد سلطانها من تأييد رغبة السكان الوطنيين أنفسهم ، ومحض اختيارهم ، واعترافهما بهذه الحكومات» عندما يتم تأسيسها تأسيساً فعلياً  [99][7].

وجاءت الفتوى ترجمة لموقف سياسي ومطالب وطنية أجمع عليها الفقهاء والعلماء وبقية أبناء الشعب العراقي . ففي «الكاظمية إجتمع العلماء والوجهاء والأشراف في اليوم الخامس من شهر ربيع الثاني 1337، الثامن من شهر كانون الثاني 1919 ووقعوا هذه المضبطة : [100][8]

بسم الله الرحمن الرحيم

بناء على الحرية التي منحتنا إياها الدول العظمى ، وفي مقدمتهن الدولتان الفخيمتان انجلترا وفرنسا ، وحيث أننا ممثلو جمهور كبير من الأمة العربية العراقية المسلمة ، فإننا نطلب أن يكون العراق ، الممتدة أراضيه من شمال الموصل إلى خليج فارس ، حكومة عربية إسلامية يرأسها ملك عربي مسلم هو أحد أنجال جلالة الملك حسين ، على أن يكون مقيداً بمجلس تشريعي وطني والله ولي التوفيق .

حرر يوم الأربعاء في 5 ربيع الثاني سنة 1337

وكانت أبرز التواقيع في هذه المضبطة للذوات :

محمد مهدي صدرالدين ، السيد أحمد السيد ، الحاج عبدالحسين الجلبي ، الشيخ عبدالحسين آل الشيخ ياسين ، السيد إبراهيم السلماسي ، السيد حسن الصدر والسيد محسن السيد حيدر .

وفي النجف الأشرف عقدت عدة اجتماعات لبحث الموضوع . وأخيراً تمت الموافقة وبإشارة من السيد كاظم اليزدي على مضبطة طلبوا فيها حكومة مستقلة إستقلالاً تاماً ناجزاً برئاسة ملك عربي مسلم مقيد بدستور ومجلس تشريعي منتخب  [101][9].

وفي بغداد ، إجتمع وجهاؤها وأشرافها بدعوة من قاضي بغداد ، وأصدروا بياناً يتضمن المطالب المذكورة آنفاً . «على أن موقف النقيب كان يختلف عن موقف المرشحين الآخرين . فإنه كان يصرح جازماً في أحاديثه الخاصة مع الحكام السياسيين (الإنجليز) بأنه ضد تعيين أمير على رأس الحكومة في العراق على أساس أن البلاد لم تكن على درجة من النضوج تؤهلها لأي نوع من أنواع الحكم العربي . ولذا كان يدعو إلى استمرار الإدارة البريطانية التي يتحتم عليها أن تتعاون مع سكان البلاد ، وتكثر من إستخدامهم بصورة تدريجية . وكان يؤكد على الحاجة إلى وجود الحاميات البريطانية في البلاد من أجل المحافظة على السلم . كما أنه أولاً وآخراً يعرب عن تعجبه وأسفه لإستفتاء الرأي العام عن مستقبل البلاد» [102][10] .

لقد كان موقف عبد الرحمن النقيب غريباً ولا يتناسب مع كونه نقيب الأشراف ومتولي الحضرة القادرية وزعيماً دينياً ، إضافة إلى أنه قبل برئاسة الحكومة فيما بعد مع أنها لم تنضج بعد على حد زعمه . ولم يكن ذلك موقف بقية العلماء السنة ، بل حدث تآلف وتعاون بين العلماء السنة والشيعة ، وصل إلى توقيع مضابط مشتركة كالتي وقعها الوفد الشيعي ـ السني المشترك والتي جاء فيها :

لما علم أن الغاية التي ترمي اليها كل من دولتي بريطانيا العظمى وفرنسا في الشرق هي تحرير الشعوب وإنشاء حكومات وإدارات وطنية وتأسيسها تأسيساً فعلياً بكل من سوريا والعراق حسبما يختاره السكان الوطنيون ، فإننا ممثلو الإسلام من الشيعة والسنة من سكان مدينة بغداد وضواحيها ، بما أننا أمة عربية وإسلامية قد اخترنا أن تكون لبلاد العراق الممتدة من شمالي الموصل إلى خليج العجم دولة عربية يرأسها ملك عربي مسلم هو أحد أنجال سيدنا الشريف حسين مقيداً بمجلس تشريعي وطني مقره عاصمة العراق بغداد .

        حرر يوم الأربعاء 19 ربيع الآخر سنة 1337 الموافق 22 كانون الثاني 1919م [103][11].

فشلت الإدارة البريطانية في إقناع العراقيين بالحكم المباشر ، رغم أن الخيار الآخر ليس بعيداً عن نفوذها ، فالملك فيصل بن الشريف حسين كان من رجالها وعلى علاقة وثيقة بها قبل سنوات عبر الجاسوس البريطاني لورنس الذي رتب الثورة العربية على تركيا .

في 2 آب 1919 إعتقلت السلطات البريطانية ستة من العاملين النشطين في مدينة كربلاء ، مما أغضب المرجع الشيخ محمد تقي الشيرازي ، فهدد بالهجرة إلى إيران وإعلان الجهاد هناك ضد الإنجليز ، فتفاعلت الأمة مع هذا الموقف ،وشعر الإنجليز بخطورة الموقف فقرروا إطلاق سراحهم . فبريطانيا كانت قبل خمسة أعوام قد جربت وعرفت ماذا يعني إعلان الجهاد ، لذلك آثرت عدم تصعيد الموقف ، وذلك لأن موقف الشيرازي سيكون إلهاماً في تحرك الجمعيات والأحزاب السياسية في تصعيد المعارضة السياسية ضد الإحتلال البريطاني . وفي الأول من آذار 1920 أصدر الشيرازي فتوى حرم فيها العمل في الوظائف الحكومية تحت الإدارة البريطانية ، فأدت إلى موجة إستقالات بين الموظفين الشيعة . لقد أراد الشيرازي عزل سلطات الإحتلال عن أبناء البلاد .

ولما رأت المرجعية الدينية أن بريطانيا تماطل في منح العراق الإستقلال ، كما ترفض تأسيس حكومة وطنية في العراق ، بادرت إلى مخاطبة المجتمع الدولي ، والإتصال بالقوى الأخرى ومنها أميركا . فقد بعث الشيخ محمد تقي الشيرازي وشيخ الشريعة الأصفهاني معاً برسالتين إلى كل من السفير الأميركي في طهران والرئيس الأميركي وودرو ولسن Wilson  Woodrowمن أجل مساعدة الشعب العراقي . فكان نص الرسالة الموجهة إلى السفير الأميركي في طهران كالتالي : [104][12]

تحظى بخدمة جناب الأجلّ سفير دولة أميركا المتحدة في طهران المحترم

بعد الإحترام اللائق :

لزمنا أن نحرر لكم في هذه الآونة على سبيل الإيجاز ، وذلك نظراً إلى ما أملته حكومة الولايات المتحدة من الشروط المعروفة التي قدمها رئيس جمهوريتها لإحقاق الحقوق ، وتقرير المصائر ، قد رأينا أن نراجع حكومة الولايات المتحدة بتوسطكم ونستعين بها في تأييد حقوقنا بتشكيل دولة عربية .

ولا يخفاكم أن كل أمة مطوقة بالقوات العسكرية المحتلة من كل الجوانب لا تجد أمامها مجالاً حراً للتعبير عن آرائها في الحرية والإستقلال .

أما حرية الرأي المزعومة في هذا العهد فلا يطمئن إليها الناس ، لهذا خشي أكثر الأهالي أن يعلنوا رغائبهم ، ويكشفوا عما في ضمائرهم ، وإذا بان خلاف ذلك فإنه لا شك منبعث عن الظروف القاسية المحيطة بهذه البلاد ، لذلك رأى الشعب العراقي أن يستعين بحكومة الولايات المتحدة على المطالبة بحقوقه وإنجازها .

        (التوقيع)                             شيخ الشريعة                         محمد تقي الحائري

5 جمادى الأولى 1337هـ (6 شباط 1919).

أما الرسالة الموجهة إلى الرئيس الأمريكي ولسن فكانت كالتالي : [105][13]

لحضرة رئيس جمهورية الولايات المتحدة الأميركية المحترم

إبتهجت الشعوب جميعها بالغاية المقصودة من الإشتراك في هذه الحروب الأوربية من منح الأمم المظلومة حقوقها ، وإفساح المجال لإستمتاعها بالإستقلال حسب الشروط المذاعة عنكم ، وبما أنكم كنتم المبدأ في هذا المشروع ، مشروع السعادة والسلام العام ، فلابد وأن تكونوا الملجأ في رفع الموانع عنه . وحيث قد يوجد مانع قوي يمنع من إظهار رغائب كثير من العراقيين على حقيقتها بالرغم مما أظهرته الدولة البريطانية من رغبتها في إبداء آرائهم . فرغبة العراقيين جميعهم والرأي السائد ـ بما أنهم أمة مسلمة ـ أن تكون حرية قانونية وإختيار دولة جديدة عربية مستقلة إسلامية ، وملك مسلم مقيد بمجلس وطني . وأما الكلام في أمر الحماية فإن رفضها أو الموافقة عليها يعود إلى رأي المجلس الوطني بعد الإنتهاء من مؤتمر الصلح .

فالأمل منا حيث إنا مسؤولون عن العراقيين في بث آمالهم وإزالة الموانع عن إظهار رغائبهم بما يكون كافياً ليطلع الرأي العام على حقيقة الغاية التي طلبتموها في الحرية التامة ، ويكون لكم الذكر الخالد في التاريخ بحرية العراق ومدنيته الحديثة .

(التوقيع)

شيخ الشريعة الأصفهاني           محمد تقي الحائري الشيرازي

في 12 جمادى الأولى 1337هـ (13 شباط 1919).

ولنا بضع ملاحظات ومناقشات حول هاتين الرسالتين الهامتين :

1 ـ انهما لمحتا إلى مبادئ الرئيس ولسن الأربعة عشر فيما يتعلق بحق تقرير المصير والإستقلال وتأسيس كل شعب حكومة ودولة خاصة به .

2 ـ قبول الوساطة الأميركية في تأييد حقوق المسلمين والدفاع عنها ، أي جواز الإستعانة بالكافرين لخدمة أهداف إسلامية أو الدفاع عن دولة إسلامية .

3 ـ أعلنتا عن إرتياح المرجعية ورضاها عن «مشروع السعادة والسلام العام» أي تأييد السلام الدولي والمحافظة عليه ، وهو أحد مبادئ القانون الدولي .

4 ـ التأكيد على أسس الدولة الديمقراطية وهي الحاكم المسلم ، الدستور والمجلس التشريعي أو الوطني .

ويشير ذلك إلى وعي مبكر لطبيعة الدولة الإسلامية التي كان يطالب بها الفقهاء والعلماء .

5 ـ أن المرجعية الدينية تمثل الشعب وتدافع عن آماله وطموحاته وتدافع عن مصالحه ، ومسؤولة عن المطالبة بما يريده . فالشعب أولاها ثقته ومنحها قياده .

6 ـ إنتقاد موجه لبريطانيا التي قبلت الإستفتاء لكنها ترفض نتائجه .

7 ـ تنم عن دبلوماسية رصينة في عدم البت بقضية الإنتداب أو الحماية بل ترك ذلك إلى رأي الشعب عبر المجلس الوطني . كذلك عدم إستباق الأحداث وانتظار نتائج مؤتمر الصلح في باريس 1920 .

في 25 نيسان 1920 أعلنت مقررات مؤتمر سان ريمو ، والتي تضمنت إعلان الإنتداب البريطاني على العراق وفلسطين ، والفرنسي على سوريا ولبنان . لقد كان القرار صدمة قوية للأوساط الشعبية والدينية . وكانت قد سبقته تحركات سياسية فجرها الإستياء من سوء معاملة الإدارة البريطانية للعراقيين عموماً . وكانت المرجعية تشرف على الإتصالات مع الأطراف الخارجية ، فقد كتبت رسالة شخصية في أوائل آب 1919 إلى الملك حسين في الحجاز ، فأجابها الأخير برسالة يعلن فيها تأييده لمطالب العراقيين [106][14] . في 16 نيسان 1920 عقد إجتماع في دار السيد علوان الياسري حضره عدد من العلماء ورؤساء العشائر ، وضم الميرزا محمد رضا الشيرازي ، نجل المرجع الشيرازي . طرحت في الإجتماع فكرة الثورة لأول مرة ، وتم الإتفاق فيه على تصعيد المواجهة [107][15] .

لم يكن الشيخ الشيرازي يميل للعنف والثورة المسلحة ، بل كان يريد أن تبقى الحركة الوطنية سلمية تكتفي بالمطالبة بحقوق البلاد المشروعة دون اللجوء إلى السلاح ، ولكن الذين خططوا للثورة ، ثم أصبحوا قادتها منهم عبدالكريم الجزائري وجعفر أبو التمن ونور الياسري وعلوان الياسري وعبدالواحد الحاج سكر ، إستطاعوا إقناعه ، وتبديد مخاوفه وتحفظاته . «إذ كان يخشى الفوضى ، ويعتبر حفظ الأمن أهم من الثورة بل أوجب منها ، فأجابوه بأنهم قادرون على حفظ الأمن والنظام ، وأن الثورة لابد منها وسوف يبذلون ما في وسعهم لحفظ النظام وتوفير راحة العموم . فقال لهم : إذا كانت هذه نياتكم وهذه تعهداتكم فالله في عونكم» [108][16].

وبدأت التحركات السياسية بدعوة الناس للتظاهر سلمياً للمطالبة بالحقوق المشروعة ، فأصدر الشيخ الشيرازي بياناً يدعوهم فيه للتظاهر السلمي مع المحافظة على الأمن ، ثم يطلب منهم إرسال وفد يمثل كل منطقة إلى بغداد ، جاء فيه :

إلى إخواننا العراقيين [109][17]

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

أما بعد فإن إخوانكم في بغداد والكاظمية والنجف وكربلاء وغيرها من أنحاء العراق ، قد اتفقوا فيما بينهم على الإجتماع والقيام بمظاهرات سلمية . وقد قامت جماعة كبيرة بتلك المظاهرات ، مع المحافظة على الأمن ، طالبين حقوقهم المشروعة المنتجة لإستقلال العراق إن شاء الله بحكومة إسلامية ، وذلك أن يرسل كل قطر وناحية إلى عاصمة العراق (بغداد) وفداً للمطالبة بحقه ، متفقاً مع الذين سيتوجهون من أنحاء العراق عن قريب إلى بغداد .

فالواجب عليكم ، بل على جميع المسلمين ، الإتفاق مع إخوانكم في هذا المبدأ الشريف . وإياكم والإخلال بالأمن ، والتخالف والتشاجر بعضكم مع بعض ، فإن ذلك مضر بمقاصدكم ومضيع لحقوقكم التي صار الآن أوان حصولها بأيديكم . وأوصيكم بالمحافظة على جميع الملل والنحل التي في بلادكم ، في نفوسهم وأموالهم وأعراضهم ، ولا تنالوا أحداً منهم بسوء أبداً .

وفقكم الله لما يرضيه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الأحقر محمد تقي الحائري الشيرازي         

9 ـ 10 رمضان 1338 (28 ـ 29 نيسان 1920)

وزع البيان في المساجد والمدن وسارت التظاهرات ، وكتبت البيانات ، وذهبت الوفود لكن كل ذلك لم يغير شيئاً من الموقف البريطاني . يقول فيليب إيرلاند وهو إنجليزي : «لقد فشلت المحاولة لجعل الإنتداب مقبولاً وأنه إلتزام فرض على بريطانيا من قبل عصبة الأمم ، حيث واجه رفض العراقيين سواء الإعتراف بسلطة عصبة الأمم التي منحت الإنتداب ، أو ما يتعلق بالإدعاء البريطاني بمسؤوليتها عن العراق وأنه رد فعل ودي تجاه عصبة الأمم . إن نظرة العرب العامة تجاه إعلان الإنتداب تشابه ما ذكره اللورد كورزنCurzon  Lord وزير الخارجية إذ قال : إنه من الخطأ الإفتراض أن عصبة الأمم أو أية هيئة أخرى هي التي تمنح الإنتداب . ليس ذلك بصحيح ، إنه يستند إلى أن القوى المنتصرة ، والتي فشلت في تقسيم الأراضي ، وجرى فرض الإنتداب البريطاني على العراق وفلسطين ، والإنتداب الفرنسي على سوريا» [110][18].

لقد فشلت الجهود السلمية في إقناع الإدارة البريطانية بالإستجابة إلى مطالب الشعب العراقي ، وبدأت بتصعيد سياستها وممارساتها ضد المعارضين والناشطين . ففي 21 نيسان 1920 ألقى الميجر بولي القبض على إبن الشيرازي ، محمد رضا الشيرازي ، ثم نفي إلى جزيرة هنجام في الخليج [111][19] . لم يكن أمام الشيخ الشيرازي إلا تأييد الإتجاه الآخر ، أي الثورة ، فأصدر فتواه التي منحت الشرعية لحركة جهاد جديدة ضد الإحتلال البريطاني جاء فيها : [112][20]

بسم الله الرحمن الرحيم

مطالبة الحقوق واجبة على العراقيين . ويجب عليهم في ضمن مطالبتهم رعاية السلم والأمن . ويجوز لهم التوسل بالقوة الدفاعية إذا امتنع الإنجليز عن قبول مطالبهم .

محمد تقي الحائري الشيرازي

أحدثت الفتوى هيجاناً عاماً في العراق ، وبات توقيت إعلان الثورة مجرد أيام ، فعقد علماء الدين والشخصيات ورؤساء العشائر إجتماعات للتداول واتخاذ الخطوات وتوزيع المهام ، حتى أعلنت الثورة يوم 30 حزيران 1920 . إستمرت الثورة لمدة خمسة أشهر ، تضمنت عمليات عسكرية ، ومواجهات مسلحة وقصف مدن بالطائرات وإحراق قرى ومزارع ، قتلى وجرحى وأسرى ، بشكل أربك الإدارة البريطانية . ولكن الثورة أصيبت بنكبة إثر وفاة قائدها الشيخ محمد تقي الشيرازي ، فتولى القيادة الشيخ فتح الله الأصفهاني المعروف بشيخ الشريعة . «وقد فقدت بريطانيا 426 قتيلاً و1228 جريحاً و615 أسيراً ومفقوداً ، إضافة إلى 8450 إصابة بين (المتمردين)» [113][21].

لم تحقق الثورة كل أهدافها إلا أنها أسهمت في تغيير موقف الحكومة البريطانية والتخلي عن فكرة الحكم المباشر ، والإعتراف بتأسيس حكومة وطنية ، والإستقلال . وهذا ما سيؤثر على مستقبل الحركة السياسية في العراق عموماً الذي استفاد من الثورة ، إلا أن المرجعية الدينية دفعت الثمن . إذ لم تغفر لها بريطانيا ما سببته لها من مشاكل وصعوبات خلال خمس سنوات ، فبادرت إلى نفي الفقهاء والعلماء الشيعة عن العراق . ولم تسمح لهم بالعودة إلا بعد تقديم تعهد بعدم التدخل بالأمور السياسية 

إيران : ثورات ضد الإمتيازات الأجنبية

لزمن طويل ، كانت إيران ميداناً للتنافس بين القوى الكبرى ، بريطانيا ، فرنسا ، روسيا وألمانيا . ولعب السفراء والقناصل الأجانب في طهران دوراً هاماً في السياسة والحكومات الإيرانية . وحتى القرن العشرين كانت الإمتيازات الأجنبية محور الصراع بين الدول الأوربية . وأصبح النفط فيما بعد العامل الرئيس الذي هيمن على علاقات إيران بالغرب .

لقد استغلت الدول الغربية الإمتيازات للهيمنة على النشاط الإقتصادي والتجاري والمالي في إيران ، فغدت التجارة والزراعة والصناعة والنقل والبريد والإتصالات الإيرانية بيد الشركات الأجنبية .في عام 1899 هيمنت بريطانيا على السكك الحديدية ، وكانت منذ عام 1852 هي المالكة الوحيدة لخطوط ومحطات التلغراف . في عام 1872 كان البارون يوليوس رويتر [114][1]  Baron deReuter هو صاحب الإمتياز الوحيد لسكة الحديد التي تصل بحر قزوين بالخليج ، وشبكة الترام في المدن الإيرانية ، ودوائر البريد ، الطرق ، مناجم الفحم والحديد والنفط وبقية المعادن لمدة 70 عاماً [115][2]. ولم يبق لشاه إيران شيئاً سوى الهواء ، على حد تعليق سياسي فرنسي [116][3] .

 

ثورة التنباك عام 1891

في 20 آذار 1890 منح ناصر الدين شاه إمتيازاً لإحتكار التبغ وبيعه في إيران لمدة خمسين عاماً لشركة إنجليزية تدعى ريجي Regi Tobacco لصاحبها الميجر تالبوت . وكانت الإتفاقية مجحفة بالنسبة للشعب الإيراني ، حيث تضمنت بنوداً وقرارات ضارة بالمزارعين والتجار وعامة الناس منها :

1 ـ يجب على حكام الأقاليم في أنحاء إيران إجبار المزارعين على إعطاء تعهدات للشركة البريطانية بأن كل ما يزرعونه من التبغ لا يجوز لهم بيعه وشراؤه إلا بإذن صاحب الإمتياز . وليس لأحد إصدار الإجازة بذلك ، إلا من صاحب الإمتياز . وليس للبائع والمشتري أن يتعامل بغير دفتر الإجازة ، ومن فعل ذلك فعليه عقوبة.

2 ـ عدم جواز حمل ونقل التبغ مطلقاً إلا بإجازة صاحب الإمتياز .

3 ـ يجب على صاحب الإمتياز شراء جميع التبغ الموجود في إيران ، وليس للبائع الإمتناع عن ذلك .

4 ـ كل من باع أو اشترى خفية ، أو وجد عنده شيء من التبغ دون إجازة ، فيجب على المسؤولين في الحكومة الإيرانية معاقبته بشدة [117][1] .

5 ـ توافق الدولة على عدم فرض رسوم ومكوس إضافية على التبغ [118][2] .

      واضح أن الإمتياز يهيمن على كل عمليات زراعة وصناعة ونقل وتوزيع وبيع وشراء التبغ في إيران . وإذا علمنا أن إيران بلد واسع ذو سوق كبير وإمكانات واسعة ، مما يعني تأثير الإمتياز على أرزاق وأعمال عشرات الآلاف من المزارعين وتجار الجملة والمفرد وصغار البائعين ، وشركات النقل والتوزيع ، لأتضحت صورة الإستغلال البشع لشعب مسلم . ولم يسكت أبناء الشعب أمام الأضرار الفادحة التي يتكبدونها يومياً ، فكثرت الشكاوى والتذمر ضد السلطة ، واعترض علماء الدين في إيران ، لكن الشاه كان مصراً على موقفه في منحه الإمتياز للإنجليز . أخذت الأنظار تتجه إلى المرجع الديني السيد محمد حسن الشيرازي المقيم في سامراء بالعراق . فأرسلوا إليه الوفود والبرقيات تشرح له الحالة . تبنى الشيرازي موقف الشعب الإيراني ، «فأرسل رسالة إلى ناصر الدين شاه يطلب منه إلغاء الإمتياز ، فاعتذر الشاه عن إلغاء الإتفاقية محتجاً بعدم قدرته ، وما يترتب على ذلك من مخاطر . وحذره الشيرازي برسالة ثانية ، لكن الشاه ظل على موقفه» [119][3].

بعد أن يئس الشيخ الشيرازي من تغيير موقف الشاه تجاه الإمتياز ، وتدهور الأوضاع الإقتصادية للمزارعين والتجار الإيرانيين ، قرر أن يسلك سبيلاً آخر ، السياسة السلبية أو اللاعنف ، فقرر أن يمتنع الناس عن شراء وإستخدام التبغ ، فأصدر فتواه الشهيرة : [120][4]

بسم الله الرحمن الرحيم

اليوم إستعمال التنباك والتتن حرام بأي نحو كان . ومن استعمله كان كمن حارب الإمام عجل الله فرجه .

محمد تقي الحائري الشيرازي

أحدثت الفتوى صدىً هائلاً في أوساط الشعب الإيراني ، فاستجابت لها كل الطبقات الإجتماعية ، فأصبح الإمتناع عن التدخين عملاً وطنياً وممارسة ثورية وطاعة دينية واستجابة لأمر قائدها . فأقلع الجميع عن التدخين بشكل كامل ، واُغلقت محلات بيع التبغ ، بل سرى الإلتزام بالفتوى حتى داخل قصر الشاه ، فاضطر في النهاية إلى إلغاء الإتفاقية بعد دفع نصف مليون باوند تعويضاً للشركة 

الإسلام وتأميم النفط

في 21 مايس 1901 منحت الحكومة الإيرانية إمتياز نفط الجنوب إلى ثري إنجليزي يدعى وليم دارسي . William Knox D' Arcy وبموجب ذلك الإمتياز يشرف دارسي على عمليات إستخراج ونقل النفط في جميع أنحاء إيران ، عدا خمس مقاطعات هي آذربايجان وگيلان ومازندران وگرگان وخراسان ، ولمدة 60 عاماً . ومقابل ذلك تعهد دارسي بدفع مبلغ000ر20 ليرة نقداً ، وما يعادل نفس المبلغ على شكل أسهم ، إضافة إلى 16% من خالص أرباح الشركة ، إلى الحكومة الإيرانية .وبتاريخ 26 مايس 1908 تم حفر أول بئر نفطي في منطقة مسجد سليمان ، في الجنوب الإيراني [121][1] .

ومنذ ذلك التاريخ دخلت إيران في عداد الدول الغنية بالنفط ، حيث أصبح النفط يلعب دوراً رئيساً في السياسة والإقتصاد الإيراني .وكانت علاقاتها الخارجية متأثرة بحجم إنتاجها ، واكتشاف المزيد من إحتياطي النفط . وكان التنافس الدولي على أشده في الشرق الأوسط وخاصة في إيران ، باعتبار أنها أول دولة تم اكتشاف النفط فيها في المنطقة . وكان الغرب يقدر أهمية النفط الإيراني ، إذ لعب النفط دوراً أساسياً في تجهيز الأساطيل البحرية البريطانية والآلة العسكرية في الحرب العالمية الأولى . لذلك حرصت على حمايته ، بل أن حماية النفط كان أحد الأسباب القوية التي دعت بريطانيا لدخول العراق منذ بداية الحرب ، في تشرين الثاني 1914 . وكان أحد العوامل الرئيسة في احتلال إيران عند بدء الحرب العالمية الثانية [122][2] . وكان مصفى عبادان أكبر مصفى في العالم آنذاك ، وصاحب الفضل في انتصار الحلفاء .

وكانت بريطانيا وأميركا يعتبران النفط الإيراني إحتياطياً ستراتيجياً للصناعة الغربية واستمرار تقدمها ونموها . لذلك كانتا تحرصان على تجنيب إيران أية عوامل تؤثر على إنتاج النفط ، وضرورة ترسيخ الإستقرار فيها .

في نهاية عام 1947 قررت الحكومة الإيرانية تجديد إتفاقية النفط الموقعة عام 1933 ، فأضيف إليه ملحق وقعه بتاريخ 17 حزيران 1949 وزير المالية الإيراني كلشائيان مع السيد جس Giss ممثل الحكومة البريطانية . وحتى تكون الإتفاقية سارية المفعول يجب أن تحظى بموافقة مجلس الشورى (البرلمان الإيراني) . واجهت الإتفاقية صعوبات في المجلس في الدورة 15 بسبب معارضة بعض النواب أمثال أبو الحسن حائري زادة والدكتور مظفر بقائي كرماني وحسين مكي . وكانت إنتخابات العاصمة طهران قد ألغيت بسبب التزوير . كان الشاه وحكومته يرغبون بموافقة المجلس بأية وسيلة ، فأخذت السلطات تمارس سياسة ضغط وإرهاب للمعارضين لإتفاقية النفط . وكان الشاه قد تعرض لمحاولة إغتيال في 4 شباط 1949 ، فاتخذها ذريعة لاتهام خصومه ، فصدر قرار يعتبر حزب تودة غير قانوني ، وجرى اعتقال أعضائه . من جانب آخر جرى اعتقال السيد أبو القاسم الكاشاني ، ووضع في سجن قلعة الأفلاك في خرم آباد ، ثم تم نفيه إلى لبنان . ولما جرت إنتخابات الدورة 16 للمجلس كان الدكتور محمد مصدق والسيد أبو القاسم الكاشاني والنواب الثلاثة المذكورون آنفاً على رأس الفائزين بمقاعد مدينة طهران ، إذ شكلوا أقلية وطنية مقابل أكثرية أنصار السلطة . كان الكاشاني في المنفى حين تم انتخابه ، فعاد إلى إيران في 11 حزيران 1950 ليقود المعارضة .

كانت إتفاقية النفط أهم القضايا التي على مجلس الشورى البت فيها ، وإعطاء رأي نهائي بها . في أول جلسة ألقى الكاشاني ، بعد أن انتخب رئيساً للبرلمان الإيراني ، كلمة رفض فيها قرارات المجلس السابق لعدم شرعيته ، ومنها الموافقة على اتفاقية النفط مع بريطانيا. وكان رأي محمد مصدق زعيم الجبهة الوطنية مؤيداً لموقف الكاشاني . فشكلا بذلك جبهة سياسية تضم القوميين والإسلاميين . كانت الأحداث تسير بإتجاه تأميم النفط وجعل الصناعة النفطية تحت إشراف وإدارة الحكومة الإيرانية . فقد أصدر السيد الكاشاني بياناً جاء فيه :

(إن تأميم النفط هو السبيل الوحيد أمامنا ، أولاً : لإسترجاع الثروة ، التي أعطاها الله للشعب الإيراني ، من أيدي الأعداء الذين لا يهمهم سوى الإستغلال ومص دماء الشعوب الضعيفة ، وإعادتها إلى أصحابها الحقيقيين والمستحقين . وثانياً : تطبيق السيادة الوطنية عملياً ، بحيث لا تتمكن الشركة (البريطانية) الغاصبة من تسليط عملائها على أرواح وأموال وأعراض الناس . إنها ما زالت تهدف إلى استمرار نهجها ولكن الأوضاع الدولية اليوم لا تسمح بذلك بسهولة . فالشعوب اليقظة وتقاطع السياسات الدولية لا تساعد على تكرار هذه الجرائم .

أما أولئك الذين ما زالوا مترددين وشاكين بهذا الأمر ، فلينظروا للشعوب الأخرى أمثال أيرلندا والهند والباكستان وبورما ومصر ، وكيف أجبروا الحكومة البريطانية الظالمة على الكف عن مظالمها ، وأن سياستها تلك ستعود نتائجها الوخيمة عليها (بريطانيا) ... وبهدف توضيح التكليف الشرعي والوطني للشعب الإيراني المسلم ، أقول أن الأمل المشترك ، ومن أجل سعادة الشعب الإيراني ، وبهدف المحافظة على السلام العالمي ، فإن جميع أفراد الشعب يريدون تأميم الصناعة النفطية في كل إيران دون استثناء; أي أن جميع عمليات اكتشاف واستخراج وتسويق النفط يصبح بيد الحكومة) [123][3]

فتاوى تأميم النفط

ما أن أعلن الكاشاني موقفه بصدد تأميم النفط حتى بادر الفقهاء والمراجع الشيعة إلى تأييده وأصدروا فتاوى بتأميم النفط . فقد أصدر آية الله العظمى محمد تقي الخوانساري فتوى جاء فيها :

(إن تسلط الأجنبي على النفط الذي يمثل روح حياة الأمة ، لا يعني سوى السذاجة ، والإنفصام عن المجتمع ، وعدم رعاية المقررات والواجبات الدينية ، وضعف الإدراك ، وعدم رعاية مصالح المجتمع . وفي حين يقول الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) : من أصبح ولم يهتم بأمور المسلمين فليس بمؤمن ولا مسلم . فهل الإهتمام بأمور المسلمين يعني ترك ملايين المسلمين في الفقر المدقع ؟ ولو قال أحد أن هذه ليست من شؤون الإهتمام بأمور المسلمين ، فقوله خلاف الوجدان . وإذا لم يكن حديث الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)  يشمـل هـذه الامور ، فماذا يشمل إذن ؟ فإذا لم يقبلوا ذلك فهم يردون على حكم رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) . إن حضرة آية الله الكاشاني (دامت بركاته) مجتهد عادل ، شهم ، ومضحي من أجل مصالح الناس في دينهم ودنياهم ، ويبذل جهده في توعية الناس ، فلا يبقى عذر لأحد) [124][1].

وأصدر آية الله بهاء الدين محلاتي فتوى أيضاً هذا نصها [125][2] :

بسم الله الرحمن الرحيم

من البديهي أن الدين الإسلامي يفرض واجبات فردية وجماعية على أتباعه، وإذا لم يقم المسلمون بها فإنهم إضافة إلى ضعفهم وعجزهم وتسلط الأجانب عليهم، فإنهم لن يتفوقوا على الأجانب أبداً . ففي صدر الإسلام كان تطبيق أحكام الدين هو الذي جعل السيادة للمسلمين، ورفعوا راية التوحيد على القصور الفخمة للسلاطين والملوك. إن واحداً من المبادئ الإسلامية التي تمنع تسلط الأجانب، والتي يؤكد عليها القرآن مراراً هو ترك محبة الكفار، إذ يقول تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالاً ودوا ما عنتّم ، قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر ، قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون)

(آل عمران : 118).

من مظاهر مخالفة مضمون الآية الشريفة هو ما نشاهده من إنحطاط وذلة الشعوب المسلمة بسبب وضع النفط ، الذي يعتبر من الثروات الهامة ، وسيادتها بأيدي الأجانب . من الواضح أن وضع نفط الجنوب تحت تصرف الإنجليز ، لا يؤدي إلى إضعاف الدولة الإسلامية فحسب ، بل تدمير قواها السياسية والإقتصادية والدينية . إن فرض الإتفاقية السابقة بين الدولة الإيرانية وشركة النفط (الإنجليزية) ، إضافة إلى أنها وقعت من قبل الحكومة المتجبرة والتي لا ولاية لها شرعاً وواقعاً على المسلمين والشعب المظلوم ذات ضرر بليغ وضد مصلحة المسلمين ، فإنها باطلة ولا أثر لها . إن قطع النفوذ الأجنبي عن التدخل في أمور المسلمين وإعادة العظمة والإستقلال للدولة الإسلامية الإيرانية من أهم الواجبات على المسلمين . وبناءً على ذلك الواجب ، يجب على المسلمين السعي من أجل انتخاب وتشكيل حكومة وطنية تستمد قراراتها من الأحكام الإسلامية ، من أجل تخليص الصناعة النفطية من أيدي الشركة الغاصبة والحكومة الأجنبية ، والإشراف على استخراجه والإستفادة منه بموجب المقررات الدينية ، وتجديد حياة هذه الدولة .

بالطبع ، فإن آية الله الكاشاني (دامت بركاته) ، وحسب ما ذكرنا آنفاً ، يعارض بقاء النفط بأيدي الشركة الأجنبية ، وعلى هذا الأساس يعتبر أن تأميم النفط أمر لابد منه . إن التعاون معه ، ومساعدة حضرته (الكاشاني) من أجل بلوغ هذا الهدف الشريف والحيوي ، واجب على كل مسلم .

بهاء الدين محلاتي

وأصدر السيد محمود الروحاني القمي فتوى يؤيد فيها تأميم النفط ، ويساند موقف أبو القاسم الكاشاني ، هذا نصها: [126][3]

بسم الله تعالى شأنه العزيز

اللهم اهدنا سبيل الرشاد وأعذنا من شرور الكفار

من المعلوم أن قضية تأميم النفط ليست من العناوين الأولية ، لأن النفط والمعادن ملك للمسلمين وثروة الإيرانيين ، ولكن الأجانب هم المستفيدون منه ، بينما ملايين الرجال والنساء والأطفال الإيرانيين يعانون التعاسة والبؤس . ولو أعيدت موارد البلاد بيد الشعب لزالت مظاهر التعاسة والحزن ، وهذا ما لا ينكره أحد .وهذا الحكم ينطلق من الموازين الشرعية ، وهوأحد ضروريات الدين ، ومطابق لنص الآية المباركة (لن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً)(النساء : 144) . ويلغي ذلك بعض الشبهات بالعنوان الثانوي ، لأن هذا الأمر بديهي فلا يشتبه على أحد .

إن آية الله الكاشاني (دام ظله) يعمل ، منذ أول حياته ، في إصلاح أمور المسلمين ، ومن أجل فائدة وخير الناس ، ومناضل ضد أعداء دين ودنيا المسلمين ، ومن المدافعين عن حقوق الإيرانيين ، ولا يمتنع عن تقديم أية تضحية ونضال ، ولديه اطلاع كامل في السياسة ، ويتربع على قمة هذه النهضة المقدسة ، واليوم يقول ، بكل إصرار من أجل تأميم النفط في انحاء البلاد ، ولم تعد هناك شبهة باقية . وبناءً على ذلك ، يجب على مواطنينا الأعزاء بذل أقصى جهودهم من أجل التخلص من مخالب الأجانب ، وتحقيق الخلاص والسعادة . والسلام على الإخوان المؤمنين ورحمة الله وبركاته .

الأحقر محمود الحسيني الروحاني القمي

كما أصدر آية الله عباس علي الشاهرودي فتوى هذا نصها : [127][4]

بسم الله الرحمن الرحيم

سألني بعضهم عن حكم الشرع والدين بصدد قطع أيدي الأجانب وخائني البلاد ، وتأميم صناعة النفط في أنحاء البلاد . من المعلوم أن لا مكان للشك في أن قطع يد الأجانب عن البلاد والمسلمين وتأميم النفط في أرجاء البلاد من الأمور الواجبة التي يجب أن تحظى بالجدية اللازمة ، خاصة وأن آية الله العظمى الكاشاني (دامت بركاته) يقف على رأس هذه الحركة المقدسة ، ويصرف كل أوقاته الشريفة لرفع الظلم والجور ، وتأمين رفاه المسلمين ، وكل وقته يصرفه في أعمال الخير والشريعة ، ومحاربة قوى الظلام ، ويقف في الصفوف الأولى للمضحين عن الإسلام . ولديه خبرة لسنوات متمادية في الشؤون الحكومية ، وعلى اطلاع واسع بدقائق الأمور الإجتماعية . فعلى المسلمين إتباعه وتقديره ، ولا يترددوا أبداً في تطبيق أحكام الشرع والدين المقدسة من أجل تأميم صناعة النفط في أنحاء البلاد .

الأحقر عباس علي الشاهرودي

 

قرار التأميم

تطورت الأوضاع السياسية داخل إيران ، حيث بات الصراع أكثر حدة وسعة بين المجلس ونوابه الإسلاميين والوطنيين وجماهير الأمة ، وبين الشاه والجيش والوزارة وبريطانيا وأميركا من جهة أخرى . وزاد التوتر والتصعيد إغتيال رئيس الوزراء الإيراني الفريق رزم آرا الذي عينه الشاه بهذا المنصب كمحاولة لضبط الأوضاع والسيطرة على الشارع الإيراني ، وبعد استقالة رئيس الوزراء علي منصور . وجرى تعيين رزم آرا بتاريخ 27 حزيران 1950 ، فلم يبق سوى أقل من ثمانية أشهر حيث اغتيل يوم 7 آذار 1951 من قبل خليل طهماسبي ، أحد أعضاء حركة فدائيان إسلام التي يتزعمها نواب صفوي (1924 ـ 1955) [128][1].

بعد إغتيال رزم آرا قام الشاه بتعيين حسين علاء [129][2] مكانه . ساد شعور بالإرتياح لمصرع رزم آرا . وقد صرح السيد الكاشاني بأنه «يجب إطلاق سراح قاتل رزم آرا لأن عمله كان في سبيل الشعب الإيراني وإخوته المسلمين» [130][3]. وأصدر الكاشاني بياناً قال فيه : «إن الرصاصات التي أردت رزم آرا قتيلاً قد أكسبتنا معركة النفط ، وسيؤمم النفط رغم أنف الخائن المضرج بدمه» [131][4]. لقد أصبحت الحكومة ضعيفة ، مما جعل طرح قرار تأميم النفط في مجلس الشورى أمراً لصالح السيد أبو القاسم الكاشاني والوطنيين . فجرى التصويت والموافقة على تأميم صناعة النفط بتاريخ 20 آذار 1951. واعتبر ذلك إنتصاراً للشعب وتحريراً لثرواته من أيدي الغرب .

بعد ذلك الإنتصار أصبحت قضية رئاسة محمد مصدق مسألة وقت ، فقد تم ترشيحه في المجلس وحصل على رأي الأكثرية ، فأصبح رئيساً للوزراء بتاريخ 5 مايس 1951 ، أي بعد شهر ونصف من قرار التأميم . كان رد فعل بريطانيا وأميركا قوياً تجاه تأميم النفط . فقد هددت بريطانيا بالتدخل العسكري ، فصرح السيد الكاشاني بأنه سيعلن الجهاد ، كي يؤدي المسلمون الإيرانيون واجبهم الديني . أحدث الإعلان تأثيراً في الأوساط الإيرانية ، كما زاد القلق في الأوساط الدولية والإقتصادية ، لأن حدوث حرب في المنطقة سيكون له تأثير على إنتاج وأسعار النفط في العالم . من جانب آخر أخذت الدول المنافسة لبريطانيا وأميركا ، مثل روسيا وفرنسا تقف ، إعلامياً ، إلى جانب موقف السيد الكاشاني . فقد وصفت صحيفة «اللوموند» الكاشاني بأنه «بابا الشيعة» ، وأن أوامره مطاعة من قبل ملايين الشيعة في الشرق الأوسط [132][5]. وأعلن راديو باكو أنه إذا قام آية الله الكاشاني بإعلان الجهاد ، فلن تستطيع أي قوة منع 30 مليون مسلم في الإتحاد السوفياتي من أداء واجبهم الديني [133][6] .

في 19 آب 1953 قام وزير الداخلية (في حكومة مصدق) الجنرال حسين زاهدي ، وبتنسيق وإشراف وكالة المخابرات المركزية الأميركية ، بتدبير إنقلاب ضد حكومة مصدق ، الذي تم اعتقاله مع وزرائه وبقية أعضاء الجبهة الوطنية . أصبح زاهدي رئيساً للوزراء ، وأعاد العلاقات الدبلوماسية مع بريطانيا 

الكاشاني ومحكمة العدل الدولية

بعد تأميم النفط الإيراني قامت شركة النفط الإنجليزية بالشكوى عبر حكومتها إلى محكمة العدل الدولية ، لأن إيران لم تحترم الإتفاقية الموقعة ، وطالبت بتعويضات بعد مصادرة ممتلكاتها وآلاتها وأجهزتها . وأجرى مراسل صحيفة (ديلي أكسبريس) البريطانية مقابلة مع السيد الكاشاني أوضح فيها موقفه من قضية اللجوء إلى محكمة العدل الدولية . ويظهر أن الكاشاني كان يشك بنزاهة المحكمة ويرفض عرض الموضوع عليها . فعندما سئل فيما إذا كان يوافق على وصول القضية إلى المحكمة الدولية أجاب :

لقد ألغي نظام الإمتيازات (الكابتولاسيون) في إيران منذ مدة ، وإذا حدث نزاع ، داخل إيران ، بين إيرانيين وأجانب ، فيجب أن ترفع القضية إلى المحاكم الإيرانية ، وهي التي تصدر القرار بها [134][1] .

بالطبع قد يكون رأي الكاشاني صحيحاً إذا لم تتضمن الإتفاقية شرطاً أو بنداً يوضح طريقة حل الخلافات التي قد تنشب بين الطرفين . علماً بأن اتفاقية النفط كانت تنص على اللجوء إلى محكمة العدل الدولية عند نشوب خلافات بين إيران وشركة نفط الجنوب الإنجليزية ، لكن السيد الكاشاني رفض الإلتزام بذلك البند قائلاً :

إن اتفاقية عام 1933 قد جرى فرضها بالقوة ، ولا تعتبر قانونية لأن الذين وقعوا عليها إعترفوا صراحة ورسمياً في مجلس الشورى الوطني الإيراني بأن اتفاقية 1933 قد جرى فرضها على الأمة بالقوة . والشخص الذي اعترف بذلك هو الآن رئيس مجلس الشيوخ . كما أن الإذاعات والصحف ووكالات الأنباء والمسؤولين البريطانيين أعلنوا مراراً أن حكومة الشاه السابق حكومة دكتاتورية ، وأن الشاه السابق هو دكتاتور . فماذا تتوقعون من الشعب الإيراني الذي شكل حكومة وطنية بيده [135][2] ؟

إن حديث السيد الكاشاني لا يتفق مع مبادئ القانون الدولي لأن الحكومة القائمة تمثل البلاد وتحظى بشرعية القانون الدولي ، الذي لا يهمه نوع الحكومة أو كيف وصلت إلى السلطة . وإذ ما جرى التخلي عن إلتزامات حكومة سابقة ، فإن ذلك يعني عدم الثقة بأية حكومة ، لأنها قد تترك السلطة في وقت من الأوقات ، ولسبب من الأسباب . كما أن ذلك قد ينطبق على الحكومة التي كان الكاشاني يؤيدها . وتثير مسألة التحلل من الإلتزامات السابقة مشكلة كبيرة في القانون الدولي ، إذ يتحمل من يتولى السلطة في البلد تنفيذ جميع الإتفاقيات والإلتزامات التي قدمتها حكومات بلده من قبل .

أما بالنسبة لقضية التعويضات عن مصادرة تأسيسات ومصانع شركة النفط الإنجليزية ، فإن السيد الكاشاني قد طرح اقتراحاً جديداً إذ صرح أنه :

حسب إتفاقية دارسي التي مدتها 60 عاماً (إعتباراً من عام 1901) فإنه بعد إنقضاء المدة تنتقل ملكية جميع التأسيسات النفطية إلى الحكومة الإيرانية . ولما بقي عشر سنوات من المدة ، فيجب تعويض الشركة بما قيمته سدس قيمة ممتلكات شركة نفط الجنوب (الإنجليزية) . ويجب أن يقوم بهذه المهمة محاسبون كفوؤون ومحايدون [136][3] .

الكاشاني والأمم المتحدة

من النادر ان يقوم العلماء المسلمون بإتصالات دولية سواء مع الشخصيات او المنظمات والوكالات . ويتأكد ذلك عندما يكون العلماء بعيدين عن السلطة أو لا يتسنمون مناصب حكومية تتطلب منهم ذلك . ويعد السيد الكاشاني من القلائل الذين سعوا لمخاطبة الرأي العام العالمي عبر منبر الأمم المتحدة ، في وقت مبكر من تأسيسها عام 1946 .

لم يدخر السيد الكاشاني وسعاً في سبيل الدفاع عن الشعب الإيراني المسلم وثرواته القومية . وبعد إنقلاب زاهدي ، وخروجه من مجلس الشورى الوطني ، لم يكن بإستطاعته سوى إصدار البيانات من أجل توضيح الحقائق وما يجري في البلاد ، ومتابعة قضية تأميم النفط التي اعتبرها قضية في الصميم الإسلامي ، فحشد لها كل إمكاناته وطاقاته . فسعى من أجل إخراج القضية من الدائرة الإيرانية إلى المستوى الدولي ، فأرسل ، بتاريخ 19 شباط 1954، رسالة إلى الأمين العام للأمم المتحدة همرشولد ، يطلعه فيها على ممارسات حكومة زاهدي ، وأنها تمثل إنتهاكات لميثاق الأمم المتحدة وإعلان حقوق الإنسان ، ورفض الشعب الإيراني للدكتاتورية وعدم إحترام إرادته . وهذا نص الرسالة التاريخية :

السيد همرشولد الأمين العام لمنظمة الأمم المتحدة

أود إطلاع منظمة الأمم المتحدة ، التي نظمت وأصدرت لائحة حقوق الإنسان ، وليعلم العالم الحر بأنه لم يمر وقت بإيران بمثل هذا الحد من الأسى والألم ، وأن الحرية ليست إلا من نصيب الخونة وعملاء الأجانب ، الذين يسعون لحماية مصالحهم الإستعمارية . في هذه الأيام التي تجري فيها إنتخابات المجلسين (مجلس الشورى ومجلس الشيوخ) في إيران ، فإن الحكومة أوقفت صدور جميع الصحف الوطنية ، وتم احتلال المطابع من قبل القوات المسلحة . وبذلك سلبت من الأمة أي إمكانية للنقد ونشر الحقائق . وأصبحت الجرائد الصادرة خاضعة للرقابة الشديدة ، وتمنع نشر أخبار القتلى الذين يسقطون يومياً في الشوارع بأيدي رجال السلطة . ووصل الكبت إلى درجة أن المراسلين الأجانب لا يستطيعون إرسال تقارير عن الحوادث الواقعية ، ويتعرضون إلى مختلف أنواع التضييق والتهديد بالطرد خارج البلاد ، بشكل لا يتمكنون من أداء عملهم الصحفي . لقد اعتقل حوالي مليون شخص من المتدينين والأحرار ، ممن يحبهم الناس ، سواء الذين يقبعون في السجون أو تحت الإقامة الجبرية في منازلهم ، خاضعين لمراقبة الشرطة والمخابرات . وفي هذه الظروف يجري تعيين اللصوص والمجرمين وأصحاب السوابق وخدمة الإستعمار الأجنبي ، بكل وقاحة وبقوة الحراب ، نواباً للشعب ...

وقد تتساءل دول العالم الحرة ، لماذا ترتكب هذه الحكومة الأعمال اللاإنسانية ، وقتل الأحرار والطلاب الأبرياء وعمال النفط في عبادان ، وحبس وإبعاد المعارضين ، وضرب المعترضين على الإنتخابات ؟

إن الهدف الفعلي للحكومة هو الحصول على الأموال بأية وسيلة ، وذلك لإيصال من ترتئيهم إلى المجلسين كي يقوموا بالموافقة على اتفاقيات بيع النفط ، والحصول على عائداته ، وتشريع قوانين تناقض إستقلال وحرية البلاد .

إن الحكومة الحالية تسلك وسائل غير قانونية من أجل إستمرار بقائها . وأن أي اتفاق يوقع أو تشريع يصوت عليه لا يحظى بتأييد الشعب الإيراني وليس له أثر . وأن أية دولة أو مؤسسة أجنبية تعطي أموالاً لهذه الحكومة فعليها فيما بعد ، إذا أرادت تصفية الحساب واستعادة أموالها ، أن تطالب بها أولئك الأشخاص الذين سلمتهم إياها . إن الشعب الإيراني يعطي لنفسه الحق في معاقبة ، في أقرب فرصة ممكنة ، أولئك الذين ارتكبوا أعمالاً ضد الإنسانية ، والذين كانوا السبب في قتل الكثيرين .

إن الهدف من هذه الرسالة أولاً : أنه بواسطة الأمم المتحدة ، يصل صوت معارضة الشعب الإيراني إلى أسماع العالم . ثانياً : لتعلم حكومة زاهدي أنها انتهكت مبادئ الدستور الإيراني ومواد ميثاق الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان ، ولا يمكنها أن تدعي أنها تمثل إرادة الشعب . وبناءً على ذلك فإنه لا قيمة لجميع الإلتزامات والقرارات الصادرة من المجلسين ، وليست نافذة قانونياً . وأن الشعب الإيراني لا يرى نفسه ملزماً بها ولن ينفذها . وتعد هذه الرسالة بمثابة بيان يوزع على الدول الأعضاء في الأمم المتحدة والوكالات التابعة لها . ولتعلم الدول أنه ليس لها الحق في مراجعة الشعب الإيراني إذا لم يتم تنفيذ ما تقدمه الحكومة الحالية من إلتزامات . إن الشعب الإيراني ينتظر من هذه المنظمة وأعضائها الموقعين على ميثاق الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان إحترام المبادئ التي ضحى من أجلها ملايين البشر ، وأن يطلعوا على الأوضاع المؤسفة في إيران ، وأن لا يتغافلوا عن حقوق الشعب الإيراني مقابل مصالح مادية جزئية بشراء النفط الإيراني . وأن لا يسمحوا ببقاء الشعب الإيراني تحت ضغط القوى الإستعمارية ، مما يؤدي إلى عواقب وخيمة للسلام في هذه المنطقة من العالم .

وفي الختام ، أود إطلاعكم بأنه بسبب منع الحكومة الإيرانية لإرسال البرقيات والرسائل ، فإن هذه الرسالة تم إرسالها من قبل رسول خاص إلى لبنان ، ثم من هناك ترسل إلى منظمة الأمم المتحدة . وهذا دليل يوضح طبيعة الأوضاع في إيران .

السيد أبوالقاسم الكاشاني

ثورة الكابيتولاسيون عام 1963

الكابيتولاسين هو اللفظ الفرنسي لكلمة الإمتياز Capitulation، وهو المصطلح المستخدم في اللغة الفارسية ، ويقصد به إمتياز الحصانة القضائية . بدأت فكرة إعادة إمتياز الحصانة القضائية للرعايا الأميركيين المقيمين في إيرا ن ، بإقتراح قدمته السفارة الأميركية في طهران في آذار 1962 ، طلبت فيه إعفاء المستشارين العسكريين والفنيين الأميركيين وعوائلهم وخَدَمهم من الخضوع للقضاء والقانون الإيراني . كما يقضي بمعاملتهم معاملة الدبلوماسيين والعاملين في السفارات المشمولين بمعاهدة فيينا 1961 التي تمنحهم الحصانة القضائية [137][1] .

في 5 تشرين الأول 1963 أصدرت حكومة رئيس الوزراء أسدالله علم قانوناً يقضي بإضافة ملحق إلى معاهدة فيينا خلال تقديمها إلى مجلس النواب . وتضمن الملحق منح موظفي الهيئات الإستشارية الأميركية في ايران جميع الإمتيازات والحصانات المتعلقة بالموظفين الإداريين والفنيين الوارد ذكرهم في معاهدة فيينا . فالملحق يمثل تقنين منح الحصانة القضائية للأميركيين ، الأمر الذي كانت تخشى الحكومة الإعلان عنه بصراحة [138][2] .

وكان مجلس الشيوخ الإيراني قد وافق على معاهدة فيينا بتاريخ 15 حزيران 1964 دون التطرق إلى موضوع الملحق الخاص بها . ولغرض الحصول على موافقة مجلس الشيوخ وتمرير الملحق دون اعتراض ، جرى طرحه للتصويت في منتصف الليل في نهاية الجلسة ، واعتبر من المواضيع المستعجلة ، وأنه (أمر عادي ولا يحتاج إلى مناقشة) ، فصادقت الأكثرية عليه ، وأنيطت تفاصيله بالرجوع إلى معاهدة فيينا .

يوسع ملحق الإتفاقية من الفئة التي تشملها الحصانة الدبلوماسية ، والتي تقتصر عادة على الذين يحملون صفة دبلوماسية والعاملين في السفارات كالقناصل والفنيين والموظفين . أما الملحق فيعتبر جميع أعضاء الهيئات العسكرية الأميركية والموظفين غير العسكريين المستخدمين في وزارة الدفاع الأميركية وعوائلهم الساكنين في إيران من ضمن الدبلوماسيين . وكان عدد المستشارين الأميركيين لا يقل عن 000ر50 أميركي . وهذا ما لم تقدم عليه أية دولة حتى الدول المستعمَرة [139][3]. إضافة إلى أن القانون لا يتضمن مبدأ المعاملة بالمثل ، أي لا يمنح جميع الإيرانيين المقيمين في الولايات المتحدة صفة الدبلوماسيين .

وتضمن الكابيتولاسين أنواعاً من الحصانات الممنوحة لهذا الجيش الكبير من الرعايا الأميركيين مثل :

1 ـ أنهم مصانون من التوقيف والإحتجاز ، فلا يحق لأحد إعتقالهم مهما كانت الأسباب .

2 ـ تجب معاملتهم بلطف ولا تمس حرياتهم وكرامتهم . وقد خصصت الحكومة الإيرانية عدداً كبيراً من قوات الشرطة لحراسة منازلهم وممتلكاتهم كما تحرس السفارات الأجنبية .

3 ـ أنهم مصانون من إجراءات الدعاوى المدنية ، كما يتم إيقاف جميع الدعاوى والأحكام الصادرة بحقهم.

4 ـ الإعفاء من دفع الضرائب ، خاصة في عمليات التصدير والإستيراد ، فلا يدفعون رسوم الجمارك [140][4] .

ساد الإعتراض والرفض الأوساط الشعبية والدينية التي رأت فيه إذلالاً للمسلمين وإهانة لعلمائهم . فقد ألقى الإمام روح الله الخميني خطاباً ، في 26 تشرين الأول 1964 ، ندد فيه بالقانون ، كاشفاً عن الثغرات التي تضمنها فجاء فيه :

( ... لقد باعونا ، باعوا استقلالنا وراحوا يحتفلون وينشرون معالم الزينة والفرح . لقد سحقونا بأقدامهم ... لقد داسوا على كراماتنا وعزتنا ، لقد قضي على عظمة إيران ..

لقد قدموا قانوناً إلى المجلس ، ألحقونا بموجبه ، أولاً ، بمعاهدة فيينا ، ومنحوا الحصانة القضائية ، ثانياً ، لجميع المستشارين العسكريين الأميركيين ومعهم عوائلهم وموظفيهم الفنيين والإداريين وخدمهم وكل من يتعلق بهم ، فهم مصانون من العقاب مهما ارتكبوا من جرائم في إيران . فلو أراد خادم أو طباخ أميركي قتل مرجع تقليدكم أو سحقه في وسط السوق ، فلا يحق للشرطة الإيرانية منعه ، ولا يحق للمحاكم الإيرانية محاكمته عند قيامه بجريمته . فملف القضية يجب أن يُرسل إلى أميركا وهناك يتخذ أسيادهم القرار بهذا الشأن .

لقد صادقت الحكومة السابقة على هذا المشروع دون أن يعلم أحد بالأمر ، والحكومة الحالية قدمته إلى مجلس الشيوخ ، وتمت المصادقة عليه بعملية (قيام وقعود) دون أن يعلم أحد بالأمر أيضاً . وقبل أيام أرسلوا اللائحة إلى مجلس الشورى ، وجرت المناقشات بشأنها وتحدث بعض المعارضين ، إلا أنهم مرروا الموضوع بكل وقاحة ، فالحكومة دافعت عن هذا العار . لقد اعتبروا الشعب الإيراني أقذر من الكلب الأميركي . فلو دهس مواطن إيراني كلباً أميركياً بسيارته ، فسيحال إلى المحكمة ، حتى لو كان هذا الشخص هو الشاه نفسه . أما لو قام طباخ أميركي بدهس الشاه أو أكبر مسؤول في البلاد فلا يحق لأحد التعرض له ، لماذا ؟ لأنهم أرادوا قرضاً من أميركا ، فطلبت منهم منح هذه الحصانة لأتباعها مقابل ذلك .

وبعد أيام من المصادقة على القانون ، طلبت الحكومة (الإيرانية) قرضاً من أميركا مقداره 200 مليون دولار ، تحصل عليه إيران على مدى خمس سنوات ، من أجل تأمين النفقات العسكرية للبلاد ، على أن يتم تسديده لأميركا خلال عشر سنوات بزيادة ربوية على القرض قدرها 100مليون دولار . ومع ذلك فقد باعت حكومة إيران البلادَ من أجل هذا المبلغ ... باعت إستقلالها ، وجعلت إيران مستعمرة لأميركا ، وأظهرت الشعب الإيراني المسلم بأنه أكثر تخلفاً من الوحوش !

لقد أدرك هؤلاء جيداً أنه إذا كان لعلماء الدين نفوذ في البلاد ، فلن يدعوا البلد يخضع للإنجليز يوماً وللأميركان يوماً آخر ، ولن يدعوا إسرائيل تهيمن على اقتصاد إيران أو تباع البضاعة الإسرائيلية في إيران بكل حرية ، وحتى دون أن تفرض عليها ضريبة جمركية .

إذا كان للعلماء نفوذ في البلاد فلن يدعوا هؤلاء يفرضون هذا القرض الكبير على الشعب الإيراني . وإذا كان لهم نفوذ فلن يدعوا هذه الفوضى تعم بيت المال ، ولن يدعوا الحكومة تعمل ما يحلو لها حتى لو كان ضد مصالح الشعب تماماً . وإذا كان للعلماء نفوذ فلن يدعوا المجلس (البرلمان) يصبح منحطاً إلى هذا الحد ، ولن يدعوا النواب يُعيَّنون بالحراب ، لتحدث ـ فيما بعد ـ  هذه الفضائح المخزية ....

إحذروا أيها السادة! إحذر يا جيش إيران ! إحذروا أيها السياسيون ! إحذروا أيها التجار ! إحذروا يا علماء الإسلام ويا أيها المراجع ! إحذروا أيها الفضلاء ، أيها الطلاب ، أيتها الحوزات العلمية في النجف وقم ومشهد وطهران وشيراز ... هل هناك أسوأ من الذل والتبعية ؟ ماذا ينفع الشعب هذا الدَّيْن ؟ وماذا سيجر عليه من المصائب ؟ لماذا يدفع الشعب 100 مليون دولار كفائدة للقرض إلى أميركا ؟ بماذا ينفعكم المستشارون والعسكريون الأميركيون ؟ إذا كانت إيران مستعمرة أميركية ، فلماذا كل هذه العربدة والضجيج ؟ ولماذا كل هذه الإدعاءات عن التقدم والتطور ؟ إذا كان هؤلاء المستشارون خدماً لكم ، فلماذا يُرفعون أعلى من الأسياد ؟ ولماذا يُرفعون إلى درجة أعلى من الشاه ؟ فإن كانوا خدماً عاملوهم كباقي الخدم ، وإن كانوا موظفين فليُعاملوا مثلما تعامل بقية الشعوب موظفيها . وإن كانت بلادنا محتلة من قبل أميركا فأعلنوا ذلك ، وأخرجونا منها ...

أيها السادة الذين تطالبون بالسكوت وعدم التحرك ، هل علينا أن نسكت حيال هذا الأمر ؟ هل نلتزم الصمت هنا أيضاً ولا نتحرك ؟ إنهم يبيعوننا ونظل ساكتين ؟ يبيعون إستقلالنا ونظل ساكتين ؟

والله إن الساكت سيكون آثماً ، من لا يصرخ سيرتكب ذنباً كبيراً .

يا زعماء الإسلام أنقذوا الإسلام .

يا علماء النجف أنقذواالإسلام) .

يا علماء قم أنقذوا الإسلام [141][5] .

أحدث الخطاب هياجاً واسعاً وتنديداً قوياً ضد قانون الحصانة القضائية على الرغم من محاولة التعتيم عليه، إذ أن الصحف ووسائل الإعلام بيد حكومة الشاه . فقد تم توزيع منشورات تضمنت نص الخطاب ، فامتلأت المساجد والأسواق والشوارع به [142][6] . أخذ الإعلام الحكومي بالرد على الخطاب واتهام الإمام وأنصاره بأنهم (عناصر من الطابور الخامس) ، وأخذ رئيس الوزراء حسن علي منصور يهدد باستخدام الجيش (للتصدي لأعداء البلاد المحليين والأجانب) [143][7] . وبدأت بالتضييق على المعارضين الذين أصبحوا يشكلون جبهة قوية ، فكان الحل بعزل قائد التحرك أي الإمام الخميني عن الأمة . في مساء 3 تشرين الثاني 1964 حاصرت قوات المغاوير والمظليين منزل الإمام الخميني في قم ، حيث اقتحموا الدار من السطح ، ثم دخلوا البيت ، ثم اقتادوا الإمام إلى مطار طهران ، حيث وضع في طائرة متوجهة إلى تركيا .

أحدث نفي الإمام الخميني إستياءً في الشارع الإيراني والأوساط العلمائية الذين أصدروا بيانات يعلنون فيها تضامنهم معه ، وتأسفهم لإبعاده عن بلاده [144][8] . كما تعاطفت المنظمات الدولية مع قضية نفي الإمام ، فقد بعثت منظمة حقوق الإنسان رسالة إلى الأمين العام للأمم المتحدة تطالب فيها بمتابعة الموضوع ، وأن نفيه يمثل إنتهاكاً للدستور الإيراني الذي تنص المادة 14 منه على (عدم إمكانية نفي أي إيراني أو إجباره على ترك محل إقامته أو إجباره على الإقامة في مكان معين إلا في الحالات التي نص عليها القانون) [145][9].

 

حركة الجهاد في بقية الدول الإسلامية

قادت المؤسسات الدينية حركة الجهاد ضد الإستعمار الغربي في الدول الإسلامية . ففي الشرق الأوسط وآسيا وشمال أفريقيا ووسطها [146][1] شهدت البلدان الإسلامية حركات دينية مناوئة للإستعمار . وحملت المؤسسات الدينية والعلماء والمشايخ راية الجهاد في البلدان العربية كلها ، إلا سوريا والعربية السعودية . ففي سوريا كان للحركة الوطنية العلمانية تأثير كبير ، بشكل تضاءل أمامه تأثير الزعماء الدينيين ، إضافة إلى أن الشعور الديني فيها أقل من بقية الدول الإسلامية . أما السعودية فلم تشهد إحتلالاً أجنبياً مباشراً; كما أن عملاء بريطانيا (أمثال لورنس Lawrence وفيلبي  Phlibyوالجنرال كلوب باشا Glubb) لعبوا دوراً رئيساً في مجرى الأحداث ، ورتبت الأمور بالتنسيق مع بريطانيا ، ثم أميركا فيما بعد; يضاف إلى ذلك أن تركيبتها القبلية لا تسمح بالتفكير أو السير خارج الإطار الذي يرسمه زعيم القبيلة .

 

الجهاد في الهند (والباكستان)

في عام 1498 وصل البرتغاليون إلى الهند عندما رست سفينة الملاح فاسكو ديكاما Gama da Vasco قرب ميناء كلكتا ، جنوب الهند . وكان العرب يحتكرون الملاحة بين موانئ الهند وموانئ الخليج الفارسي . وقد استعان دي كاما بالهندوس في محاولة للتنكيل بالبحارة المسلمين من ناحية ، ومنافسة التجار المسلمين من ناحية أخرى . وكان بعض الأمراء الهندوس قد أرسل الى ملك البرتغال رسالة يغريه فيها بإحتلال الهند . مكث دي كاما ستة أشهر ثم عاد إلى بلاده ، فاستقبل إستقبال الفاتحين ، ولم يلبث أن كر عائداً إلى الهند في ثلاثة عشر مركباً محملة بالجنود فاحتلوا كلكوتا . وتتابعت البعثات البرتغالية حتى عام 1509 ، فوصل البوكرك  Albuquerqueواحتل ميناء (جوا) بإسم البرتغال عام 1510 ، وفي عام 1511 إحتل البرتغاليون (ملقا) في جزر الهند الشرقية (أندونيسيا) [147][1] . وفي عام 1765 حصلت شركة الهند الشرقية ، بالتعاقد ، على الحق في جمع إيرادات ضرائب البنغال ، من الإمبراطور المغولي شاه عالم الثاني . ومن هنا مد البريطانيون حكمهم عن طريق معاهدات الحماية وعن طريق الإلحاق والفتح على السواء . وفي عام 1820 كانت السيطرة البريطانية قد استقرت على الرغم من أن البلاط المغولي قد ظل باقياً حتى عام 1857 ، إلا أن أباطرته كانوا قد فقدوا قوتهم بالتدريج ، وتحولوا إلى مجرد دمى في أيدي البريطانيين [148][2].

في عام 1857 ثارت الهند على البريطانيين . بدأت الثورة بتمرد للجنود الهنود في الجيش البريطاني ، وما لبثت أن انتشرت إلى السكان المدنيين في شمال ووسط الهند طولاً وعرضاً . ويبدو أن أتباع (الطريقة المحمدية) لعبوا دوراً في ذلك على المستوى المحلي ، إذ قاد الحرب التحريرية الأمراء والفقهاء المسلمون ، كما صدرت فتاوى في عدة جهات ، واشترك فيها المسلمون والهندوس على السواء . لذلك فإن بعض الباحثين لا يعتبرها حركة جهاد ، يقول المستشرق الهولندي رودلف بيترز (ولكن هذه الثورة لا يمكن إعتبارها حركة من حركات الجهاد ، إذ أن الهندوس والمسلمين قاتلوا جنباً إلى جنب في مواقع كثيرة ، ورأوا أن هذا النضال نضال مشترك) [149][3] . ويُرَدُّ عليه بأن مشاركة الهندوس في الثورة لا يلغي إسلاميتها ولا أهدافها ودوافعها . إضافة إلى ذلك أن المسلمين قادوا معظم معاركها ، وتم إعلان الثورة بإسم إمبراطور دلهي المسلم . كما أن الإنجليز حمّلوا المسلمين مسؤولية الثورة ، وصبوا حقدهم وانتقامهم على المسلمين . وكان إنتقاماً مريعاً ، أعلنوا أنه لن يتوقف حتى يباد المسلمون عن آخرهم ، وأهدرت دماؤهم ، وأصبح من حق كل بريطاني أو مدني أن يقتل من يشاء من المسلمين الهنود ، وأعدمت النساء والأطفال ، وأبيدت أسر وعائلات بكاملها في مذابح جماعية لكي (يباد جنين الثورة في أي مكان في الهند) كما قال قائد بريطاني . ولم يسبق أن عرفت الهند أو عرف المسلمون رعباً ولا هولاً كالذي عرفوه يومئذ ، وسميت هذه بالمحنة الكبرى ولم ينسوها أبداً [150][4] .

وقد أحدث الإحتلال البريطاني للهند إنقساماً بين علماء الهند حول شرعية الجهاد ، وطبيعة الهند فيما إذا كانت دار حرب أم دار إسلام ، وغيرها من المسائل التي سنناقشها فيما بعد .

مصر : ثورات ضد الإستعمار

نابليون والإسلام

كان احتلال مصر يشكل هدفاً ستراتيجياً لدى الإمبراطوريتين البريطانية والفرنسية ، ورغم حصول الإنجليز على تسهيلات وإمتيازات في مصر ، إلا أن نابليون أربك الخطط البريطانية ، فتحالفت مع العثمانيين من أجل التخلص من النفوذ الفرنسي في مصر .

في 19 مايس 1798 م تحرك أسطول فرنسي ضخم من ميناء طولون بقيادة نابليون بونابرت ، الذي كان يومذاك في التاسعة والعشرين من عمره . في الأول من تموز وصلت أربعمائة سفينة  ـ بين بارجة وفرقاطة وناقلة ـ  فأثار منظرها رعباً في أهل الإسكندرية . إحتل نابليون المدينة دون مقاومة تذكر ، فقد ركب الغرور المماليك الحاكمين ، إذ كان النظام متهرئاً وفاسداً . أصدر نابليون بياناً موجهاً إلى الشعب المصري باللغات العربية والتركية والفرنسية . ويلاحظ أن النص العربي مكتوب بلهجة عامية واطئة جاء فيه :

بسم الله الرحمن الرحيم

لا إله إلا الله ، لا ولد له ولا شريك في ملكه .

من طرف الفرنساوية المبني على أساس الحرية والتسوية . السر عسكر الكبير أمير الجيوش الفرنساوية بونابرته ، يعرف أهالي مصر جميعهم أن من زمان مد يد الصناجق الذين يتسلطون في البلاد المصرية ، يتعاملون بالذل والإحتقار في حق الملة الفرنساوية ، ويظلمون تجارها بأنواع البلص والتعدي ، فحضر الآن ساعة عقوبتهم ، وأخرنا من مدة عصور طويلة هذه الزمرة المماليك المجلوبين من بلاد الأبازة والجراكسة يفسدون في الإقليم الحسن الأحسن الذي لا يوجد في كرة الأرض كلها .فأما رب العالمين القادر على كل شيء فإنه قد حكم على انقضاء دولتهم .

يا أيها المصريون قد قيل لكم أنني ما نزلت بهذا الطرف إلا بقصد إزالة دينكم ، فذلك كذب صريح فلا تصدقوه ، وقولوا للمفترين أنني ما قدمت إليكم إلا لأخلص حقكم من يد الظالمين ، وانني أكثر من المماليك أعبد الله سبحانه وتعالى وأحترم نبيه والقرآن العظيم . وقولوا أيضاً لهم أن جميع الناس متساوون عند الله . وأن الشيء الذي يفرقهم عن بعضهم هو العقل والفضائل والعلوم فقط، وبين المماليك والعقل والفضائل تضارب ، فماذا يميزهم عن غيرهم حتى يستوجبوا أن يتملكوا مصر وحدهم ويختصوا بكل شيء أحسن فيها من الجواري الحسان والخيل العتاق والمساكن المفرحة . فإن كانت الأرض المصرية إلتزاماً للمماليك فليرونا الحجة التي كتبها الله لهم ، ولكن رب العالمين رؤوف وعادل وحليم ، ولكن بعونه تعالى ، من الآن فصاعداً لا ييأس أحد من أهالي مصر عن الدخول في المناصب السامية ، وعن إكتساب المراتب العالية . فالعلماء والفضلاء والعقلاء بينهم سيدبرون الأمور ، وبذلك يصلح حال الأمة كلها . وسابقاً كان في الأراضي المصرية المدن العظيمة والخلجان الواسعة والمتجر المتكاثر . وما أزال ذلك كله إلا الظلم والطمع من المماليك .

أيها المشايخ والقضاة والأئمة والجرجية وأعيان البلد قولوا لأمتكم أن الفرنساوية هم أيضاً مسلمون مخلصون . وإثبات ذلك أنهم قد نزلوا في رومية الكبرى وخربوا فيها كرسي البابا الذي كان دائماً يحث النصارى على محاربة الإسلام ، ثم قصدوا جزيرة مالطة وطردوا منها الكواللرية الذين كانوا يزعمون أن الله تعالى يطلب منهم مقاتلة المسلمين . ومع ذلك الفرنساوية في كل وقت من الأوقات صاروا محبين مخلصين لحضرة السلطان العثماني وأعداء أعدائه أدام الله ملكه . ومع ذلك أن المماليك امتنعوا عن طاعة السلطان غير ممتثلين لأمره فما أطاعوا أصلاً إلا لطمع أنفسهم . طوبى لأهالي مصر الذين يتفقون معنا بلا تأخير فيصلح حالهم ومراتبهم . طوبى أيضاً للذين يقعدون في مساكنهم غير مائلين لأحد من الفريقين المتحاربين ، فإذا عرفونا بالأكثر تسارعوا إلينا بكل قلب ، لكن الويل ثم الويل للذين يعتمدون على المماليك في محاربتنا فلا يجدون بعد ذلك طريقاً إلى الخلاص ولا يبقى منهم أثر [151][1] .

واضحة طبيعة النفاق السياسي والتزلف العقيدي ، والطمع الغربي ، والتهديد الفج ، في هذا المنشور .

تقدم نابليون جنوباً لإحتلال القاهرة ، فاستعد له جيش المماليك وهم فرسان أشداء ، لكن ينقصهم التخطيط والتنظيم ، في حين كان نابليون ذا عقلية عسكرية شهيرة . إلتقى الجيشان في منطقة إمبابة في 21 تموز 1798م . وقد سميت بمعركة الأهرام لأنها كانت على بعد عشرة أميال منها . وقد خطب نابليون في جنوده قائلاً لهم : أيها الجنود إن أربعين قرناً تنظر إليكم من قمة هذه الأهرام [152][2] . وفي 23 تموز دخل القاهرة بعد مفاوضات تسليم المدينة .

إتبع نابليون سياسة براغماتية تميل إلى كثير من النفاق ، فحاول التقرب من المسلمين والتحبب إليهم . فقد أعلن أنه مسلم في قلبه وأنه سيعتنق الإسلام ، ولبس العمامة والقفطان في أحد الأيام ، وصلى مع المصلين . وذهب إلى أكثر من ذلك في نفاقه ، إذ قال لأحد مشايخ الدين أنه ينوي إقامة حكومة موحدة تقوم على مبادئ القرآن التي هي وحدها المبادئ الحقة القادرة على إسعاد الناس [153][3] . ونسي نابليون الفكر الأوربي ومبادئ الثورة الفرنسية ، وأخذ يتصرف تصرف المشايخ الصوفية فأشاع أنه شاهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في منامه وأنه قال له : إجهر بإيمانك ، بأركان ديني لأنه دين الله . إن العرب في انتظار هذه العلامة ، وسأخضع آسيا كلها لسلطانك . وأخذ يساهم في المواليد النبوية وينفق عليها .

وكان المسلمون يشكون في ادعاءاته وتصرفاته فهو (نصراني إبن نصراني) على حد تعبيرهم [154][4] . وقد حاول إقناع الناس بسلوكه ، وذكر يوماً لشيخ الأزهر أنه يرغب بإعتناق الإسلام ، ولكن الذي يمنعه من ذلك عقبتان ، الختان وتحريم الخمر ! وبينما كان نابليون سادراً في ألاعيبه وأكاذيبه ، كان هناك قائد فرنسي قد أعلن إسلامه فأصبح إسمه عبدالله مينو . فكان يتلو القرآن ويؤدي الصلاة . فأرسل اليه نابليون يهنئه على «تضحيته» في سبيل القضية «الوطنية».

الأزهر يقود الثورة

واجه الإحتلال الفرنسي عدة ثورات وإنتفاضات شعبية خلال السنوات الثلاث التي هيمن فيها على مصر . ففي 21 تشرين الأول 1798 ، أي بعد ثلاثة أشهر فقط من دخول الفرنسيين ، نشبت ثورة «بدأها شيخ أزهري خرج إلى الأسواق ينادي : أن كل مؤمن موحد بالله عليه بجامع الأزهر ، لأن اليوم ينبغي لنا أن نغازي الكفار» [155][1]. وصارت الأصوات ترتفع من فوق المآذن والسطوح العالية تدعو المسلمين للجهاد ، فتجمعت الجماهير حاملة البنادق والأسلحة . وبدأ الناس بمهاجمة الجنود الفرنسيين ، كما هوجمت دار العلوم والمستشفى العسكري . أمر نابليون بتوجيه المدافع المصوبة في القلعة صوب الجامع الأزهر وما حوله من الدور والأسواق ، وبدأت بدك المباني بالقنابل ، فأثارت الرعب فهرب الناس من المكان . وفي المساء أحاط الجنود الفرنسيون يصحبهم ثلاثمائة خيال بالجامع ، ثم دخلوا فيه ، وأخذوا يأسرون من كان فيه من الثوار ، ويعبثون به وبمحتوياته عبثاً شديداً .

وذهب شيوخ الأزهر لمقابلة نابليون يرجونه الكف عن انتهاك الجامع وقتل الناس ، فأخذ يلومهم ثم أعلن العفو عنهم . ولكن إعلانه للعفو كان ظاهرياً ، إذ أنه أصدر أوامره خفية بقتل كل من قاد الثورة أو شارك فيها . وكان من أوامره لأحد قواده : تفضل أيها المواطن القائد بأن تأمر قومندان القاهرة بقطع رؤوس جميع المسجونين الذين أمسكوا وبيدهم سلاح ، فليؤخذوا إلى شاطئ النيل ، بعد هبوط الظلام ، ولتلق جثثهم المقطوعة الرؤوس في النهر . ثم أمر نابليون بإعدام ثمانين رجلاً من الذين كانوا أعضاء في (ديوان الدفاع) وهو الديوان الذي كان بمثابة مركز القيادة للثورة [156][2] .

هكذا تصرف القائد المتنور بمبادئ الثورة الفرنسية ، إذ حمل معه المقصلة (الجيلوتين) التي أصبحت من أبرز معالم الثورة الفرنسية . وأعدم عشرات من شيوخ الأزهر وطلابه دون محاكمة أو تحقيق . إن سلوك نابليون لا يختلف عن أي دكتاتور متجبر . وبعد أن تمت عمليات الإعدام والتصفيات الجسدية ، أذاع نابليون منشوراً أشار فيه إلى عفوه ، إذ بدأه بالتهديد والوعيد ، وتحدث فيه بلغة القدرية والدراويش ، وأنه فعل ما فعل بتقدير الله وإرادته ، وأنه لا ينجو أحد من عقابه ، وأن لديه قدرة عجيبة على أن يعرف ما في داخل المرء بمجرد أن يراه ! ، وهذا نص المنشور :

أيها العلماء والأشراف ، أعلموا أمتكم ومعاشر رعيتكم بأن الذي يعاديني ويخاصمني إنما خصامه من ضلال عقله وفساد فكره ، فلا يجد ملجأً ولا مخلصاً ينجيه مني في هذا العالم ، ولا ينجو من بين يدي الله لمعارضته لمقادير الله سبحانه وتعالى . والعاقل يعرف أن ما فعلناه بتقدير الله وإرادته وقضائه ، ومن يشك في ذلك فهو أحمق وأعمى البصيرة . وأعلموا أمتكم أن الله قدر في الأزل هلاك أعداء الإسلام وتكسير الصلبان على يدي ، وقُدِّرَ في الأزل أني أجيء من المغرب إلى أرض مصر لهلاك الذين ظلموا فيها وإجراء الأمر الذي أُمِرْتُ به . ولا يشك العاقل أن هذا كله بتقدير الله وإرادته وقضائه . وأعلموا أيضاً أمتكم أن القرآن العظيم صرح في آيات كثيرة بوقوع الذي حصل ، وأشار في آيات أخرى إلى أمور تقع في المستقبل ، وكلام الله في كتابه صدق وحق . إذا تقرر هذا وثبتت هذه المقالات في آذانكم ، فلترجع أمتكم جميعاً إلى صفاء النية وإخلاص الطوية ، فإن منهم من يمتنع عن الغي وإظهار عداوتي خوفاً من سلاحي وشدة سطوتي ، ولم يعلموا أن الله مطلع على السرائر ، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور . والذي يفعل ذلك يكون معارضاً لأحكام الله ومنافقاً ، وعليه اللعنة والنقمة من الله علام الغيوب . واعلموا أيضاً أني أقدر على إظهار ما في نفس كل أحد منكم ، لأنني أعرف أحوال الشخص وما انطوى عليه بمجرد ما أراه ، وإن كنت لا أتكلم ولا أنطق بالذي عنده . ولكن يأتي وقت ويوم يظهر لكم بالمعايشة ، أن كل ما فعلته وحكمت به فهو حكم إلهي لا يُرَد ، وإن اجتهاد الإنسان غاية جهده ما يمنعه عن قضاء الله الذي قدره وأجراه على يدي . فطوبى للذين يسارعون في اتحادهم وهمتهم مع صفاء النية وإخلاص السريرة ، والسلام [157][3] .

فهذا الخطاب ليس لدرويش شرقي بل لضابط أوروبي !

إنسحاب القوات الفرنسية من مصر

واجه نابليون ثورات محلية وإمتعاضاً في صفوف جنوده جعل بقاءه في المنطقة صعباً للغاية . ففي أواخر كانون الثاني 1799 أراد نابليون أن يكمل فتوحاته وانتصاراته ، فتوجه بقسم من جيشه إلى الشام مستهدفاً إحياء الأمجاد الصليبية وفتح القدس . وتمكن من فتح العديد من المدن الفلسطينية بسهولة ، لكنه وقف عاجزاً أمام أسوار عكا ، فعاد خائباً . وأثناء وجود نابليون في الشام تعرضت الحامية الفرنسية في 24 نيسان 1799 ، في مدينة دمنهور المصرية إلى مذبحة رهيبة نفذها درويش ليبي اسمه أحمد ، إدعى أنه المهدي . غير أن حملة تأديبية فرنسية قضت على حركته [158][1] .

عاد نابليون إلى مصر ، ولم يبق من جنوده إلا ثلثهم ، أما الباقون فقد ماتوا أو أصابهم العجز . ومع ذلك فقد أصر على اقامة إستقبال المنتصر ، فدخل موكبه القاهرة ، وجرى توزيع الجرحى والمرضى على عدد من المدن في الطريق إخفاءً لأمرهم . لم يمض على نابليون سوى شهر واحد حتى بلغه وصول جيش عثماني بالسفن بالقرب من الإسكندرية . نزل الجيش العثماني ، الذي قدر عدده بعشرة آلاف جندي ، بالقرب من قرية أبي قير ، فاقتحم معسكراً فرنسياً يضم ثلاثمائة جندي وذبحهم جميعاً . توجه نابليون بجيشه إلى أبي قير حيث جرت معركة يوم 25 تموز 1799 ، خرج منها نابليون منتصراً . لم يهنأ نابليون بانتصاره ، إذ سرعان ما بلغه تدهور الأوضاع في فرنسا وقيام إتحاد دولي ضده ، فقرر العودة إليها . غادر نابليون الإسكندرية في 23 آب 1799 ، واستخلف مكانه الجنرال كليبر Cleber في مصر .

قامت في عهد كليبر ثورة القاهرة الثانية ، وكانت أشد من الأولى ، لكن الجنرال كليبر تمكن من إخمادها . ولم تخمد جذوتها ، ففي 14 حزيران 1800 قام شاب سوري يدعى سليمان الحلبي باغتيال كليبر . تم إلقاء القبض عليه وحكم عليه بعقوبة لا تتفق مع مبادئ الثورة الفرنسية . إذ تم شوي يده على النار ، ثم أُجلِس على خازوق . وأعدم معه ثلاثة شيوخ أزهريين ، لأنهم علموا بنيته ولم يخبروا قوات الإحتلال الفرنسي [159][2] .

خلف كليبر في قيادة الجيش الفرنسي عبدالله مينو الذي اعتنق الإسلام . أخذ مينو ينفذ خطته التي تبناها بحماس ، وهي جعل مصر قطعة من فرنسا ، فراح يغير ملامح البلاد ، فأمر بهدم أحياء كاملة في القاهرة لتتسع لإنشاء شوارع فسيحة ، وانتزع جباية الضرائب من أيدي الأقباط ، وفرض ضريبة واحدة على الأرض ، وألغى الرسوم الإقطاعية ، وأنشأ محاكم جنائية تحت إدارة الفرنسيين ، وأمر بتسجيل المواليد والوفيات إجبارياً ، وأصدر أول جريدة تطبع باللغة العربية . وكان مينو يتظاهر بأنه حريص على الإسلام ، ويريد تطهيره من البدع . فشلت خطة مينو رغم ادعائه بصحة إسلامه ، إذ كان المصريون ينظرون إليه كنظرتهم إلى نابليون ، إذ اعتبروه دجالاً يريد اقتلاع تقاليدهم [160][3] .

كانت خطة مينو في البقاء في مصر وجعلها مستعمرة فرنسية السبب في انقسام الجيش الفرنسي بين أقلية مؤيدة للبقاء ، وأكثرية تريد العودة إلى فرنسا . وساهم في تطور الأوضاع وترجيح كفة الأكثرية ، نزول جيش بريطاني في الأول من آذار 1801 في الاسكندرية ، كما وصل منطقة الجيزة القريبة من القاهرة جيش آخر نزل على سواحل البحر الأحمر . وزحف جيش عثماني من الشرق بقيادة الصدر الأعظم يوسف ضياء باشا . بعد مفاوضات ، تم الإتفاق على إجلاء الجيش الفرنسي ، حيت تم إجلاء آخر جندي في 18 تشرين الثاني 1801 . ولتنتهي بذلك صفحة دامية من تاريخ الإستعمار الفرنسي في مصر 

ثورة عرابي 1882

في عام 1805 أصبح محمد علي باشا حاكماً لمصر ، وبقيت عائلته تحكم مصر قرناً ونصف ، أي حتى سقوط النظام الملكي عقب ثورة 23 تموز 1952 بقيادة جمال عبد الناصر . وكانت علاقات محمد علي بفرنسا قوية ، واعتمد عليها في تحديث جيشه وإنشاء صناعة متطورة . كانت بريطانيا قلقة خشية عودة الهيمنة الفرنسية ، وبذلت جهودها لإحباط مشروع حفر قناة السويس [161][1] ، الذي أشرف عليه مهندس فرنسي ، فرديناند دي لسبس Lesseps de Ferdinand، وتم إنجازه في عام 1869 .

واجهت الحكومة المصرية صعوبات مالية فأخذت تقترض من المصارف الأجنبية ، وتراكمت الديون والفوائد حتى أدت في النهاية إلى إفلاس الدولة عام 1876 . قررت بريطانيا وفرنسا ، وهما أكبر الدائنين ، إلى إنشاء (صندوق الدَّيْن العام) بهدف الإشراف على استرجاع ديونها . وقد استغلت الدولتان ذلك ، واستطاعتا من خلاله التحكم في إيرادات الدولة المصرية وشؤونها . وقد بلغ الدين العام حجماً إبتلع الميزانية ، ففي عام 1877 إضطرت مصر إلى دفع مبلغ 7ر5 مليون جنيه لتسديد الدين ، في حين لم تزد ميزانية الدولة عن 9ر5 مليون جنيه [162][2] . وللوفاء بمطالب الدائنين خفضت النفقات الحكومية  ـ  باستثناء الرواتب الكبيرة التي يتقاضاها الموظفون الأجانب  ـ  وزادت الضرائب ، فتجاوزت كل حدود الإحتمال .

وكان مما قضت به السياسة المالية التي فرضتها الدول الأجنبية هي خطة تقليص الجيش المصري ، بشكل يحد من قوة الخديوي ، على نحو يناسب مصالح الدول الأجنبية . فلما ظهر أن ضباط الجيش المصريين سوف يكونون هم الضحية ـ وليس الضباط الجراكسة الذين كانوا ما زالوا يحتفظون بمراكز القيادة في الجيش ، وكانت لهم إمتيازات كبيرة  ـ  ثارت أغلبية الجيش . وأصبح أحمد عرابي (1841 ـ 1911) لسان حال هؤلاء الضباط الساخطين .

وعندما نجح ضباط الجيش المصريون في أول الأمر بعض النجاح ، وجد كثير من ملاك الأراضي وأعيان الريف المصري أن الفرصة متاحة لتحقيق أهدافهم بالإنضمام إلى حركة الضباط . وكان الحزب الوطني هو المعبر عن هاتين الجماعتين بدءاً من عام 1881 . وكان الحزب يطالب بعقد مجلس النواب ، وإعداد دستور يخول النواب سلطة أكبر . وكان الضباط يأملون في تأييد المجلس ، وأنه سيكون قادراً على حمايتهم من تسلط الخديوي توفيق (حكم1879 ـ 1897) وحاشيته الشركسية . وفي أيلول 1881 ثار الجيش مرة أخرى تأييداً للحزب الوطني ، وكان يطالب بإقالة رياض باشا رئيس الوزراء الذي كان يمثل مصالح الأتراك الشراكسة ، ودعوة مجلس النواب للإنعقاد ، وزيادة عدد الجيش إلى 18 ألف رجل . واضطر الخديوي توفيق لقبول هذه المطالب [163][3] .

لم يكن الحزب الوطني ثورياً أو راديكالياً ، ولم يكن يسعى للإطاحة بالنظام الإجتماعي والسياسي ، بل كان يطمح إلى إدخال إصلاحات فيه . وكان أعضاء الحزب يعترضون على توظيف عدد متزايد من الموظفين الأجانب برواتب عالية ، وعلى الإمتيازات المالية والقانونية التي يتمتع بها الأجانب في مصر . وكان المصريون يرون تدفق ثروات البلاد إلى جيوب الدائنين الأجانب ولا يستفاد منها لمصلحة البلاد . وكانوا ساخطين على نفوذ الموظفين الأجانب في الحكومة المصرية ، وما يتمتعون به من مراكز ممتازة ورواتب عالية . وكانوا يتوجسون من أن بريطانيا سوف تحتل مصر ، وكان احتلال فرنسا لتونس عام 1881 يدعم هذه المخاوف [164][4] .

بعد التغيير الوزاري أصبح أحمد عرابي وزيراً للحربية فكسر بذلك إحتكار المؤسسة التركية الشركسية للمناصب العليا . وتم وضع دستور جديد يمنح سلطات محدودة للنواب دون أن يمس إمتيازات الخديوي . وأتاح المجلس الجديد دخول أعيان الريف إليه والتعبير عن آرائهم ، وممارسة قدر من النفوذ على الحكومة المركزية . فزاد انتقاد الحكومة ، وخاصة الإدارات التي يرأسها الأجانب . وشعر هؤلاء بالخطر يهدد وظائفهم المربحة ونفوذهم الواسع ، فردوا بشن حملة على مجلس النواب ، وزعموا أنه يخضع تماماً لنفوذ عرابي وضباطه . شعر الخديوي بالخطر من فقدانه السيطرة على الأمور ، فقرر أن التدخل الأجنبي يساعده على الخروج من هذا المأزق . فجاءت الفرصة عندما فشلت محاولة لإغتيال عرابي ، نفذها عدد من الضباط الشراكسة ، وقدموا إلى المحاكمة . ولما كان تنفيذ الحكم بحاجة إلى مصادقة الخديوي عليه ، رفض ذلك ، وأبلغ القناصل الأجانب بأن الوزارة هددت بمذبحة عامة للأجانب إذا لم يصادق على حكم المحكمة العسكرية . إثر ذلك أرسلت فرنسا وبريطانيا أساطيلها إلى الإسكندرية لتخويف الضباط والحزب الوطني . أدى وجود الأساطيل الأجنبية إلى التفاف المصريين جميعاً حول عرابي ، فقد أصبحت المسألة قضية وطنية ، وتهديداً أجنبياً لسيادة البلاد . بدأت الإضطرابات ضد الخديوي والأجانب، فوضع الخديوي نفسه تحت حماية الأسطول البريطاني آملاً بذلك المحافظة على حكمه .

بعد شهر واحد ، قصف الاسطول البريطاني الإسكندرية ونزلت قواته الى البر المصري . لقد كانت بريطانيا تنتظر هذه الفرصة لإحكام سيطرتها العسكرية على مصر واقتصادها وقناة السويس . أخذ عرابي يقود العمليات ضد الغزو البريطاني ، ولكنه اضطر للتسليم بعد شهرين . وأثناء المواجهة لم تكن سوى عقيدة الجهاد قادرة على تعبئة الشعب المصري والمؤسسة الدينية لتقوية جبهة عرابي . فعندما قصف الأسطول البريطاني الإسكندرية نشرت (الوقائع المصرية) وهي الجريدة الرسمية إعلاناً يدعو للجهاد ، حيث دعا العلماء الشعب المصري إلى تأييد الجيش ضد الكفار ، فقد ألقى الشيخ حميدة الدمنهوري خطاباً جاء فيه :

(إن كل إنسان بما هو من تحمل النصب لنصرة الدين خبير . فعلى الأغنياء إعانة هذا الجيش (جيش عرابي) بما يقدرون عليه من المؤونة ، ويحفظونه من غوائل الجوع ، ويقوونه فإنه الحصن الحصين ، لردع العدو والخائن الحقير (الخديوي) . فمن جاد بنفسه لنصرة دينه قد نال الفوز والقبول . ومن سارع لحفظ شرفه وعرضه أدرك المقصود والمأمول . فالهمة الهمة يا أهل الغيرة الإسلامية . والسرعة السرعة يا أهل الحمية الإيمانية . والنجدة النجدة يا أمة الهادي البشير النذير . (قاتلوا الذين يلونكم من الكفار ، وليجدوا فيكم غلظة ، واعلموا أن الله مع المؤمنين» لا تظنوا غير النصر الذي وعدنا الله ، واصبروا فالصبر يهون كل عسير) [165][5].

وألقى الشيخ محمد أبو الوصل خطبة يحث فيها على جهاد الكفار ، جاء فيها:

(فيا عباد الله استبان أن الإنجليز جاؤونا محاربين يريدون ، لا مكنهم الله ، سلب الأموال وهتك الحريم . وقد جاؤوا بمكر وخداع يصطادون بشبكة حيلهم الأوطان من غير قتال ودفاع ، كما هو ديدنهم القبيح في كل إقليم . فتيقظ لذلك العقلاء والشجعان ، فذبّوا عن الأعراض والأوطان وسقوهم كأس الحميم . وأيد الله المسلمين بالعساكر المصرية ، وأمدهم بالعناية الربانية ، ومن عليهم المولى الكريم . واغتر لخداعهم بعض الجهال فأذاعوا سيئ الأقوال وحادوا عن الطريق المستقيم فتنبهوا من الغفلة يا بني الديار ، وارفعوا عنكم الذل والعار ، وأذيقوا الإنجليز العذاب الأليم . «وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل» .. ومن جاهد فالله ناصره ومولاه ، «وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم») [166][6] .

ويؤكد الشيخ علي مليحي على ضرورة تأييد عرابي ووصفه برئيس المجاهدين بقوله :

( ..إذ قد شرع رئيس المجاهدين المؤيد بنصر ربه في مدافعة من كانوا في تشويش الأمة أول سبب ، وباع نفسه هو وجيشه للجهاد في سبيل الله . ولم يبال بمشقة ولا تعب ، كل ذلك لحفظ الوطن وإعلاء كلمة الدين) [167][7].

وكتب المفتي الشافعي مصطفى عز رسالة بعنوان (طريق الرشاد في الحث على الجهاد) ، كتبها أثناء المقاومة الإسلامية لإحتلال البريطانيين للسويس . ويشير فيها إلى أن أحد أسباب نفوذ البريطانيين هو الإنفتاح النفسي والإجتماعي تجاه الكفار ، حتى تغلغلوا في المجتمع وأذلوه ، فجاء فيها :

(فإنه لا يخفى منذ سنين صولة الكفرة على المسلمين ، لا سيما في مصر القاهرة ، وذلك بسبب اتحاد الإسلاميين وتداخلهم معهم ، وتحببهم إليهم حتى تخلقوا بأخلاقهم في الأقوال والأفعال ، حتى اشرب في قلوبهم حبها ، وذلك مصداق قوله صلى الله عليه وسلم : لتتبعن سنن من قبلكم شبراً شبراً ، وذراعاً ذراعاً ، حتى لو سلك أحدهم جحر ضب لسلكتموه ..الخ . واستمر الأمر على ذلك ، وكثرت فيهم المعاصي وفشت ، وتجاهروا بها ، وعم الربا واستعمله الخاص والعام ، ولم يسلم منه إلا القليل من الناس .

فاشتد غضب الله عليهم ، فسلط عليهم أعداءهم ، فاستذلوهم واستعملوهم في كل ما فيه إذلال لهم وتحقير ، حتى أن الكافر يركب دابته أو عربته ، والمسلم يجري أمامه بغاية السرعة ، ويمد اللعين رجله للمسلم بالجزمة السوداء فيمسحها له وهو ذليل في غاية التحقير . فصاروا عندهم أذل من اليهود الذين قال الله في شأنهم «ضربت عليهم الذلة والمسكنة» .

ثم انهم بتداخلهم مع حكامنا ، وتزيينهم لهم أحوالهم ، أشاروا عليهم أن يضعوا قوانين مخالفة لشريعتنا وأحكامنا ، ليضعوها في الدواوين ، ويجري عليها عمل الناس ، فقبلوها منهم ، وأمروا رؤساء الدواوين بالعمل ، ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون . وصار الدين غريباً كما أخبر بذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم : بدأ الإسلام غريباً وسيعود كما بدأ . ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم . ثم في عام 1299هـ (1881 ـ 1882) منّ الله بفضله وجوده علينا ، وأتحفنا بنعمة عظيمة لإعزاز دين الإسلام بأن قيض لنا شخصاً (عرابي) قوي الإيمان عظيم البأس والشأن ، فقام بجد وتشمير لإعزاز كلمة الحق والدين) [168][8].

ولم ينس خصوم عرابي ان يرفعوا راية الدين ، والشرعية الواجبة الطاعة التي يتمتع بها الخديوي بإعتباره ولي الأمر ونائب أمير المؤمنين . كما أن الإعتداء على الأجانب يخالف أحكام الشريعة . وأن مواجهة الأسطول والجيش البريطاني المتطور يعني إلقاء النفس إلى التهلكة . وأن عرابي لا صلة له بالدين والجهاد ، بل هو خائن للحاكم الشرعي . وأن الخديوي لا يرتكب إثماً بإستعانته بالكفار . ذكر أحد المشايخ  :

(ربنا لا تهلكنا بما فعل السفهاء منا . عباد الله لستم تجهلون أنني طالما ناديت في البرهان بأن لا سبيل لنجاح الأمة الإسلامية سوى إقامة الدين المبني على مكارم الأخلاق ، والذي من مقتضاه حسن المعاملة والرفق بالذميين والمستأمنين والمعاهدين والصلحيين . وهم الأقسام التي قدمنا أن جميع الأجانب في البلاد الإسلامية لم تخرج عنها .

ومن مقتضاه أيضاً إعداد ما يستطاع من القوة ورباط الخيل . وأنه لا ريب في أنه يدخل في القوة المدافع ونحوها من أنواع العدد الحربية الجديدة المناسبة لكل زمان ومكان وكذا جميع ما يتصور العقل انه فيه نكاية الخصم .

غير أنه لسوء الحظ كأن تلك الآية الكريمة الآمرة بإعداد ما ذكر إنما نزلت على خصوص الأجانب فعملوا بها دوننا ورفضناها نحن كغيرها من شعائر ديننا وحدود ربنا تبارك وتعالى ، حتى بلغ من تضلع البغاة الجهال من الفنون الحربية وخبرتهم بطرق النكاية للعدو أن يقابلوا الآلات الإنجليزية الحربية الحديثة العهد المصنوعة منذ شهور وأسابيع ، بآلات عتيقة مضى عليها من الأجيال ما أكلها به الصدأ . فأواه ثم أواه ، ولكن هو الجهل حتى ينبح الكلب مولاه . ويرمي بالحصبا الشهاب إذا انقضى .

فلو فرضنا المستحيل من كون هذه الحرب دينية الحالة هذه ، وأنها بأمر الخليفة الأعظم أو نائبه الخديوي الأكرم ، لوجب شرعاً مخالفة أمرهما بها ، لأنها حينئذ عبارة عن المخاطرة بالبلاد والعباد .وقد نهانا الله تعالى عن أن نلقي بأيدينا إلى التهلكة . فكيف وهذه الحرب كما قدمنا شيطانية ناشئة عن حب الذات والمصلحة الشخصية كما سيأتي بيانه ، وعن الجنون الذي تظاهر به الآن عرابي تخلصاً من سوء العاقبة، وإن كانت افعالها كلها جنوناً محضاً من البداية للنهاية .

ولا أزال أقول لكم أن الإنجليز لا قصد لهم سوى إعادة الراحة ، وإخضاع الجند للحاكم الشرعي نائب أمير المؤمنين ، وأن الجناب الخديوي هو على الجانب العظيم من التقوى والدين . ولستم تجهلون أن ديننا المحمدي قد يكون تأييده على يد غير ذويه ، ولا تجهلون أيضاً أن الجناب الخديوي ليس أول من نصر بغير ذوي دينه ، بل لذلك سوابق كثيرة وقعت لبعض خيار الأمة الإسلامية) [169][9].

من الواضح أن العلماء المصريين لم يلعبوا دوراً رئيساً في الثورة ، بل اقتصر دورهم على تعبئة الشعب وتحشيد إمكاناته لمساعدة الضباط وقائدهم عرابي . ولم يكن موقف الضباط ناشئاً من شعور ديني أو وطني بل لأن مصالحهم وامتيازاتهم قد ضربت ، فأرادوا الدفاع عنها . ولما كان عدوهم الخديوي والإنجليز ، فقد استغلوا مشاعر السخط والإستياء ضد الأجانب والاسرة الخديوية والطبقة الشركسية الحاكمة . فقام عرابي بإضفاء مسحة الدين على حركته ضد الإنجليز ، وتناغم ذلك مع موقف العلماء الغاضبين ، فجرى استدعاء عقيدة الجهاد إلى المعركة . وهذا ما فعله خصوم عرابي أيضاً ، إذ عرفوا أن سلاح الدين والعقيدة قادر على قلب ميزان القوى وكسب المعركة لصالحهم ، فاتهموا عرابي بالخيانة وأنه باغي وخارج على إرادة الخليفة العثماني أمير المؤمنين ونائبه الخديوي .

فيما يتعلق بالقانون الدولي الإسلامي الخاص ، نجد أن فقهاء الخديوي شددوا على حماية الأجانب وغير المسلمين المقيمين في مصر . إن وجود غير المسلمين في دولة إسلامية يتخذ واحدة من الوضعيات التالية ، فهم على أربع فئات :

1 ـ الذميين من اهل البلاد ويشمل أهل الكتاب من مسيحيين ويهود ومجوس وصابئة.

2 ـ المستأمنين ، أي الأجانب من رعايا دار الحرب والذين دخلوا بعهد أمان .

3 ـ المعاهدين ، من أهل العهد ، أي الذين لديهم عهد مع الدولة الإسلامية يسمح لهم بالإقامة . وتعتبر المواطنة أو الجنسية عهداً يتمتع فيه غير المسلم بالحقوق السياسية والمدنية ، وعليه واجبات يؤديها ومنها أداء الخدمة العسكرية ، فتسقط بذلك عنه الجزية . ويعتبر غير المسلمين حالياً في إيران من المعاهدين .

4 ـ الصلحيين ، من أهل الصلح ، أي رعايا الدولة التي لها عهد صلح مع الدولة المسلمة يسمح لهم بدخولها والإقامة فيها ، واحترام قوانينها .

فهذه الفئات من غير المسلمين هي التي يسمح لها بالإقامة في الدولة الإسلامية . وقد شدد الفقهاء على احترامهم وحماية أنفسهم وأرواحهم وممتلكاتهم . ولم يظهر واضحاً في الصراع بين عرابي وخصومه فيما إذا كانت هناك معاهدات شرعية منحت أولئك الأجانب حق الإقامة أم أن موافقة الخديوي أو حكومته كانت كافية . ولو كان دخولهم عبر عهد أمان أو معاهدة صلح أو غيرها ، فلماذا رفض الأزهريون وجودهم وإقامتهم ؟ لعل وجود الأجانب كان شرعياً ، لكن ازدياد نفوذهم وتدخلهم بشؤون البلاد ، وهيمنتهم على ثروات البلاد ومواردها جعل الفقهاء ينبذون العهد الممنوح لهم ، لأن بقاءهم أصبح يضر بمصلحة الإسلام والمسلمين . فقد ذكر أحد الفقهاء أنهم سببوا الذل والإهانة للمواطنين المسلمين . ولما كانت بريطانيا تدعم وتؤيد وجود ونفوذ أتباعها ورعاياها ، وشاركت عسكرياً بالصراع ، وضربت المدن المصرية بالمدافع ، فقد أصبحت على رأس المدفع في المعركة ، فصدرت الفتوى ضد الإحتلال البريطاني وغزو أرض إسلامية هي مصر 

مسائل شرعية في ظل الإستعمار

خلق الإحتلال الغربي للبلدان الإسلامية العديد من المسائل والقضايا الفقهية والشرعية ، فيما يتعلق بالقانون الدولي الإسلامي . وقد إختلف الفقهاء المسلمون في آرائهم ومواقفهم وفتاواهم تجاه هذه المسائل. ولا زالت بعض هذه القضايا مطروحة بين الأوساط الإسلامية والعلمائية حتى في وقتنا الحاضر . وسأتناول بعض هذه الأمور ذات العلاقة بهذه الدراسة ، وما يخص القانون الدولي الإسلامي .

1 ـ وضعية الأجانب غير المسلمين في البلاد الإسلامية

خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر ، إزداد عدد الغربيين المقيمين في البلدان الإسلامية . وكان هناك أسباب كثيرة لإقامتهم وتواجدهم ، ففيهم الدبلوماسيون والسفراء والقناصل ، والمبعوثون السياسيون كالوفود وغيرهم ، والمدربون والضباط والمستشارون العسكريون . وكان فيهم التجار وأصحاب الشركات والمؤسسات والمصارف الأجنبية والعاملون فيها ، المسافرون والحجاج والسياح ، وعلماء الآثار والجيولوجيون ، والمكتشفون والمستشرقون وعلماء الإجتماع ، والمبشرون والقساوسة وآخرون .

وقد شجع نظام الإمتيازات ، الذي منح الأجانب بموجبه تسهيلات في الإقامة والإعفاء من الضرائب والجمارك والحصانة القضائية ، على تدفق الغربيين للحصول على ثروات هائلة وهيمنتهم على مجمل النشاطات الإقتصادية والتجارية والصناعية بل والسياسية أيضاً [170][1] . فقد أخذ السفراء والقناصل والتجار يتدخلون بشكل سافر بشؤون الدولة والحكومة وسياسة البلاد ، ومارسوا ضغوطاً شتى من أجل تنفيذ رغباتهم وسياسات دولهم ومصالح رعاياهم . وكان الشعور بالإستياء والسخط يعم الأوساط الإسلامية والشعبية تجاه تزايد نفوذ الأجانب . فقد حدثت عدة ثورات وإنتفاضات كان الأجانب ونفوذهم وإمتيازاتهم السبب فيها ، مثل ثورة عرابي 1882 في مصر ، وثورة التنباك عام 1891 في إيران .

وفي عهد الإحتلال والإستعمار الغربي للأراضي الإسلامية ، إرتفعت أعداد الغربيين بشكل كبير ، إذ أضيف إليهم الجنود والضباط والعاملون في المؤسسات العسكرية ، وإدارات وموظفون وعمال وغيرهم . يضاف إليهم عوائلهم والمؤسسات الخاصة بهم كالمدارس والنوادي والمستشفيات ..الخ . ولم يقتصر الأمر على المرتبطين بصورة مباشرة بإدارة الإحتلال من عسكريين ومدنيين ، بل شهدت بعض البلدان الإسلامية مخططات للإستيطان كالهند والجزائر وتونس والمغرب وسوريا ومصر . فقد هاجرت مجموعات كبيرة من الغربيين للعيش والإقامة في البلدان الإسلامية ، والعمل في شتى الأعمال كالزراعة والصناعة والتجارة والمصارف والبنوك ، وشركات الخدمات كالسكك الحديدية والتلغراف والبريد والنقل والموانئ .

لقد لعب الأجانب دوراً هاماً في التاريخ الحديث للعالم الإسلامي ، فالسفارات الأجنبية كان لها تأثير فعال ونفوذ قوي على السلطة ومؤسساتها كالوزارات والمجالس البرلمانية والقصور السلطانية . فالكثير من الأحداث والتحولات السياسية كان للقوى الأجنبية دور فيها .

إن إقامة غير المسلمين الأجانب في البلدان الإسلامية يستند إلى مفهوم الأمان ، ولكن إختلف الفقهاء في تطبيق هذه القاعدة على الموضوع . فبعضهم يرى ضرورة إحترام وجودهم وأموالهم وحقوقهم ، والبعض الآخر يرى أن التوسع في هذا المفهوم هو الذي جلب الويلات على العالم الإسلامي وفتح باب النفوذ الأجنبي على مصراعيه أمامهم .

في عام 1912 سئل الشيخ محمد رشيد رضا (1865 ـ 1935) عن (الشركات الأجنبية وأرباب الإمتيازات المعطاة لهم من الخليفة الأعظم ، هل هم معاهدون مستأمنون مصونو الحقوق ؟ أم يجوز هضم حقوقهم بدعوى أنهم دخلوا بلادنا وأخذوا الإمتيازات من حكومتنا قهراً ؟) ، فأجاب فضيلته :

(إن احترام الأجانب المعاهدين أو المستأمنين واحترام أموالهم وحرمة التعدي عليهم أو عليها من المسائل المجمع عليها بين المسلمين ، المعلومة من الدين بالضرورة ، فليست مما يُسأل عنه أو يُستفتى فيه لولا تأويل المضلين . وقد كتب إلينا هذا السائل الفاضل كتاباً خاصاً يعتذر فيه عن سؤاله هذا ويبين سببه ، وهو أن شيخاً من شيوخ الدجل ، معروفاً بمخادعة العامة ، واستمالتهم إليه بذم النصارى والتنفير منهم وتلفيق كتب الأوراد والصلوات والكرامات ، قد أفتى من يظنون أنه من أهل العلم والتقوى ، بأن أموال الأجانب الذين في بلادنا مباحة للمسلمين ، فيجوز لمن قدر على أكل مال شركة الترام أو سكة الحديد أو غيرهما من الشركات الأجنبية أو الأفراد أن يأكل ما استطاع أكله ، سواء كان مستخدماً فيها أو غير مستخدم . ويتأول الحكم الشرعي المجمع عليه بأن هؤلاء الأجانب معاهدون أو مستأمنون في الظاهر ، ولكنهم حربيون في الواقع لأنهم أخذوا الإمتيازات بهذه الشركات من حكومتنا بالجبر والإكراه ، لا بالرضا والإختيار . وهذا باطل التأويل ، ومحض الكذب وقول الزور . فالإمتيازات اخذت باختيار الدولة والسلطان الذي كان يقدسه مفتي الإباحة ويضلّل مطالبيه بالإصلاح أو يكفرهم ، والمعاهدات بين دولتنا ودول أصحاب هذه الشركات لا شك فيها ، وإلا كانوا محاربين ، ولا حرب بيننا وبين أحد منهم (إلا الإيطاليين الآن) ، والمصلحة في هذه المعاهدات لنا ظاهرة . وإذا نقض بعضهم شيئاً من شروط العهد فليس لأحد من أفراد الرعية أن يعده محارباً ويستحل ماله ودمه . وإنما ذلك حق السلطان وأولي الأمر ، ولولا ذلك لم يستقم نظام ، ولم تثبت مصلحة ، ولو كان شرعنا العادل يبيح مثل هذا لما وثقت دولة من دول الأرض بعهودنا وأماننا ، ولكانت معذورة في الإتحاد على استئصالنا) [171][2].

وينتقد عبد القادر عودة نظرية أبي حنيفة في سريان الشريعة الإسلامية على المكان [172][3] وعدم معاقبة الأجانب لأنهم مستأمنون فيقول :

(كان لرأيه في عدم سريان الشريعة على المستأمن أثر سيئ على البلاد الإسلامية ، لأن رأيه اتخذ أساساً وسنداً في منح الإمتيازات الأجنبية للمستأمنين ، أي من نسميهم اليوم بالأجانب . وكلنا يعلم مدى ما قاسته البلاد الإسلامية ، وما تزال تقاسيه من آثار هذه الإمتيازات التي منحت للأجانب وقت ضعفهم وقوة المسلمين ، لتشجعهم على دخول دار الإسلام ، وتؤمنهم على أنفسهم وأموالهم ، فأصبحت بعد ضعف المسلمين سبباً لإستغلال المسلمين ، وتضييع حقوقهم ، واستعلاء الأجانب عليهم) [173][4].

وفي عام 1996 أصدرت هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية فتوى إثر الإنفجار الذي حدث في مدينة الخبر وذهب ضحيته عشرات من العسكريين الأميركيين في نهاية حزيران 1996 جاء فيها :

إن النفس المعصومة في حكم شريعة الإسلام ، هي كل مسلم ، وكل من بينه وبين المسلمين أمان كما قال تعالى (ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها ، وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيـماً).

وقال سبحانه في حق الذمي الذي له ذمة في حكم قتل الخطأ (وإن يكن من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة). فإذا كان الذمي الذي له أمان ، إذا قُتل خطأً فيه الدية والكفارة ، فكيف إذا قتل عمداً ، فإن الجريمة تكون أعظم والإثم يكون أكبر . وقد صح عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال : من قتل معاهداً لم ير رائحة الجنة .

فلا يجوز التعرض لمستأمن بأذى فضلاً عن قتله في مثل هذه الجريمة النكراء.وهذا وعيد شديد لمن قتل معاهداً ، وأنه كبيرة من الكبائر المتوعد عليها بعدم دخول القاتل الجنة ، نعوذ بالله من الخذلان [174][5] .

 


 

ـ الولاء للحاكم غير المسلم

بعد احتلال القوات الأجنبية للبلدان الإسلامية ، أسست الدول الإستعمارية حكومات لإدارة البلاد ، وغالباً ما كان يرأس تلك الإدارات ، على الأقل في البداية ، عسكريون أو مدنيون غربيون ، لحكم البلاد المفتوحة . وكان أولئك الحكام يتولون جميع شؤون البلاد ، الداخلية والخارجية . وقد اختلفت مواقف الفقهاء والعلماء ،الخاضعين للإحتلال الأجنبي ، تجاه الحاكم غير المسلم ، وشرعية الولاء له وطاعته .

في العراق ، وخلال الحكم البريطاني المباشر (1914 ـ 1921) أبدى نقيب الأشراف ، الفقيه السني ، عبد الرحمن النقيب الكيلاني (1845 ـ 1927) ولاءه التام وطاعته الكاملة للحاكم البريطاني ، وسكرتيرته المسز بيل .  Gertrude Bellفقد اعترف صراحة في أحد الأيام قائلاً للمسز بيل : «أنا لم أعمل شيئاً يخالف نصيحة أو رغبة السير برسي كوكس Percy Cox، الحاكم السياسي العام في العراق ، منذ مجيئه إلى العراق» [175][1]. وخاطبها مرة قائلاً : «خاتون ، إن أمتكم عظيمة وغنية وجبارة ، أما نحن فأين قوتنا ؟ إني أعترف بإنتصاركم ، أنتم الحاكمون وأنا المحكوم . وإذا سألت عن رأيي في استمرار الحكم البريطاني ، فإن جوابي هو أني خاضع للمنتصر» [176][2].

وبعد اضطرار الحكومة البريطانية إلى إجراء إستفتاء حول طبيعة الحكم الذي يرغب به العراقيون ، كان رأي عبد الرحمن الكيلاني متفقاً مع الضباط الإنجليز تماماً . فقد عارض الإستفتاء واصفاً إياه بأنه حماقة ومنع أفراد عائلته من المشاركة فيه . ورفض كلياً قيام حكومة عربية برئاسة شخص مسلم ، وفضل الحاكم الإنجليزي المسيحي عليه ، فقد قال :

(إن برسي كوكس لو كان موجوداً في العراق ، لما كانت هناك حاجة إلى استفتاء الناس عن رأيهم في مستقبل البلاد). ويخاطب مسز بيل مطالباً بعودة كوكس إلى العراق قائلاً : خاتون ، هناك ألف ومائة رجل في إنجلترا بوسعهم أن يشغلوا منصب السفارة البريطانية في إيران ، لكنه ليس يليق للعراق سوى السير برسي كوكس . فهو معروف ومحبوب وموضع ثقة أهالي العراق ، كما أنه رجل حنكته السنون . أضف إلى ذلك أنه رجل ذو اعتبار كبير في لندن ، وسيكون محامينا المتكلم بإسمنا . فإذا أرادت الحكومة هناك أن تعرف أفكارنا ، سيكون بوسعه تزويدها بالمعلومات الضرورية وستكون كلمته مقبولة) [177][3].

فالشيخ الكيلاني متمسك بالحاكم غير المسلم ، راغباً بحكمه ، مبيناً فضائله ، وكأن بلداً إسلامياً مثل العراق يعجز أن يجد من بين أبنائه المسلمين شخصاً يصلح لتولي الحكم فيه . كما أنه ـ أي الكيلاني ـ نفسه قد رأس أول وزارة عراقية ، فكيف إعتقد بعدم وجود شخص مسلم مناسب لهذا المنصب . أما أن كوكس محبوب وموضع ثقة أهالي العراق ، فهذا ما يعبر به الكيلاني عن نفسه ، وعن مشاعره ، وموقفه الشخصي .

لقد أصر على بقاء الحكم الأجنبي المباشر للعراق ، في وقت كان الشعب العراقي وعلماؤه وسياسيوه يرفضون تعيين غير المسلم . فقد أصدر المرجع الديني الشيخ محمد تقي الشيرازي فتوى يرفض فيها الحاكم غير المسلم ، إذ جاء فيها :

(ليس لأحد من المسلمين أن ينتخب ويختار غير المسلم للإمارة والسلطنة على المسلمين) [178][4].

وقد قدم الكيلاني خدمات كبيرة للبريطانيين في العراق فهو الذي (فتح الطريق أمام الخنوع) [179][5] (وكان السيد الأول الذي أعار نفسه لتكتيك التوازن الذي أراده الإنجليز ، والذي وظف نفوذه بقوة إلى جانبهم منذ فتحهم للبلاد) [180][6] ، وقدمت وزارته خدمة في المصادقة على المعاهدة الأنجلو ـ  عراقية التي ترسخ النفوذ البريطاني في العراق بشكل قانوني .

إنه من الغريب أن يجرؤ أحد المشايخ المسلمين في التعبير عن ولائه وطاعته للحاكم الأجنبي مثلما فعل الكيلاني . وقد حاول تبرير هذا الموقف الشاذ من عالم دين قضى ثمانين عاماً كواحد من أكبر مشايخ بغداد. ولم يكن تبريره مستنداً على قاعدة فقهية أو أصولية أو آية قرآنية أو حديث شريف من السنة ، بل أن تبريره سياسي بحت لا علاقة له بالشريعة الإسلامية التي يفترض أنه تابع ومطيع لها . فقد طلب بعضهم منه أن يعدل عن رأيه ويتخذ موقفاً منسجماً مع رأي العراقيين ، لكنه قال :

(الكثيرون من الناس جاؤوا إلي طالبين مشورتي ، وملحين علي بقبول وجهة نظرهم . فأجبتهم ، أن الإنجليز فتحوا هذه البلاد وبذلوا ثروتهم من أجلها كما أراقوا دماءهم في تربتها ، حيث أن دماء الإنجليز والاستراليين والكنديين ومسلمي الهند وعبدة الأصنام قد خضبت تراب العراق . ولذلك فلا بد لهم من التمتع بما فازوا به . إن الفاتحين الآخرين فتحوا البلاد وتنعموا بها . وكما وقعت البلاد (العراق) بيدهم ، كذلك وقعت بأيدي الإنجليز ، وسوف يوطدون حكمهم فيها) [181][7].

ويقصد الكيلاني بالفاتحين الآخرين الدولة العثمانية ، فهو لا يجد فرقاً بين العثمانيين المسلمين وبين الإنجليز المسيحيين . فالكل برأيه فاتح للبلاد ومن حقه التمتع بما فاز به ، هكذا .

ولم يقتصر هذا الوضع على العراق فقط ، بل أن هناك دولاً إسلامية أخرى أعلن فيها علماؤها ولاءهم للحاكم غير المسلم . ففي بداية الحرب العالمية الأولى ، وفي 7 تشرين الثاني 1914 أصدر خيري أفندي شيخ الإسلام فتوى ذكر فيها أن الجهاد فرض عين على جميع المسلمين سواء منهم الذين يعيشون في البلاد العثمانية أو البلاد التي تحكمها بريطانيا وفرنسا وروسيا وصربيا . وأن عليهم جميعاً أن يتحدوا لمقاومة هذه الدول عدوة الإسلام ، وأن يحاربوها ، ويمتنعوا عن مساعدتها في هجومها على الدولة العثمانية أو على الدول المتحالفة معها وهي ألمانيا والنمسا والمجر [182][8] . وكانت الدولة العثمانية تتوقع إستجابة قوية بين المسلمين ، وأن ينهضوا ضد أعدائها ، ولكن كان الفشل حليف الفتوى رغم الجهود التي بذلت في ذلك ، وترجمتها إلى مختلف اللغات [183][9] . ففي الحجاز كان الشريف الحسين بن علي (1853 ـ  1931) على خلاف مع إسطنبول ، وبدأ أولاده بالإتصال بالإنجليز قبل بدء الحرب . وقد أرسل الأتراك إليه يطلبون منه تأييد الدعوة ، فأجابهم قائلاً : إنه يؤيد الدعوة من صميم قلبه ، وهو يضرع إلى الله أن يكللها بالنجاح ، ولكنه يخشى أن يشارك في الجهاد فينتقم الإنجليز منه ، بقصف موانئه وقطع المواد الغذائية عن الحجاز فتنشأ مجاعة فيه فتثور القبائل [184][10].

وردت الدول الإستعمارية على الفتوى العثمانية والدعاية الألمانية بأن دفعت العلماء إلى تأييد موقف هذه الدول تأييداً علنياً . ففي الجزائر أصدر شيوخ الطرق والمفتون بيانات تدين حماقة الأتراك في إعلان الجهاد ، وتحث المسلمين الجزائريين على البقاء موالين للسلطات الشرعية التي تحكمهم . وصدرت في مصر والهند فتاوى مؤداها أن طاعة الإنجليز فريضة شرعية [185][11] .

وأجمع علماء شمال الهند بأنه ، إستناداً على الإفتراض الضمني بأن الهند تحت حكم البريطانيين هي دار حرب ، فالجهاد ضد البريطانيين غير شرعي ، فقد ورد في إحدى الفتاوى أنه :

(يتمتع المسلمون بحماية المسيحيين ، فلا جهاد في بلد تتوفر فيه الحماية ، إذ أن فقدان الحماية والحرية بين المسلمين والكفار أمر ضروري للحرب التي يقرها الدين ، ولا يتحقق هذا الشرط هنا . ثم انه من الضروري أن يقوم إحتمال بتحقق النصر للمسلمين ، وتحقق المجد للهنود . فإذا لم يقم مثل هذا الإحتمال كان الجهاد غير شرعي) [186][12].

ولم يكن جميع علماء الإسلام موالين للسلطات الأجنبية والحكام غير المسلمين ، فقد شهدت ثورات وحركات جهاد متواصل . ففي ليبيا أصدر السيد أحمد الشريف (1973 ـ 1933) وهو حفيد مؤسس الطريقة السنوسية ، بياناً بالجهاد نشر في صحيفة مصرية في كانون الثاني 1912 ، وهو موجه إلى (كل المسلمين وبخاصة في البلاد التي احتلها أعداء الدين) . وقد جاء فيه :

إن ترك الجهاد خروج عن الدين ، إذ لا يرجع إلى الشيء إلا من خرج عنه، هذا في الجهاد الكفائي ، فكيف بالجهاد الذي تعين بمفاجأة العدو . وإذا كان القاعد عنه خارجاً عن الدين ، فكيف بمن يبايع الكفار بحطام على قتال المسلمين وكتابة نفسه في جندهم [187][13] . وفي عام 1914 نشر السيد أحمد الشريف مؤلفاً عن الجهاد ، أنحى باللائمة فيه على المتعاونين مع قوات الإحتلال الإيطالي واعتبرهم مرتدين عن الدين . فقال عنهم بأنهم (خضعوا للعدو وباعوا دينهم من أجل عرض الدنيا الزائل . وأصبحوا يداً للعدو يعينونه عليكم ، ويظهرون له الطريق التي تمكنه من الإستيلاء على أرض إخوتهم في الدين ... وما من ريب في كفر أولئك الذين يكونون عوناً للكفار على المؤمنين والذين يقاتلون المؤمنين ، ولا في ردتهم عن الدين . فأي كفر أسوأ من هذا الكفر وأضل سبيلاً ؟ وإذا لم يكن هؤلاء مرتدين فمن يكون المرتدون) [188][14].

وفي الجزائر رفع الأمير عبد القادر الجزائري (1808 ـ 1883) راية الجهاد ضد الإحتلال الفرنسي ، رافضاً الإعتراف بوجودهم وشرعية حكمهم للبلاد . وراسل الفقهاء في مصر والمغرب طالباً منهم تحديد وضع المتعاونين مع قوات الإحتلال ، إذ يقول في سؤال وجهه إلى قاضي قضاة فاس الشيخ عبدالهادي العلوي الحسني جاء فيه : (فما حكم الله في الذين دخلوا في طاعة العدو الكافر بإختيارهم ، وتولوه ونصروه . يقاتلون المسلمين معه ، ويأخذون مرتبه ، كأفراد جنوده ؟ ومن ظهرت شجاعته في قتالهم المسلمين ، يجعلون له علامة في صدره ، يسمونها (لنور) عليها صورة ملكهم . هل هم مرتدون ؟ أم لا ؟ وإن قلت بردتهم فهل يُستتابون أم لا ؟) [189][15].

وفي السودان ، كان المهدي السوداني ، محمد أحمد (1844 ـ 1885) يعتبر منكر مهديته كافراً ، إذ يقول في رسالة رداً على رسالة القائد المصري يوسف حسن الشلالي يطلب منه فيها أن يستسلم ، ويتهمه بأنه قتل إخوانه المسلمين على غير ما يقضي به الشرع ، جاء فيها :

(وقولكم أنا قتلنا جملة من المسلمين المتوطنين بهذا المكان ظلماً وعدواناً باطل أيضاً ، لأنا ما قتلنا إلا أهل الردة بعد أن كذبونا وحاربونا . وقد أخبَرَنا النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)وأخبر جميع أهل الكشف بأن من شك في مهديتنا ، وأنكر وخالف فهو كافر ، ودمه هدر ، وماله غنيمة ... على أن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أمرنا صريحاً بقتال الترك وأخبرنا بأنهم كفار لمخالفتهم لأمر الرسول بإتباعنا ، وإرادتهم لإطفاء نور الله الذي أراد به إظهار عدله ..) [190][16].

وكان المهدي السوداني يقول بأنه يشاهد النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)ويتلقى منه تعليماته ، ففي رسائله التي بعثها إلى زعماء القبائل يقول (هذا وقد أخبرني سيد الوجود صلى الله عليه وسلم بأن من شك في مهديتك فقد كفر بالله ورسوله . كررها صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات ، وجميع ما أخبرتكم به من خلافتي على المهدية الخ... فقد أخبرني به سيد الوجود(صلى الله عليه وآله وسلم) يقظة في حال الصحة ، وأنا خال من الموانع الشرعية ، لا بنوم ولا جذام ولا سكر ولا جنون ، بل متصف بصفات العقل أقفو أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأمر فيما أمر به والنهي عما نهى عنه) [191][17]. وكان المهدي السوداني ينتقد أولئك الذين يوالون الكفار ويعينوهم ، فقد كتب إلى خديوي مصر يقول له : وما كان يحسن منك أن تتخذ الكافرين أولياء من دون الله ، وتستعين بهم على سفك دماء امة محمد صلى الله عليه وسلم ... وإياك والركون إلى أقوال علماء السوء الذين أسكرهم حب الجاه والمال حتى اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فيهلكوك كما أهلكوا من قبلك) [192][18] .

يجب أن لا ننسى أنه في كل بلد إسلامي وفي كل عصر ، هناك من العلماء من يبدي استعداده للتعاون مع الحكومات الإستعمارية وإدارات الإحتلال . وقد قدموا خدمات كثيرة ، من دعم مواقف الحاكم الأجنبي أثناء الأزمات إلى التبرير الشرعي لوجودهم واحتلالهم . ولا ننسى أيضاً بأن الفقهاء والعلماء هم الذين قادوا حركة الجهاد ضد الإستعمار .

 

 

3 ـ الوضع الشرعي للأراضي الإسلامية

أثار الإحتلال الغربي للأراضي الإسلامية مناقشات حول وضعية البلد المسلم من الناحية الشرعية ، أي هل يبقى دار إسلام أم يتحول إلى دار حرب ؟ إن تحديد ذلك يعتمد على المذهب الإسلامي ، ونظرة الفقيه أو المفتي للأحداث ، وعلاقته بسلطات الإحتلال ، وكذلك بشعبه ، وبطبيعة الظروف الإجتماعية والسياسية والإقتصادية للبلاد . ولذلك اختلفت آراؤهم ومواقفهم تجاه هذه المسألة [193][1].

تاريخياً ، هناك بعض الأمثلة على تحول أرض إسلامية من دار الإسلام إلى دار الحرب أو دار الكفر .فالمسلمون في صقلية أصبحوا تحت حكم الكفار عام 1071 وفي إسبانيا تحت الحكم المسيحي عام 1492م . ووقعت بلدان إسلامية عريقة تحت الحكم المغولي بعد هجوم هولاكو على بغداد عام 1258م ، حتى أن الفقهاء في بغداد أصدروا فتوى جاء فيها (أن الكافر العادل خير من المسلم الظالم) .

وتحولت البوسنة في نهاية القرن التاسع عشر إلى دار حرب بعد وقوعها تحت حكم إمبراطورية النمسا والمجر . ولكن المفتي البوسني أزاباجك Azapagic كان يقول : أن دار الحرب تصبح دار إسلام إذا كانت تقام فيها الشعائر الإسلامية كصلاة الجمعة وصلاة العيد [194][2] . وفي عام 1905 سئل الشيخ محمد رشيد رضا حول روسيا ، وهل تعتبر دار حرب فأجاب :

(قد اختلفت عبارات الفقهاء والمحدثين في تعريف دار الحرب ودار الإسلام ، فلا جرم أن الذين يأخذون العلم من الألفاظ يختلفون في تطبيق تلك الأقوال على كل دار وكل مملكة ، فيمكن أن يقال أن بعض البلاد التي لا يوجد فيها مسلم أصلي ، ولا حكم فيها للإسلام أنها دار إسلام بناء على قول بعضهم أن دار الإسلام هي ما يمكن للمسلم إظهار دينه فيها ، ولا يخاف فتنة في دينه ، فأكثر بلاد أوربا وأمريكا كذلك ، ولكنها ليست دار إسلام . وأن كثيراً من البلاد التي حكامها مسلمون يفتن المرء فيها عن دينه فلا يقدر على إظهار جميع ما يعتقد ، ولا أن يعمل بكل ما يجب عليه ، لاسيما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وانتقاد الأحكام المخالفة للشرع ، فهي على قول بعضهم دار حرب .

والذي يؤخذ من مجموع الأقوال التي يعتد بها أن العبرة هنا بظهور الكلمة ونفوذ الحكم ، فإذا كانت الأحكام لأهل الإسلام لا معارض لهم في تنفيذ شريعتهم وإظهار دينهم ، وكان غيرهم آمناً في سربه بتأمينهم ، حراً في دينه بسلطتهم وحمايتهم ، فالدار التي هذا شأنها دار إسلام ، وإلا فهي دار كفر وحرب . وأما الروسيون فهم أهل كتاب ، وإن شابت عقائدهم الوثنية وأعمال الشرك لأنهم يؤمنون بالله وبالوحي والأنبياء واليوم الآخر) [195][3].

هذا قبل الثورة البلشفية عام 1917 وهيمنة الحكم الشيوعي على الإتحاد السوفياتي الذي ضم بضعة جمهوريات إسلامية ، فيمكن إعتبارها دار كفر للفترة 1917 ـ 1990 . والأمر ينطبق على فلسطين المغتصبة من قبل اليهود منذ عام 1948.

وفي الهند إزداد الجدل بين العلماء حول وضعيتها الشرعية ، فبعضهم إعتبرها دار حرب ، والبعض الآخر عدها دار إسلام رغم وقوعها تحت الحكم البريطاني المباشر . وأصدر شاه عبدالعزيز (1746 ـ 1824) ، وهو ابن شاه ولي الله المصلح والفقيه الذائع الصيت ، فتوى عام 1803 أعلن فيها أن الهند دار حرب ، وجاء في الفتوى ما يلي :

(السؤال : هل تعتبر الهند دار إسلام أم دار حرب؟

الجواب : في الكتب المعول عليها ، يؤثر الرأي القائل بأن دار الإسلام تصبح دار حرب في حالات ثلاث . فقد جاء في (الدر المختار) أن دار الإسلام لا تصبح دار حرب إلا بثلاثة أمور : 1) إجراء أحكام المشركين 2) مجاورة دار الحرب 3) أن لا يبقى فيها مسلم أو ذمي آمناً بالأمان الأول .

وتصبح دار الحرب دار إسلام بإجراء أحكام المسلمين . وقد جاء في (الكافي) أن دار الإسلام هي الإقليم الذي يحكم فيه إمام المسلمين ، ويخضع له هذا الإقليم . وأن دار الحرب هي الإقليم الذي تنفذ فيه أحكام حاكمه ، ويخضع له .

وفي هذه البلاد (دلهي) لا يحكم إمام المسلمين إطلاقاً ، بينما تسود فيها سلطة الحكام النصارى دون حرج . ونعني بإجراء أحكام الكفر أن الكفار في وسعهم أن يعملوا بسلطانهم في الحكم ، وفي التعامل مع الرعية ، وفي جمع ضرائب الأرض والرسوم والمكوس والعشور الدموغ ، وفي عقاب قطاع الطرق واللصوصية ، وفي تسوية النزاعات وعقاب المجرمين . ومع ذلك فإن بعض أحكام الإسلام التي تتعلق بصلاة الجمعة والأعياد ، والأذان ، وذبح البقر ما زالت نافذة . إلا أن ذلك يرجع إلى أن جوهر هذه الأمور لا قيمة له عندهم ، إذ أنهم يهدمون المساجد دون تورع ، ولا يستطيع المسلمون والذميون أن يدخلوا هذه البلد أو ضواحيها إلا أن يطلبوا منهم الأمان . وإنما لمصلحتهم هم ، أنهم لا يعرقلون مرور المسافرين والتجار . ولكن الأعيان أمثال (شجاع الملك) و(ولايتي بيجام) لا يستطيعون دخول هذه المناطق دون إذن منهم . ويمتد حكم النصارى من هذه البلد إلى كلكتا . ومن المسلم به أنهم لم يمدوا سلطانهم إلى اليسار أو إلى اليمين ، في حيدرآباد ، لكنهو ورامبور ، ولكن ذلك يرجع إلى عقد معاهدات سلام مع حكام هذه الأراضي الذين يدينون بالطاعة لهم . ونحن ننتهي إلى هذه الفتوى بمقتضى المأثورات ودرس سير الصحابة والخلفاء العظام) [196][4].

وبقي الجدل قائماً حول هذا الأمر قرناً كاملاً ، تجري إثارته في الأزمات وتفجر الأوضاع الداخلية بين خصوم البريطانيين وأنصارهم . إذ أن كل فريق يحاول دعم موقفه من خلال توظيف الجانب الديني في المعركة . ففي نهاية القرن التاسع عشر وجه فريق من الهنود المسلمين سؤالاً إلى المفتي الحنفي في مكة جاء فيه : هل الهند دار إسلام ؟ فأجابهم بالفتوى التالية  :

(الحمد لله رب العالمين ، بارئ الخلق أجمعين . ربي زدني علماً . طالما أن بعض الشعائر الإسلامية تقام فيها ، فهي دار إسلام ، والله العالم . هذه الفتوى صدرت ممن يأمل رحمة الله . والحمد لله والصلاة والسلام على رسوله . (التوقيع)   جمال بن عبدالله شيخ عمر الحنفي

المفتي الحالي في مكة المكرمة رحمة الله عليه وعلى والده) [197][5].

وكانت هذه الفتوى تؤيد مواقف بعض الحركات والشخصيات الإسلامية التي آثرت التقاعس والرضا بالإستعمار الأجنبي ، فأخذت تدعم مواقفها بحجج شرعية . فالجمعية الأدبية في كلكتا أعلنت على لسان مولاي كرامت علي أن الهند دار إسلام ورأت بمقتضى هذه الحجة أن الجهاد ضد الدولة الإستعمارية غير مباح . إذ يقول :

(والمسألة الثانية هي هل من الشرعي أن يقوم الجهاد في هذه البلاد أو لا يقوم ، وقد أجيب على هذه المسألة مع إجابة المسألة الأولى ، ذلك أن الجهاد لا يمكن ان يقوم شرعاً بأي حال من الاحوال في دار إسلام . وذلك من الوضوح بما لا يحتاج معه الأمر إلى بيان أو إلى إسناد من المراجع . فإذا خاض أي امرئ حرباً ضد الحكام في هذه البلاد ، الهند البريطانية ، فإن هذه الحرب يجب أن تعتبر عن حق فتنة ، والفتنة محظورة حظراً صارماً بمقتضى الشريعة المحمدية . وعلى ذلك فإن مثل هذه الحرب غير مشروعة . وإذا خاضها أي امرئ فعلى الرعايا المحمديين أن يمدوا يد العون إلى حكامهم ، وأن يقاتلوا مع حكامهم أصحاب هذه الفتنة) [198][6].

وفيما كان أصحاب هذا الرأي يدعون إلى الوقوف إلى جانب قوى الإحتلال وقتال إخوانهم المسلمين لأنهم (أصحاب فتنة) ، كانت الحركات الإسلامية التي تخوض الجهاد ضد البريطانيين تؤكد على أن الهند دار حرب . وكانت أهم هذه الحركات المعارضة هي (الطريقة المحمدية) بقيادة سيد أحمد ريلوي (1786 ـ 1831) تؤيدها تأييداً كبيراً شخصيتان من الفقهاء من أبناء عائلة شاه ولي الله هما : شاه إسماعيل (1779 ـ 1831) وشاه عبد الحي (ت 1828) . وكانت الحركة تمتاز بالتنظيم المحكم سياسياً وإجتماعياً ، وتسعى إلى تحرير البلاد من الكفار . وقد إعتبر شاه إسماعيل الأراضي الواقعة تحت الإحتلال البريطاني دار حرب ، بينما الأراضي التي تحت سيطرة الحركة فهي دار إسلام . وكانت الحركة تسيطر على المناطق البعيدة عن المركز ، في منطقة الحدود الشمالية الغربية قرب الحدود الأفغانية .

وكانت هناك حركة أخرى هي (حركة الفرائضية) التي أسسها عام 1804 حاجي شريعت الله (1781 ـ 1840) ، تعتقد أيضاً بأن الهند تحت الحكم البريطاني هي دار حرب . ولذلك كانت الحركة تمنع إقامة صلاة الجمعة وصلاة العيد ، ومع ذلك لم يعلنوا الجهاد ضد البريطانيين [199][7] .

إن أغلبية المسلمين في الهند هم على المذهب الحنفي . والمذهب الحنفي يقول بأن دار الإسلام تصبح دار حرب إذا فتحت من قبل الكفار ، وفرضت فيها قوانين الكفار ، وكانت مجاورة لدار الحرب ، ولا يؤمن فيها على حياة وأموال المسلمين والذميين . إذن فحسب المذهب الحنفي ، فالبلد الإسلامي المحتل من قبل الكفار يمكن أن يبقى دار إسلام طالما سمح الحكام بإجراء الأحكام الإسلامية وعينوا قاضياً مسلماً ، وطالما شعر المسلمون والذميون بالأمن كما لو أنهم تحت الحكم الإسلامي . إن العوامل المؤثرة في تحديد طبيعة البلد الشرعية ، أي أنه دار إسلام أم دار حرب ، هما سيادة المسلمين وتطبيق الشريعة الإسلامية . فإذا لم يكونا موجودين ، فالبلد المسلم المحتل من قبل الكفار هو دار حرب [200][8] .

وظهر رأي ثالث في الهند يرى أن كلا الوصفين يمكن أن يطلقا على وضعها الشرعي . فقد كان سيد أحمد خان (1817 ـ 1898) المصلح الشهير يرى أن الجهاد غير مباح إلا في حالة القهر الصريح أو الحيلولة دون المسلمين وممارسة شعائر دينهم ، مما يضر بأسس بعض أركان الإسلام . ولما كان البريطانيون يكفلون الحرية الدينية فليس هناك من الشروط ما يبرر الجهاد ضدهم . أما فيما يتعلق بمسألة ما إذا كانت الهند داراً للإسلام أم داراً للحرب فيرى أن من الأوفق أن تسمى بدار الأمان ، إذ يقول :

(وعلى ذلك فإنه من الواضح أن حكومة الكفار التي يتمتع فيها المحمديون بكل صنوف السلم والأمن ويمارسون فرائضهم الدينية بكامل الحرية ، وترتبط بحكومة محمدية (إسلامية) بمقتضى معاهدة ، ليست بدار للإسلام ، لأنها حكومة غير محمدية (إسلامية) ولكننا مع ذلك نستطيع أن نسميها دار إسلام فيما يتعلق بالمسلم والحرية الدينية التي يتمتع بها المسلمون في حمايتها . ولا هي دار حرب لأن المعاهدة القائمة بينها وبين الحكومة الإسلامية تجعل الجهاد ضدها غير شرعي . ويمكن أن تدعى دار حرب لأنها ليست حكومة محمدية . إن وضع الهند هو على وجه الدقة على ما وصفناه في هاتين العبارتين .

فدار الحرب لا يمكن أن تعني بلداً لا يمكن أن تقوم فيه الحرب شرعاً دفاعاً عن الدين ... التسمية الصحيحة إذن تحت هذه الشروط هي (دار الأمان) حيث يستطيع المسلم أن يقيم شرعاً بإعتباره مستأمناً أو طالباً للأمان) [201][9].

إن سيد أحمد خان يفترض وجود معاهدة بين الحكومة البريطانية والمسلمين الهنود ، في حين دخلت الجيوش البريطانية الهند واحتلتها عسكرياً . كما أن بريطانيا كانت تحكم الهند حكماً مباشراً حتى إعلان إستقلال الهند عام 1949 ، حيث غادرها اللورد مونتباتن آخر حاكم بريطاني .

وتعرضت أقاليم إسلامية أخرى إلى نفس الجدل حول بقائها دار إسلام أم تحولها إلى دار حرب . فقد ذكرنا من قبل فتوى الشيخ محمد رشيد رضا بصدد الإمبراطورية الروسية التي هيمنت على أقاليم إسلامية واسعة ضمت عشرات الملايين من المسلمين . وفي الجزائر أعلن فقهاء المذهب المالكي بأنه لا خلاف في أن الجزائر أصبحت دار حرب بعد الإحتلال الفرنسي عام 1831 .

4 ـ الهجرة من دار الحرب

نتيجة للفكرة القائلة بتحول دار الإسلام إلى دار حرب إثر احتلالها من قبل الكفار ، نشأت قضية أخرى هي هل يجب البقاء في دار الحرب أم الهجرة إلى دار الإسلام ؟ تضمنت هذه المسألة خلافاً فقهياً بين العلماء المسلمين ، على مر العصور . يرى بعض الفقهاء أمثال مالك (93 ـ 179هـ/712 ـ 795م) والشافعي (150 ـ 198هـ/ 767 ـ 814م) وأحمد والشيعة أن المسلم الذي يسكن دار الحرب ، ولم يهاجر إلى دار الإسلام يعصم بإسلامه دمه وماله ، أي لا أحد يعتدي على نفسه أو ماله ، حتى لو بقي في دار الحرب ، ومهما طالت إقامته . أما أبو حنيفة فيرى أن المسلم المقيم في دار الحرب ولم يهاجر إلى دار الإسلام غير معصوم بمجرد إسلامه ، لأن العصمة عند أبي حنيفة ليست بالإسلام وحده ، وإنما يعصم المسلم عنده بعصمة الدار ومنعة الإسلام المستمدة من قوة المسلمين وجماعتهم . والمسلم في دار الحرب لا منعة له ولا قوة فلا عصمة له [202][1] . إن الشافعي يقول بأن دار الإسلام توجد حيث يوجد المسلم القادر على أداء شعائره الدينية .

هناك حالات كثيرة كان فيها المسلمون يقيمون في دار الحرب ، فالرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)وأصحابه الأوائل كانوا ، قبل الهجرة إلى المدينة ، يقيمون في مكة وهي دار حرب لأن الكفار يحكمونها ، وكان المسلمون يتعرضون للأذى بسبب إيمانهم ، ولا يستطيعون ممارسة عباداتهم . وكانت الأقلية المسلمة ، حوالي 80 فرداً ، التي هاجرت إلى الحبشة ، هي أول أقلية إسلامية تعيش في ظل حكم مسيحي . وهي تجربة بحاجة إلى دراسة عميقة بهدف التوصل إلى حلول واقعية فيما يتعلق بالإقامة في البلدان غير الإسلامية .

وكان مسلمو الأندلس قد تعرضوا لوضعية تحول أرضهم من دار الإسلام إلى دار الحرب . فقد بدأت القوات المسيحية بحملات متواصلة من الشمال ، وأخذت تتقدم تدريجياً ولكن ببطء . وكانت المدن الإسلامية تسقط واحدة تلو الأخرى ، حيث تمت السيطرة على أقاليم إسلامية واسعة ، تضم أعداداً غفيرة من المسلمين . واستغرقت إستعادة الأندلس من المسلمين أكثر من قرن ، حتى انتهت بسقوط غرناطة عام 1492 م آخر القلاع الإسلامية ، وإضطرار أهلها إلى الهجرة . وخلال هذه الفترة تعرض المسلمون إلى ضغوط قوية حتى ارتد بعضهم عن الإسلام وسمي القسم الآخر بالمدجنين ، وهم مسلمون بقوا تحت حكم الإسبان ، محافظين على إسلامهم مع أنهم محكومون بأحكام غير إسلامية . وقد أجبر الاسبان هؤلاء المسلمين على المشاركة في حروبهم ومعاركهم ضد المسلمين وضم أراضيهم تحت الحكم الاسباني .

في تلك الفترة ، أي قبل سقوط غرناطة ، أصدر الفقيه الأندلسي إبن ربيع (ت 719هـ/ 1320م) فتوى بشأن الإقامة في الأراضي التي وقعت تحت سيطرة الحكم الاسباني المسيحي ، جاء فيها :

(لا يجوز الإقامة مع الكفار . في الواقع لا يمكن للمسلم أداء الفرائض الإسلامية بصورة شرعية تحت حكم مسيحي) [203][2].

وفي نهاية القرن الخامس عشر حدث جدل بين المسلمين المهاجرين من إسبانيا بعد سقوط غرناطة عام 1492م ، حول شرعية مغادرة دار هجرتهم أي المغرب والعودة إلى الأندلس تحت ظل الحكم المسيحي . وكانت ظروفهم الصعبة في المغرب قد دعتهم للتفكير في العودة ، وفور وصولهم المغرب . ولم يكن الإسبان آنذاك قد نكثوا بالمعاهدة التي عقدها معهم المسلمون قبل تسليم غرناطة إليهم . وتضمنت المعاهدة 67 شرطاً تمنح المسلمين حقوقاً كثيرة منها ممارسة حريتهم الدينية والمحافظة على أموالهم وممتلكاتهم ومساجدهم وأوقافهم . وقد انتهكوا المعاهدة بعد سبع سنوات على توقيعها أي عام 1501م . وسئل الفقيه المغربي الونشريسي الذي كتب رسالة بعنوان (أسنى المتاجر في بيان أحكام من غلب على وطنه النصارى ولم يهاجر) ، منع فيها منعاً باتاً الإقامة في دار الكفر بسبب الحرب القائمة بين المسلمين وأعدائهم الإسبان . بدأ الونشريسي فتواه :

(الهجرة من أرض الكفر إلى أرض الإسلام فريضة إلى يوم القيامة . ومثل الهجرة من أرض الكفر الهجرة من أرض الحرام والباطل بظلم أو فتنة ... ولا تسقط الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام إلا في صورة العجز المطلق . ولا يعوق المال والوطن عن الهجرة ، لأن الشارع قد ألغى ذلك . والدليل على ذلك قوله تعالى (إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً ، فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا) . فالإستضعاف المقبول هو المصور في هذه الآية . أما غيره فلا يقبل بدليل وصف المعتذرين الذين لهم مندوحة بأنهم كانوا ظالمي أنفسهم ، وهم الذين قالوا إنا كنا مستضعفين كما قال تعالى (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها ، فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيراً) (النساء: 97) ... فاتضح مما نطق به القرآن أن الإقامة بدار الكفر محرمة والهجرة واجبة إذا كان هناك وجه للفرار بالدين ) [204][3].

وأصبحت قضية الهجرة واحدة من القضايا الهامة في القرن التاسع عشر ، إذ يتقرر بموجبها بقاء المسلمين في بلدانهم أو مغادرتها بعد احتلال القوات الغربية لها . ففي الهند كانت (الطريقة المحمدية) تخوض جهاداً ضد الإحتلال البريطاني منذ عام 1824م ، فكانت تدعو الناس للهجرة إلى المناطق المحررة الواقعة تحت سيطرتها . فأصبح مفهوم الهجرة الإسلامية يحتل أهمية خاصة في نشاطها الديني والسياسي والعسكري ، إذ كانت ترغب بالمزيد من الأنصار القادرين على حمل السلاح ومواصلة الجهاد .

وفي الجزائر كانت مسألة الهجرة مثار جدل وخلاف بين العلماء الجزائريين . فقد كان الأمير عبد القادر الجزائري (1808 ـ 1883) يخوض حروباً مستمرة منذ عام 1837 ضد الإحتلال الفرنسي . وكان عبد القادر الجزائري قد تمكن من بسط سيطرته على المناطق الشرقية من الجزائر . وكان بحاجة مستمرة إلى الأنصار ، كما كان يرغب بتفريغ المناطق الواقعة تحت السيطرة الفرنسية من سكانها ، مما يدعم وضعه السياسي والعسكري . وكان العلماء الذين ظلوا تحت السيطرة الفرنسية يعارضون الهجرة والقائلين بها . إذ كانوا ينتمون إلى المذهب الحنفي الذي كانت تدين به الطبقة التركية الحاكمة ، وهو المذهب الذي لا يرى الهجرة ضرورية إلا في حالات القهر الديني البالغ القسوة [205][4] . فأراد عبد القادر الجزائري تدعيم موقفه ، فلجأ إلى الفقيه المصري الشيخ محمد عليش (1802 ـ 1882) يسأله عن وضعية المسلمين إذا هاجم الكفار إقليمهم ، فبقي بعضهم تحت سلطة الكفار يدفعون ما يشبه الجزية ، وهناك من العلماء من هاجر ويقول أن الهجرة واجبة ، وأفتى بأن من بقي تحت الكافر مع قدرته على الهجرة يباح دمه وماله وتسبى ذراريه . فأجابه الشيخ عليش بفتوى طويلة أورد فيها نصوصاً ضافية من الفتاوى القديمة بشأن تقهقر المسلمين من صقلية وإسبانيا ، وأثبت فيها أن الهجرة ملزمة [206][5] . أحدثت فتوى الشيخ عليش تأثيراً كبيراً في تدفق المهاجرين على معسكر الجزائري ، ساعدها الممارسات الوحشية للإدارة الفرنسية في المدن المحتلة ، وتدفق المستوطنين الفرنسيين ، والسعي إلى طمس الهوية العربية الإسلامية للسكان . وقد حدثت عدة ثورات جرى قمعها بوحشية . ودفعت الأزمات الإقتصادية ومناخ القهر السياسي والثقافي كثيراً من المسلمين إلى الإستجابة لأمر الإسلام بالهجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام ، حتى بعد فشل ثورة عبدالقادر ورحيله إلى منفاه في سوريا . فقد غادرت أعداد كثيرة من الجزائريين بلدهم إلى بلدان إسلامية أخرى مثل سوريا ومصر وتونس والمغرب .

وعندما حلت المجاعة في 1893 بالمنطقة المحيطة بقسطنطينة كان عدد المهاجرين مدعاة لقلق الحكام المستعمرين في الجزائر، وحدوث نقص في الأيدي العاملة في المصانع والمزارع . وكانوا يرون أن هذه الهجرة مجرد نتيجة للدعاية العثمانية التي تدعو للجامعة الإسلامية ، ومن ثم فقد ردوا على ذلك بمحاولة الحصول على فتاوى في صالحهم للرد على المعارضة الدينية ضدهم ، والرد عليهم بنفس سلاحهم ، الفتوى . ولذلك بادر «جول كامبو  Cambonالحاكم الفرنسي العام في الجزائر إلى مخاطبة الفقهاء في مكة ، وطلب منهم إصدار فتوى بشأن موقف المسلمين المقيمين في الأراضي التي يفتحها الكفار ، والذين يحكمونهم مع ذلك دون أن يحولوا دونهم وممارسة شعائرهم الدينية ، ويعينوا منهم قضاة ينفذون أحكام الشريعة فيهم ، ويدفعون لهم راتباً منتظماً . ويمضي السؤال بعد ذلك إلى ما هو واجب هؤلاء المسلمين في الأحوال  التالية :

1 ـ أتفرض عليهم الهجرة أم لا ؟

2 ـ أيفرض عليهم قتال الكفار لإستعادة الحكم ، حتى لو لم يكونوا على اقتناع بأن لديهم من القوة ما يكفل لهم ذلك ؟

3 ـ وهل المنطقة التي يعيش فيها هؤلاء المسلمون دار حرب أم دار إسلام ؟

رد المفتي الحنفي على السؤال الأول والثالث فقط ، وسكت عن الرد عن مسألة فرض الجهاد على المسلمين . أما عن الهجرة فقد أورد شيئاً من النصوص التقليدية ، فحواه أن الهجرة ليست فريضة إلا إذا عجز المسلمون عن أداء واجباتهم الدينية علناً ، وكان عندهم من المال ما يسمح لهم بالرحلة . وكان رده على السؤال الثالث أن مثل هذه المنطقة تعتبر دار إسلام ما دامت الشريعة مطبقة فيها . وأجاب المفتي الشافعي على سؤال الهجرة بنفس الطريقة ، ولكنه فيما يتعلق بوضع المنطقة أكد أنها قد أصبحت دار حرب لأن الكفار فتحوها ، ولكن الجهاد برأيه لم يكن ملزماً لأن هؤلاء المسلمين غير قادرين على البلوغ به إلى غايته من النجاح . وزع الحكام الفرنسيون هذه الفتاوى بين السكان ، وسرعان ما تناقص عدد المهاجرين ، وإن كان ذلك قد يعود إلى تحسن الوضع الإقتصادي» [207][6].

ولما أخمدت الثورات بقيت الجزائر تحت الحكم الفرنسي مما أدى إلى الإستفتاء عن حال الحكام الجزائريين الذين تعينهم السلطة الفرنسية . وأصدر الفقيه التونسي محمد الطاهر ابن الشيخ محمد النيفر (1830 ـ 1893) فتوى بصدد البقاء في الجزائر أو الهجرة منها فقال :

(إذا لم نجد إلا غير العدول لتولية الأمور ، أقمنا أصلحهم وأقلهم فجوراً للشهادة ، ويلزم ذلك القضاء وغيره لئلا تضيع المصالح . وما أظن أحداً يخالف في هذا لأن التكليف شرطه الإمكان ، وبه عمل المتأخرين . ونحن لا نشك في أن أهل الجزائر وولايتها على ثلاثة أقسام :

1 ـ قسم احتسى حماية دينية حتى يخلص بذلك من أحكام قضاة المسلمين هناك . وهذا لاشك في كفره مع كونه متزيياً بزي المسلمين .

2 ـ وقسم باق على حاله من التمسك بدين الإسلام والعمل بأصوله وفروعه ، إلا أنه قادر على الهجرة ولم يهاجر . وهذا مؤمن فاسق بتركه الواجب عليه ، وهذا لا تقبل شهادته لفسقه ، وعدم قبول شهادة القسم الأول واضح .

3 ـ وقسم هو كالذي قبله في التمسك بدينه إلا أنه عاجز عن الهجرة . وهذا لا يفسق من هذه الجهة ، فإذا توفرت فيه شروط العدالة قبلت شهادته ولا تمييز بين الأقسام الثلاثة عندنا) [208][7] .

وفي السودان ، إستخدم المهدي السوداني (1844 ـ 1885) نفس التكتيك ، الهجرة ، للحصول على المزيد من الأنصار لتقوية جبهته ، إذ كان يواجه المصريين والإنجليز معاً . فكان يخاطب السودانيين وزعماء القبائل يدعوهم إلى الهجرة إليه ، إذ يقول :

(والهجرة المذكورة بالدين واجبة كتاباً وسنة . قال تعالى : يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم . وقال صلى الله عليه وسلم : من فر بدينه من أرض إلى أرض وإن كان شبراً من الأرض استوجب الجنة وكان رفيق أبيه إبراهيم ونبيه محمد عليهما الصلاة والسلام، وإلى غير ذلك من الآيات والأحاديث ، وإجابة داعي الله واجبة . قال تعالى : واتبع سبيل من أناب إلي . فإذا فهمتم ذلك فقد أمرنا جميع المكلفين بالهجرة إلينا ، لأن الجهاد في سبيل الله أو إلى أقرب بلاد منكم لقوله تعالى : قاتلوا الذين يلونكم من الكفار،  فمن تخلف عن ذلك دخل في وعيد قوله تعالى : قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم ...) [209][8].


ملاحظات حول قضية الهجرة من دار الحرب

إحتلت قضية الهجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام إهتماماً ملحوظاً بين العلماء السنة ، كما مر آنفاً ، أكثر من فقهاء الشيعة . فقد تعرضت بعض البلدان الشيعية كالعراق وإيران والبحرين وجنوب لبنان للإحتلال الأجنبي [210][1] ، لكن ذلك لم يدع مراجع الدين الشيعة إلى مناقشة موضوع الهجرة أو مغادرة أراضيهم . فلم تصدر فتوى أو دعوة إلى الهجرة ، بل كانت الدعوة للجهاد هي أحد معالم التاريخ الشيعي المعاصر .

إن الهجرة من الأراضي المحتلة تبدو حلاً طوباوياً تجاه الإستعمار الأجنبي . وكما ناقشنا من قبل ، تبدو الهجرة وسيلة لخدمة أغراض معينة للزعماء المسلمين ، كما لاحظنا في الهند والجزائر والسودان .

سياسياً ، تعتبر هجرة المواطنين المحليين عاملاً مساعداً لخدمة سياسة السلطات المحتلة . إذ أن تفريغ البلاد من السكان يقلل من حجم المعارضة ضد الإدارة الأجنبية ، كما يفسح المجال للمستوطنين في الإقامة والإستيلاء على أراضي المهاجرين ، كما حدث في الجزائر . لا يمكن تصور الأوضاع في البلدان الإسلامية التي رزحت طويلاً تحت نير الإستعمار الغربي ، لو أن سكانها هجروها لمجرد دخول القوات الأجنبية إليها. إن ذلك يشجع على استيطانها من قبل الغربيين كما حدث في الأندلس ، إذ غادرها ثلاثة ملايين مسلم ، فأفسحوا المجال للإسبان ، حتى أنه لم يبق إسباني مسلم رغم بقاء المسلمين هناك ثمانية قرون متواصلة. وماذا ستكون الوضعية في فلسطين ؟ صحيح أن أكثر من أربعة ملايين فلسطيني قد اُجبروا على السكن خارج فلسطين ، إلا أن المتبقين من المسلمين حافظوا على قسم من الأرض الفلسطينية . إنه من غير المفهوم أن يدعو أحد العلماء المعاصرين ، ناصر الدين الألباني ، عام 1993 ، الفلسطينيين المقيمين في إسرائيل إلى الهجرة من بلادهم ، بإعتبارها دار حرب ، إلى دار الإسلام .ويبرر دعوته بأنه يمكنهم تعبئة وتنظيم قواهم والعودة منتصرين إلى أرض آبائهم ! [211][2] إنها دعوة غير منطقية ، وتخدم التوجهات الإسرائيلية الراغبة بتفريغ الأرض الفلسطينية من سكانها ، واستقدام مهاجرين يهود مكانهم .

ولا أحد بإمكانه تصور الحالة في الجمهوريات المسلمة في آسيا الوسطى ، التي بقيت سبعين عاماً (1917 ـ 1990) تحت الحكم الشيوعي الملحد في الإتحاد السوفياتي ، لو أن أولئك المسلمين أطاعوا تلك الفتاوى وغادروا أراضيهم . هناك أكثر من 57 مليون مسلم يعيشون في هذه الجمهوريات . وهذا الأمر ينطبق أيضاً على الأقليات الإسلامية في الصين (30 مليون) ، وفي الهند (82 مليون) [212][3] . وهناك ملايين آخرون يعيشون في بلدان غير إسلامية ، في آسيا وأفريقيا وأوربا وأميركا . أين تذهب هذه الملايين من البشر ، إذا رغبت في ترك دار الحرب ؟ وأي دار إسلام مستعدة لاستضافتهم والسماح بإقامتهم فيها [213][4] ؟

 


 

 

نظرية الحرب والسلم في الإسلام

يمكن تقسيم الدراسات حول القانون الدولي الإسلامي إلى ثلاث فئات :

الأولى : المؤلفون الذين لديهم معرفة جيدة بالقانون الدولي وإطلاع مناسب على الشريعة الإسلامية ، و يسعون لمقارنة المفاهيم الإسلامية بالمبادئ العامة للقانون الدولي . «وإذا لم يستطيعوا أن يجدوا أحكاماً تتساوق مع الموضوع ، وهو ما يحدث كثيراً ، فإنهم يستخلصون هذه الأحكام بأنفسهم إستناداً إلى تفسيرهم للكتاب والسنة . ومن ثم فإنهم يعنون عناية كبيرة بالموضوعات النظرية ، من قبيل مصادر القانون الدولي الإسلامي ، وطبيعة قواعده ، والشخصية القانونية الدولية ، والسيادة ، والمعاهدات ونحوها» [214][1]. ويبذلون جهوداً لإيجاد حلول مناسبة لتلك المشاكل ، وإثبات أن القانون الدولي الإسلامي قابل للتطبيق في العصر الراهن ، وأنه لا يوجد تناقض حقيقي بينه وبين القانون الدولي الغربي .

الثانية : أولئك المؤلفون الذين لا يملكون معرفة بالقانون الدولي ، وأغلبهم ذو خلفية علمية دينية ، «فلا يخوضون في نظريات وأفكار القانون الدولي الوضعي بشكل متعمق . وينطلقون من النظرية التقليدية في الشريعة ، ويعيدون تفسيرها وترتيبها لكي يصوغوها في قالب يستلهم نسق الغرب إلى حد يقل أو يزيد» [215][2].

وغالباً ما يتحدثون بلغة تراثية تدعمها نصوص ومعايير فقهية وأصولية بما يلائم توجههم .

الثالثة : هم الفقهاء المعاصرون الذين يشعرون بالحاجة إلى طرح رأي الإسلام بالقضايا التي تعنى بالشؤون الدولية . ويسعون لتطوير نظريات جديدة لهذه المسائل تعتمد على الأحكام الإسلامية من خلال الإجتهاد الذي يمكن بواسطته التعامل مع القضايا الدولية وإعطاء رأي الإسلام بها . فهناك العديد من القضايا الدولية التي يمكن إدراجها بسهولة في القانون الدولي الإسلامي ، إعتماداً على أحكام معينة أو تطبيق لقواعد معروفة على قضايا جديدة .

ولست بصدد تقويم كتاباتهم ، ولكن فيما يتعلق بهذه الدراسة ، سأحاول مناقشة رأي كل فئة بصدد سؤال هام هو : أيهما هو الأصل في علاقة الإسلام بغير المسلمين ؟ السلم أم الحرب؟ هناك ثلاث نظريات تتعلق بهذا الموضوع :

1 ـ نظرية السلم هو الأصل :

يميل معظم الباحثين والفقهاء المسلمين إلى أن السلم هو القاعدة في العلاقة بين المسلمين وغير المسلمين [216][1]. يذكر بعض الفقهاء أن كلمة (الإسلام) مشتقة من السلم [217][2] ، وأن «السلام هو من أبرز المبادئ الإسلامية ، إن لم يكن أبرزها على الإطلاق ، بل من الممكن أن يرقى ليكون مرادفاً لإسم الإسلام نفسه بإعتبار أصل المادة اللغوية» [218][3] .

ويرى شيخ الأزهر السابق جاد الحق أنه «أصبح واجباً على المسلمين أن يقيموا علاقات المودة والمحبة مع غيرهم من أتباع الديانات الأخرى ، والشعوب غير المسلمة نزولاً عند هذه الأخوة الإنسانية » [219][4] ، منطلقاً من الآية الكريمة (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا ، إن أكرمكم عند الله أتقاكم)(الحجرات :13) ، معتبراً هذه العلاقات هي التي تجسد معنى «التعارف الوارد في الآية . فتعدد هذه الشعوب ليس للخصومة والهدم ، وإنما هو مدعاة للتعارف والتواد والتحاب» [220][5].

وبعد أن يورد الشيخ محمد أبو زهرة الآيات التي تتحدث عن السلم يستنتج أن «هذه النصوص كلها تدعو إلى السلام دعوة مطلقة غير مقيدة» [221][6]. ويرى الشيخ محمود شلتوت أن «السلم هو الحالة الأصلية التي تهيئ للتعاون والتعارف وإشاعة الخير بين الناس عامة . وإذا احتفظ غير المسلمين بحالة السلم ، فهم والمسلمون في نظر الإسلام إخوان في الإنسانية» [222][7].

ولا يتفق المرجع الديني الشيعي السيد محمد حسين فضل الله مع أولئك الذين يقولون بأن الحرب هي الأصل محتجاً بأن «أهم فترة انتشر فيها الإسلام ، هي فترة السلم الذي تلا صلح الحديبية بين قريش وبين المسلمين ، وكانت فترة السلم سنتين [223][8] . ويقول المؤرخون أن من دخل الإسلام في هاتين السنتين أكثر ممن دخلوه في المدة التي تقرب من عشرين عاماً ، منذ بدء الإسلام حتى ذلك الصلح». ويلاحظ فضل الله «وجود أكثريات إسلامية في المناطق التي لم يدخلها الفتح الإسلامي ، ووجود كثير من غير المسلمين في البلاد الإسلامية من دون أن يتعرضوا لأي اضطهاد في عقيدتهم من قبل الحكم الإسلامي» [224][9]. ويقول الشيخ محمد علي التسخيري «بالنسبة للسلام والأمن ، نجد الإسلام بمقتضى انسجامه مع الفطرة يعتبر (الأمن) من نعم الله الكبرى على الإنسان (فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف)(الإيلاف : 4) . فالأمان هبة الله للبشرية ، يجب أن يتوفر لها دائماً» [225][10].

هؤلاء العلماء يرفضون أن تكون حروب الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) قد شنت من أجل إكراه الناس على الإسلام . ويعتقدون أن تلك الحروب كانت حروباً دفاعية ، من خلال تحليل ظروف ودوافع كل معركة ، يتبين أن الإسلام كان يدافع عن نفسه ، وكان من اللازم أن يصد القوى الكافرة التي تريد القضاء عليه وعلى الدولة الوليدة . «ولو ترك النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)وشأنه ولم يعرض له المشركون ويقفوا أمام دعوته ويضطهدوا أتباعه ويصدوهم عن سبيل الله ويخرجوهم من أوطانهم لما كانت هناك حرب» [226][11]. لقد كان المشركون العرب يسعون للقضاء على الإسلام بشتى الطرق ، وحتى بالعنف ، فقد شنوا حملات عسكرية كانت نتيجتها معارك ضارية في اُحد والأحزاب وحنين ، حين حاولوا تدمير المدينة ، عاصمة الدولة الإسلامية الجديدة . أما بقية الحروب فهي حروب وقائية ، من قبيل حرب الدفاع ، لأنها حرب التجمعات قبل أن تتحرك للعمل العسكري ، مثل غزوة غطفان وبني سليم وغزوة ذي أمر بنجد ، وغزوة ذات الرقاع ، وغزوة بني المصطلق وغزوة خيبر ، وغزوة ذات السلاسل ثم غزوة تبوك [227][12] .

لقد سعى الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) من أجل إقامة علاقات سلمية مع الدول والإمبراطوريات المجاورة للجزيرة العربية ، فقد أرسل سفراءه يحملون رسائله لدعوة ملوك مصر وبيزنطة والحبشة وفارس وغيرها من الإمارات حوله . ولم تكن ردود بعضهم إيجابية ، فكسرى فارس مزق رسالة النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ، وأصدر أوامره إلى حاكم اليمن الفارسي ، يأمره بإلقاء القبض على محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) بشن الحرب عليه . وقد اعتبر ذلك الرد موقفاً عدائياً وإعلاناً للحرب يبرر أن يقابله المسلمون بالحرب [228][13]. أما بالنسبة للروم البيزنطيين فقد كانوا من أهل الكتاب ، وهذا ما دعا المسلمين للتعاطف معهم . فخلال صراع الروم والفرس ، كان موقف المسلمين هو التضامن والتأييد والتعاطف مع الروم . وقد أوضح القرآن الكريم هذا الموقف في سورة الروم ، في قوله تعالى (الم ، غُلبت الروم ، في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون ، في بضع سنين ، لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون)(الروم: 1 ـ 5) .

ولم يكن موقف الروم تجاه المسلمين إلا الجفاء والعداء ، فقد أرسل النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ، في صيف 627 م ، مبعوثاً إلى حاكم بصرى ، بإعتباره ممثلاً لقيصر الروم ، يدعوه للإسلام ، ولكن المبعوث تعرض للسلب أثناء عودته [229][14] . كما أن المسيحيين السريانيين قتلوا بعض رجال القبائل الذين اعتنقوا الإسلام . هذه الحوادث كانت بداية العدوان على الإسلام [230][15].

ويعتبر بعض الباحثين أن العلاقة بين الدولة الإسلامية والحبشة «هي مثال عملي على العلاقات الودية ، فالسياسة الخارجية للدولة الإسلامية تجاه الحبشة ، خلال القرون الأولى من العصر الإسلامي ، تمثل سابقة لا مثيل لها . فقد إعتبر المسلمون الحبشة ، ولقرون طويلة ، أنها مصونة من الجهاد ، وامتنعوا عن مهاجمتها ، ولم يفكروا في ذلك . ولعل السبب وراء هذه السياسة ، هو ان الحبشة قد اعترفت ، ومنذ البداية ، بالدولة الإسلامية الناشئة بطريقة ودية ، ولم تتخذ أية سياسة هجومية ضدها» [231][16].

وفي هذا السياق يمكن مناقشة وضعية مصر التي اتخذت سياسة مشابهة ، ولم تهاجم الدولة الإسلامية . وتجمع الروايات الإسلامية على أن حاكمها ، المقوقس ، قد عبر عن احترامه للنبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ، وأرسل إليه بهدايا ، من ضمنها جاريتين ، تزوج إحداهما النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) واسمها مارية ، وتزوج الأخرى شاعره حسان بن ثابت وتدعى سيرين .

ويستند أنصار هذه النظرية على أن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قد عقد معاهدات سلمية مع زعماء القبائل والحكام غير المسلمين ، مثل الإتفاقيات السلمية التي وقعها مع نصارى نجران وآيلة ويهود تيماء وفدك وغيرهم [232][17].

ومن العناصر الهامة في هذا الصدد هي النصوص القرآنية وأحاديث النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)المتعلقة بقضايا الجهاد والقتال . ففيما يتعلق بالقتال يفسر بعض العلماء تلك النصوص ويقيدونها بظروف معينة ، أي أنها ليست مطلقة . فمثلاً يفسر حديث الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)بقوله (أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله) ، «بأن كلمة (الناس) تعني المشركين العرب ، وأن الفقهاء مجمعون على ذلك» [233][18]. ويعلق احد القانونيين المسلمين بأن «هذا الحديث الذي يسمح بالحرب والعدوان لا ينسجم مع الظروف التي كانت تحيط بالنبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في مكة . فقد عومل النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بقسوة من قبل أهالي مكة إلى درجة إضطر معها إلى الهجرة بحثاً عن مكان بعيد; هو المدينة» [234][19].

من أهم القضايا المعقدة فيما يتعلق بالسلم هو التفسير التبريري لآيات القتال ، من أجل أن تنسجم مع أصالة العلاقة السلمية مع غير المسلمين . ويمكن تقسيم غير المسلمين في الوقت الحالي إلى :

1 ـ الوثنيين والمشركين ، من أتباع الديانات البوذية والهندوسية وبقية المعتقدات في الهند والصين والنيبال وتايلاند والتبت وفيتنام وكوريا واليابان . كما توجد جماعات وثنية في أفريقيا وأميركا اللاتينية . وهناك قسم من الأميركيين والأوربيين من اللاأدريين Agnostics والشيوعيين [235][20] .

2 ـ أهل الكتاب : وهم المسيحيون واليهود والصابئة والمجوس. ويجيز الشافعية أخذ الجزية من المشركين عدا العرب [236][21] . ويذهب الشيخ فيصل المولوي ، المستشار في المحكمة الشرعية السنية العليا في بيروت ، أبعد من ذلك حيث يقول «أن الحكم الأصلي هو جواز أخذ الجزية من كل مشرك ، عربياً كان أو غير عربي إذا رضي بعقد الذمة» [237][22]. هذا التوسع في استخدام مصطلح أهل الكتاب يرفضه أغلب الفقهاء.

ويسعى بعض الذين يؤمنون بأصل العلاقات السلمية مع غير المسلمين إلى تفسير الآيات القرآنية التي تتضمن أوامر بقتال المشركين وأهل الكتاب بشكل يوافق مواقفهم وآراءهم . سأحاول أن أعطي بعض الأمثلة على ذلك النمط من التفسير . إن أشهر الآيات المعنية بالموضوع هما (آية السيف) المختصة بالمشركين وهي (أقتلوا المشركين كافة)(التوبة: 36); والأخرى هي (آية القتال) المختصة بأهل الكتاب وهي (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون)(التوبة: 29).

يقول طلعت الغنيمي «لو قبلنا حجة إبن حجر الحلبي ، بأن كلمة «كافة» تعني «كل واحد بلا استثناء» ، فإن ذلك يقودنا إلى استنتاج متناقض ، أي أن على كل مسلم ، بلا استثناء ، أن يشن الحرب على كل مشرك ، وبلا استثناء أيضاً . هذا التفسير لا ينسجم مع القاعدة التي تقررها الآية الكريمة (وما كان المؤمنون لينفروا كافة) (التوبة: 122) . إن التفسير المحتمل لكلمة «كافة» إنما تعني «وحدة الصف» أو «اليد الواحدة» ، إذا طابقنا هذه الآية مع بقية الآيات القرآنية والقواعد المعترف بها في الشريعة . بإختصار فإن الآية تدفع المسلمين إلى نسيان التفاوت فيما بينهم ، وليكونوا يداً واحدة في قتال المشركين ، لأن المشركين يقاتلون المسلمين صفاً واحداً» [238][23]. ويرى فيصل المولوي أن «آيات سورة براءة خاصة أولاً بمشركي العرب ، فهي لا تطبق خارج الجزيرة العربية ، وقد كانت حكماً مؤقتاً الغاية منه تطهير الكعبة المشرفة من مظاهر الشرك ، وكسر شوكة المشركين في الجزيرة» [239][24]. ويرى أن مصطلح «جزيرة العرب» يقصد بها منطقة الحجاز التي تشمل مكة والمدينة واليمامة ، وأن هذا هو رأي جمهور الفقهاء [240][25] .

أما بالنسبة لمعاملة أهل الكتاب ، فالفقهاء القدماء يقولون بأن آية القتال (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون)تختص بهم . اما العلماء المعاصرون فيرون ان الآية المذكورة لا تعني كل الكتابيين ، لأن كلمة «مِن» التي تسبق أهل الكتاب تفيد التبعيض إذا سبقت الإسم ، مما يعني أن الحكم يتعلق بقسم أو بعض من أهل الكتاب وليس كلهم . والآية مقدمة لآيات تتعلق بغزوة تبوك ، التي تم خلالها تجنيد المسلمين للمشاركة في حرب ضد الروم في وقت كان الجو فيه حاراً جداً . إذن فسبب نزول الآية يعود إلى قسم من أهل الكتاب ، وخاصة الروم البيزنطيين» [241][26].

وتقول أكثر الروايات أن هذه الآية نزلت قبيل غزوة تبوك . ويلاحظ المولوي الفرق في الخطاب القرآني بين لفظة «فأقتلوا» الواردة في آية السيف (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) المخاطب بها المشركين ، وبين قوله عن أهل الكتاب (قاتلوا الذين .... من أهل الكتاب) ، والسبب هو أن المشركين العرب من أهل الجزيرة ليس لهم إلا الإسلام أو القتل أو الخروج من الجزيرة العربية . أما أهل الكتاب فهم يُقاتلون ، ويمكن أن ينتهي القتال معهم بخضوعهم ودفعهم الجزية . إن الأمر بالقتال هنا على سبيل المشروعية لا على سبيل الوجوب لأن هدف المسلم هو هدايتهم وليس قتلهم» [242][27].

يمكن الإستنتاج بأن أغلب الفقهاء المعاصرين يرون أن العلاقات بين العالم الإسلامي والدول الغربية وغير المسلمة يجب أن تستند على مبدأ السلم .وأن استخدام الحرب والقتال محصور في حالة تعرض البلدان الإسلامية إلى هجوم مسلح من الأعداء أو غير المسلمين . هذا المبدأ يسمى بحق الدفاع عن النفس ، والقانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة يعترف به [243][28] . إن انتشار الإسلام يجب أن يعتمد الوسائل السلمية كالدعوة والحوار والمطبوعات والإعلام والندوات وغيرها . إن الدول الإسلامية ترتبط بشعوب الأرض بروابط عديدة ، كما يرى الشيخ محمود شلتوت ، «فالسلام الذي أراده الله للإنسانية في ظل الإسلام يقوم على دعامتين :

1 ـ النظام الدولي المتكامل الذي ورد به القرآن الكريم ، فقد جاء يعلن (الأخوة العالمية) ، ويرفع من مستوى (النفس الإنسانية) ، ويقيم (دعائم العدالة الإجتماعية) ، ويشيع في المجتمع معنى (التكافل الحق) والطمأنينة والسلام .

2 ـ الاُمة المؤمنة بهذا النظام ، والدولة القائمة عليه ، فهي تأخذ به وتدافع عنه ، وتدعو إليه ...، وتجاهد في سبيله بكل ما تملك ولا تخشى في ذلك لومة لائم» [244][29] .

ويرى الشيخ محمد علي التسخيري أن الأساسين الرئيسين اللذين تقوم عليهما السياسة الخارجية الإسلامية هما :

1 ـ المصلحة الإسلامية العليا على ضوء الواقع القائم.

2 ـ الروابط والرحمة الإنسانية والصلات الخلقية .

ويرى الشيخ شلتوت «أنه لا توجد آية واحدة في القرآن تدل أو تشير إلى أن القتال في الإسلام فرض لحمل الناس على اعتناقه» [245][30] ، وأنه لا يوجد نص قرآني أو حديث يؤيد شن حرب غير محدودة على الكفار [246][31]. ويرى هذا الفريق أن الجهاد هذه الأيام يقتصر على الدفاع عن الأراضي الإسلامية والممتلكات والعقيدة [247][32] .

ويرى فقهاء السنة أنه من الممكن شن الحرب أو الجهاد الهجومي من أجل حماية الدعوة الإسلامية ضد الذين يمنعون المسلمين من إظهار عقيدتهم وشعائرهم ، وهو ما يسمى بالفتنة في قوله تعالى (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ، ويكون الدين لله) (البقرة : 193) [248][33].

أما فقهاء الشيعة فيرون أن الجهاد الإبتدائي مشروط بحضور الإمام المعصوم . وفي الوقت الحاضر فالإمام المعصوم غائب منذ عام 932 م ، وهو الإمام الثاني عشر ، واسمه محمد المهدي بن الحسن العسكري(عليه السلام) . وعندما يظهر، فهو الوحيد الذي له صلاحية إصدار الأمر بالجهاد الإبتدائي . فالشيعة لا يؤمنون بالجهاد الإبتدائي أو الهجومي في الوقت الحاضر ، ليس لأسباب سياسية أو عسكرية مرتبطة بقوة المسلمين أو ضعفهم ، بل لسبب ديني بحت ، أي مرتبط بحضور الإمام الغائب . يقول السيد كاظم الحائري «أفتى أكثر فقهاء الشيعة بأن إعلان الجهاد الإبتدائي خاص بزمان الإمام المعصوم . أما اليوم فلا يكون الجهاد إلا دفاعاً حينما يكون العدو هو البادئ بالحرب» [249][34].

ويؤيد بعض المستشرقين الغربيين ذلك ، إذ يقول توماس آرنولد «أن الفقهاء المسلمين والمفسرين يرون أن الجهاد يعتبر حرباً دينية تشن ضد الكافرين المهاجمين ، ومع ذلك لا يجوز الإعتداء . ويجرى إنتقاء بعض الأجزاء من آيات متفرقة ، بعيداً عن الجو العام للآية أو الظروف الخاصة التي نزلت بها والتي تعود إليها وحدها» [250][35].

ـ الحرب هي الأصل :

مثلت قاعدة «أن الأصل هو الحرب في العلاقة مع غير المسلمين» النظرة التقليدية السائدة بين الفقهاء والمفسرين ، طوال قرون . وما يزال بعض العلماء والقادة الدينيين يعتقدون أن الحرب والقتال هما القاعدة في العلاقة مع غير المسلمين . وابرز أصحاب هذا الإتجاه هم قادة بعض الحركات السنية الشهيرة كالسيد قطب ، المنظر الإيديولوجي لجماعة الإخوان المسلمين في مصر ، وأبو الأعلى المودودي (1903 ـ 1979) ، الفقيه والسياسي الهندي [251][1] ، وتقي الدين النبهاني ، زعيم حزب التحرير الإسلامي .

ويؤيد نظرية الحرب هي الأصل الفقهاء الوهابيون (حنابلة) ، وكذلك بعض المستشرقين والباحثين الغربيين . ويعزز هذا التيار رأيه بالنظرة الكلاسيكية للعلاقات مع غير المسلمين ، ويعتمدون التفسير المتوارث للآيات القرآنية والأحاديث النبوية ، حيث «لا يبدي بعض الفقهاء نزعة تجاه إقامة علاقات سلمية مع أعدائهم» [252][2].

إن الفرضية الأساسية التي يعتمدها أصحاب هذه النظرية ، في العلاقات الخارجية مع الأمم الأخرى ، تقول «أن الاُمة المؤمنة هي المعنية والمقصودة بالشريعة الإسلامية والنظام الأخلاقي الإسلامي ، في حين أن بقية الجماعات الإنسانية مجرد تابع لهذا النظام . وأن الغاية النهائية للإسلام كانت إقامة السلم ضمن الأراضي الخاضعة له ، ثم توسيع نفوذ النظام الإسلامي ليشمل العالم كله» [253][3]. ويؤيد مجيد خدوري التقسيم الثنائي الكلاسيكي للعالم ، أي دار إسلام ودار حرب ، وأن الأداة التي تستخدم لتحويل دار الحرب إلى دار الإسلام Islamica Pax هي الجهاد [254][4] . وقد يمكن تحقيق ذلك الهدف بالطرق السلمية إضافة إلى وسائل القوة . كما يمكن تعليق حالة العداء من خلال معاهدات سلمية ، على أن لا تزيد مدتها عن عشر سنوات [255][5] . ويرى أن «الجهاد في الإسلام يشابه الصليبية في المسيحية الغربية ، بما يعرف بالحرب العادلة Justem Bellum. إن الجهاد واجب دائمي على المسلمين ، حتى يتم القضاء على دار الحرب . ويصبح واجباً على المؤمنين بشن عمليات حربية مستمرة ، نفسية إن لم تكن عسكرية» [256][6]. ويصر مجيد خدوري على أن «حالة العداء الدائم هي العلاقة الطبيعية بين الإسلام وبقية الأمم» [257][7]. وينكر حالة السلم والمعاهدات السلمية الدائمية مع غير المسلمين ، عدا المعاهدات المعقودة مع أهل الكتاب بحيث تصبح أراضيهم جزءاً من دار الإسلام [258][8] .

وينتقد أبو الأعلى المودودي أولئك الذين يؤكدون على الأساليب السلمية وتركوا الجهاد ، ويشعرون بالخجل من ذكره ، إرضاءً للغربيين ، فيقول ساخراً «أيها السادة !! إنما نحن دعاة مبشرون ندعو إلى دين الله ، دين الأمن والسلام والحكمة والموعظة الحسنة ، نبلغ كلام الله تبليغ الرهبان والدراويش والصوفية ، ونجادل من يعارضنا بالتي هي أحسن ، بالخطب والرسائل والمقالات حتى يؤمن بدعوتنا عن بينة . هذه دعوتنا لا تزيد ولا تنقص . أما السيف والقتال فمعاذ الله أن نمت إليه بصلة ، اللهم إلا أن يقال أننا دافعنا عن أنفسنا حيثما اعتدى علينا أحد. ذلك أيضاً قد مضت عليه سنون وأعوام طويلة . أما اليوم فقد أظهرنا براءتنا من ذلك أيضاً . ومن أجل ذلك نسخنا الجهاد (رسمياً) ذلك الجهاد الممقوت الذي يعمل فيه السيف عمله ، حتى لا يقلق بالكم ولا يقض عليكم مضاجعكم . فما (الجهاد) اليوم إلا مواصلة الجهود باللسان والقلم ، وليس لنا إلا أن نلعب بمرهفات الألسنة وأسنّة الأقلام . أما المدافع والدبابات والرشاشات وغيرها من آلات الحرب واستخدامها لأنتم أحق بها وأهلها» [259][9]. ويعتقد المودودي أن «الاسلام فكرة إنقلابية ومنهاج إنقلابي يريد أن يهدم نظام العالم الإجتماعي بأسره ، ويأتي بنيانه من القواعد ، ويؤسس بنيانه من جديد حسب فكرته ومنهاجه العملي ... والجهاد عبارة عن الكفاح الإنقلابي عن تلك الحركة الدائبة المستمرة التي يقام بها للوصول إلى هذه الغاية وإدراك هذا المبتغى» [260][10]. ويحدد المودودي موقفه تجاه الحكومات والدول الأخرى ، فيرى أن هدف الجهاد هو «السعي وراء القضاء على الحكومات الجائرة المناقضة لمبادئ الحق الخالدة وإقامة حكومة صالحة ، مؤسس بنيانها على قواعد الحق والعدالة» [261][11].

ويرفض المودودي تقسيم الجهاد إلى هجومي ودفاعي ، وأنه لا مسوغ لذلك التقسيم فيقول أن «الجهاد الإسلامي هجومي ودفاعي معاً ، هجومي لأن الحزب الإسلامي يضاد ويعارض الممالك القائمة على المبادئ المناقضة للإسلام ، ويريد قطع دابرها ولا يتحرج في استخدام القوى الحربية لذلك . وأما كونه دفاعياً فلأنه مضطر إلى تشييد بنيان المملكة وتوطيد دعائمها حتى يتسنى له العمل وفق برنامجه وخطته المرسومة» [262][12].

أما المفكر الإسلامي سيد قطب فقد تأثر بظروف خاصة أثناء مواجهة الإخوان المسلمين لنظام عبد الناصر ، مما جعل معاناته تنعكس في كتاباته وأفكاره ، لأنه كتب أغلب كتبه في ذلك العهد . من جانب آخر يلاحظ بعض الباحثين أن سيد قطب تأثر بكتابات أبي الأعلى المودودي التي «تسربت إلى السجن ، وانفعل بها ، وتركت بصمات كبيرة واضحة عليه ، وعلى أفكاره . إن تلك الكتابات جاءت في وقت المحنة ، فتلقفها ، وكررها» [263][13]. ويقسم سيد قطب الناس ، حسب انتمائهم العقائدي ، إلى ثلاث فئات :

1 ـ مسلمين تحكمهم شريعة الله .

2 ـ أهل ذمة يؤدون الجزية ، وهم على عهدهم ما استقاموا .

3 ـ محاربين يُحاربون .

ويعتقد سيد قطب أن هذه هي الأحكام النهائية التي تنتهي إليها حركة الجهاد الإسلامي ، وكل ما عداها هو حالات واقعية يسعى الإسلام إلى تغييرها ، حتى تنتهي إلى هذه الأوضاع الثلاثة التي تمثل العلاقات النهائية [264][14]. فسيد قطب ينفي بذلك وجود أية علاقات مع غير المسلمين خارج الدولة الإسلامية ، سوى الحرب والقتال . ويفترض أنه على الدول غير المسلمة الإنصياع للإسلام ، فيقول «أن الإسلام لله هو الأصل العالمي الذي على البشرية كلها أن تفي إليه ، أو أن تسالمه بجملتها فلا تقف لدعوته بأي حائل من نظام سياسي ، أو قوة مادية ، وأن تخلي بينه وبين كل فرد ، يختاره أو لايختاره بمطلق إرادته ، ولكن لا يقاومه ولا يحاربه! فإن فعل ذلك أحد كان على الإسلام أن يقاتله حتى يقتله أو يعلن استسلامه» [265][15].

ويفسر سيد قطب آيات القتال والجهاد بشكل يوافق ذلك التوجه ، حيث يرى في قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار ، وليجدوا فيكم غلظة) ، بأنها «تضع خطة الحركة الجهادية ومداها . وهما الخطة والمدى اللذان سار عليهما رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وخلفاؤه من بعده بصورة عامة . فقد سارت عليها الفتوحات الإسلامية ، تواجه من يلون من (دار الإسلام) ويجاورونها ، مرحلة فمرحلة . فلما أسلمت الجزيرة العربية ، كانت غزوة تبوك على أطراف بلاد الروم . ثم كان انسياح الجيوش الإسلامية في بلاد الروم وفي بلاد فارس» [266][16]. ويرى سيد قطب أنه من الواجب إتباع تلك الخطة في العصر الراهن ، مبرراً ذلك بأن «الأمر بقتال الذين يلون المسلمين من الكفار ، لايذكر فيه أن يكونوا معتدين على المسلمين أو ديارهم . وندرك أن هذا هو الأمر الأخير ، الذي يجعل (الإنطلاق) بهذا الدين هو الأصل الذي ينبثق منه مبدأ الجهاد ، وليس هو مجرد (الدفاع) كما كانت الأحكام المرحلية أو العهد بإقامة الدولة المسلمة في المدينة» [267][17].

وينتقد سيد قطب أولئك «الذين يكتبون اليوم عن العلاقات الدولية في الإسلام ، وعن أحكام الجهاد في الإسلام ، والذين يتصدون لتفسير الآيات المتضمنة لهذه الأحكام ، بأنه يتعاظمهم ويهولهم أن تكون هذه هي أحكام الإسلام ، وأن يكون الله سبحانه قد أمر الذين آمنوا أن يقاتلوا الذين يلونهم من الكفار ، وأن يظلوا يقاتلون من يلونهم من الكفار ، كلما وجد هناك من يلونهم من الكفار! يتعاظمهم يهولهم وأن يكون الأمر الإلهي هكذا ، فيروحون يتلمسون القيود للنصوص المطلقة» [268][18]. فسيد قطب يرى في العلاقات بين الإسلام والشعوب الأخرى حرباً دائمة تشنها الدول الإسلامية على جيرانها من غير المسلمين ، حتى يعتنقوا الإسلام ، او يدفعوا الجزية . ويرفض فكرة أن غير المسلمين يمكن أن يفوا بعهد أو يلتزموا بمعاهدة ، فيقول أن «عدم وفاء المشركين للعهود (كيف يكون للمشركين عهد عند الله ورسوله ... فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون)هو القاعدة الأساسية لعدم إمكان التعايش على أساس المعاهدات بين المعسكر الإسلامي ومعسكر الشرك ومعسكر أهل الكتاب ، إلا في فترات موقوتة لا تمثل قاعدة دائمة» [269][19].

ويكرر سيد قطب آراء المودودي بصدد الفقهاء والمفكرين المسلمين المؤيدين لفكرة السلام مع الكفار فيصفهم بأنهم «مهزومون تحت ضغط الواقع الحاضر وتحت الهجوم الإستشراقي الماكر ، يتحرجون من تقرير تلك الحقيقة، لأن المستشرقين صوروا الإسلام حركة قهر بالسيف للإكراه على العقيدة . والمستشرقون الخبثاء يعرفون جيداً أن هذه ليست هي الحقيقة ، ولكنهم يشوهون بواعث الجهاد الإسلامي بهذه الطريقة .. ومن ثم يقوم المنافحون  ـ  المهزومون  ـ  عن سمعة الإسلام ، بنفي هذا الإتهام ، فيلجأون إلى تلمس المبررات الدفاعية ! ويغفلون عن طبيعة الإسلام ووظيفته ، وحقه في (تحرير الإنسان) إبتداءً» [270][20].

وقد كتب سيد قطب كتاباً بعنوان (السلام العالمي والإسلام) ، يستهله بآيات القتال والحرب ، ويطرح فيه رأي الإسلام بالسلام المبني على اسس عقائدية ، وتهذيب النفس والإلتزام بالأخلاق الرفيعة . ثم يعرج على طبيعة الحكم الإسلامي والقانون الجزائي وتعدد الزوجات . ثم يتطرق للحرب فيستنتج أن «الحرب الوحيدة المشروعة التي يقرها الإسلام هي (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله) ، ويفسر كلمة الله بأنها التعبير عن إرادته ، وإرادته الظاهرة لنا نحن البشر ، هي التي يقررها سبحانه ويحددها كلامه (حتى لا تكون فتنة ، ويكون الدين كله لله)» [271][21]. والكتاب عبارة عن مجموعة من الآراء النظرية بعيدة عن الجانب العملي والتطبيقي للمفاهيم المطروحة فيه ، إضافة إلى عبارات عامة وملاحظات تأتي في سياق التفسير لبعض الآيات . ولم يتطرق للعلاقات الدولية ولا لعلاقات الدول الإسلامية بالمجتمع الدولي ، بل مجرد إنتقادات لجوانب سلبية للمجتمعات الغربية .

وتتفق المدرسة الوهابية مع نظرية العلاقات العدائية مع غير المسلمين ، دون تحديد أو تقييد . فالشيخ عبد العزيز المحمد السلمان ، وهو مدرس في معهد إمام الدعوة بالرياض ، يرى «وجوب قتال الكفار ، إبتداءً ودفاعاً . قال الله تعالى (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة) ، قال البغوي رحمه الله : وقاتلوهم يعني المشركين ، حتى لا تكون فتنة أي شرك ، يعني قاتلوهم حتى يسلموا ، فلا يقبل من الوثني إلا الإسلام ، فإن أبى قتل» [272][22]. ويرى الشيخ السلمان أن الجهاد ليس للدفاع ، ويرد على (مدعي الدفاع في نصوص الغزو والجهاد) وسعياً لإثبات رأيه من خلال فرضية غير صحيحة حين يقول أن «غزوات النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كانت 29 غزوة ، وأما سراياه وبعوثه ، فقريب من ستين ، وكانت كلها بعد الهجرة في مدة عشر سنين . فأقول : ولم يعهد فيهن أن العدو قصده وهاجمه في بلده المدينة وحواليها قط بل هو الذي كان يغزوهم حيث ما كانوا ، مما يبلغه الخف والحافر ، إلا غزوتي اُحد والأحزاب» [273][23]. ويفسر عبد العزيز السلمان الآية الكريمة (واقتلوهم حيث ثقفتموهم) (البقرة: 191) بأنها تعني «واقتلوهم حيث وجدتموهم وأدركتموهم في الحل والحرم ، وإن لم يبتدئوكم ... إن الله تعالى أمر بالجهاد معهم سواء قاتلوا أو لم يقاتلوا [274][24]. ومثل بقية أصحاب هذا الإتجاه ، ينتقد الشيخ السلمان أولئك القائلين بأن الجهاد للدفاع فقط ، فيقول «وفيما أرى أن القائل أن الكفار لا يُقاتلون إلا دفاعاً فقط ما يخلو من أمرين : إما أن يكون من أعداء المسلمين قصده تثبيطهم عن الجهاد على ما هم عليه من الوهن والكسل ، وإما أن يكون جاهلاً بنصوص الكتاب والسنة ، وغزوات النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وأصحابه وفتوحاتهم» [275][25].

ويرى الشيخ عبد العزيز بن راشد «أن الله قد أوجب على المسلمين أن يبدأوا بالقتال من أبى الإسلام من الكفار والمشركين ، بعد دعوتهم إلى الخضوع له أو الدخول فيه حيث كانوا ، وفرض على الأمة أن تهاجمهم وتبدأهم به في كل وقت سوى الأشهر الحرم ... وأن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وأصحابه بدأوا المشركين والفرس والروم ، بعد رفض رؤسائهم كتاب النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ، بغير اعتداء منهم على أحد من المسلمين ، ولا منع داعي الإسلام . ولكنها مكيدة أفرنجية ، ونزعة أوربية أريد بها تأخير المسلمين وموتهم» [276][26]. وقد ذهب بعض الباحثين المتأخرين إلى أن الجهاد لم يشرع إلا رحمة بغير المسلمين «لنقلهم من الشك والحيرة والعناد» ، ويهاجم صالح اللحيدان القائلين بأن الجهاد في الإسلام يعني الدفاع فيقول «والذين قالوا بهذا القول من المتأخرين ، من الكتّاب والمؤرخين ، وكتّاب السيرة بصفة خاصة ، ليسوا بشيء» [277][27].

وأصدر الشيخ عبد العزيز بن باز الفتوى التالية بصدد العلاقة مع غير المسلمين يقول فيها :

«الكفار والمشركون من يهود ونصارى ووثنيين ودهريين كلهم نجس كما أخبر الله . فلا يجوز إكرامهم ولا احترامهم ولا تقديرهم في المجالس ولا القيام لهم ، ولا بدؤهم بالسلام أو بكيف أصبحت أو امسيت ، ولا مصافحتهم ولا تقبيل أيديهم» [278][28].

ويذهب تقي الدين النبهاني إلى حرمة إقامة العلاقات الدبلوماسية مع بعض الدول الغربية ، إذ يقول «الدول الإستعمارية فعلاً :كإنجلترا وأميركا وفرنسا والدول التي تطمع في بلادنا كروسيا ، تعتبر دولاً محاربة حكماً ، فتتخذ جميع الإحتياطات بالنسبة لها ، ولا يصح أن تنشأ معها أية علاقات دبلوماسية» [279][29].

ويضع النبهاني شروطاً لفتح السفارات الأجنبية في البلدان الإسلامية إذ يقول «يسمح للدول غير المحاربة فعلاً ، وغير الدول الإستعمارية فعلاً ، وغير الدول الطامعة في بلادنا أن تفتح سفارات في البلاد على شرط أن يمنع نشاطها الثقافي والسياسي ، وتقيد صلاحياتها وتنقلاتها» [280][30]. ولم يذكر النبهاني فيما إذا كانت هناك معاملة بالمثل ، أي تقييد حرية الدبلوماسيين المسلمين في البلدان غير الإسلامية .

ويرد بعض الفقهاء المعاصرين على بعض الآراء المتشددة للفقهاء القدماء ، فالشيخ فيصل المولوي يورد آراء إبن البارزي (ت 738 هـ/ 1337 م) التي يقول فيها «أن آية السيف نسخ بها 114 موضعاً . وأن آية القتال نسخ بها ثمانية مواضع» . ثم ينتقدها بقوله «مما لاشك فيه أن هذه المبالغة في ادعاء النسخ تنبه لها كثير من العلماء وحذروا منها ، لأن النسخ إذا لم يكن ثابتاً بيقين فهو يؤدي إلى منع العمل بحكم شرعي مؤكد بناء على ادعاء نسخ غير ثابت ، وهذا تعطيل لشريعة الله تعالى» [281][31].

إن ذلك يعني رفض استخدام الوسائل السلمية في التعامل مع غير المسلمين ، في الوقت الذي يتناقض هذا الرأي مع الآيات القرآنية الصريحة مثل :

ـ (وقولوا للناس حسناً) (البقرة : 83).

ـ (فاعفوا واصفحوا) (البقرة : 109).

ـ (ولا تعتدوا) (البقرة : 190).

ـ (لا إكراه في الدين) (البقرة: 256).

ـ (فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولاً بليغاً)(النساء: 63) .

ـ (فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين) (المائدة : 13).

ـ (أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة ، وجادلهم بالتي هي احسن)(النحل : 125).

 

3 ـ السياسة البراغماتية

وهذه النظرية غير متميزة بشكل واضح عن النظريتين السابقتين ، ولكن خطوطها العامة جاءت في سياق آراء وأفكار أصحاب المذاهب والفقهاء والعلماء والمفسرين . وما زال بعض الباحثين المعاصرين يتداولون تلك الآراء ، فظافر القاسمي ، وهو أستاذ جامعي ، ينقل رأي الفقيه السرخسي [282][1] ، وسيد قطب ينقل ويتبنى رأي إبن القيم الجوزية [283][2] . ويمكن تلخيص هذه النظرية وفق السياق التالي : في بداية بعثة النبي محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) ، إتبع(صلى الله عليه وآله وسلم) الوسائل السلمية ، فدعا أولاً أهله ثم عشيرته ، ثم اهل مكة وقريش ، ثم سائر العرب ، ثم بقية العالم . ومكث(صلى الله عليه وآله وسلم) ثلاثة عشر عاماً في مكة دون أن يقاتل أحداً بل بالصبر والصفح ، ولما هاجر إلى المدينة ، أمره تعالى بقتال الذين يقاتلونه ، ثم بقتال المشركين حتى يسلموا . وأن يقاتل أهل الكتاب حتى يسلموا أو يبقوا على دينهم مع دفع الجزية . وأن الأحكام النهائية فيما يخص معاملة غير المسلمين قد وردت في سورة براءة (أو التوبة).

واستناداً إلى هذه النظرية ، فإن ستراتيجية الإسلام تتركز في إستخدام الوسائل السلمية والدعوة والحوار عندما تكون الدولة الإسلامية في حالة ضعف ، واستخدام القوة والعنف والفتح العسكري والقتال عندما يكون المسلمون أقوياء . روى محمد بن الحسن الشيباني والسرخسي عن الإمام أبي حنيفة أنه قال : لا ينبغي موادعة أهل الشرك ، إذا كان بالمسلمين عليهم قوة [284][3] . ويعلق الشيباني بقوله «وصار هذا أصلاً بجواز الموادعة عند ضعف حال المسلمين ، والإقدام على المقاتلة عند قوتهم» [285][4]. ويقول الإمام الشافعي «فإن كانت بالمسلمين قوة لم أر أن يأتي عليه عام إلا وله جيش أو غارة في بلاد المشركين الذين يلون المسلمين من كل ناحية ، وإن كان يمكنه في السنة بلا تغرير بالمسلمين أحببت له أن لا يدع ذلك كلما أمكنه ، وأقل ما يجب عليه أن لا يأتي عليه عام إلا وله فيه غزوة حتى لا يكون الجهاد معطلاً في عام إلا من عذر» [286][5]. فالشافعي يريدها حدوداً ملتهبة ، وحروباً مستمرة ، وتحرشاً دائماً بالدول المجاورة ، دون أن يناقش رد فعل الدول الأخرى على هذه الإعتداءات المتكررة . وهذا ما يخالف المشهور عنه لكونه يوسع من دائرة دار الإسلام لتشمل كل أرض يستطيع المسلمون فيها أداء شعائرهم .

ويرى الشيخ محمد بن عبد الوهاب ، مؤسس المذهب الوهابي ، «...والله يأمر رسوله والمؤمنين بالكف والعفو والصفح حتى قويت الشوكة ، فحينئذ أذن لهم في القتال ، ولم يفرضه عليهم ، ثم فرض عليهم قتال من قاتلهم ، ثم فرض عليهم قتال المشركين كافة» [287][6]. ويؤيده الشيخ عبد العزيز الراشد منتقداً من لا يرى رأيه ، إذ يقول «فمدعي أن الإسلام لا يجيز بداءة عدوه بالقتال متقول عليه ما ليس فيه ، إذ من حكمته أنه لم يأمر بالقتال حين كان ضعيفاً بين أعدائه ، فلما ناوأوه بمكة ، أمر الله نبيه بالهجرة ، وشرع لهم وأوجب عليهم مهاجمة كل آب» [288][7]. ويوافق بعض العلماء المعاصرين على هذا الرأي ، حيث يؤكدون على استخدام القوة ضد الدول غير الإسلامية ، إذا كانت الدولة الإسلامية قوية ولديها قدرة عسكرية كافية . صحيح أنهم لا يعلنون ذلك صراحة ولكنهم يؤيدون الأحداث التاريخية والتوسع الإسلامي ، كما لا يجدون ضيراً في أنه «كلما كان المسلمون في مركز القوة ، أعلنوا الحرب المادية ضد الأنظمة الطاغوتية الحاكمة ، لا ضد شعوبها المسحوقة ، وهدفهم إتاحة الحرية لهذه الشعوب أن تدخل الإسلام أو لا تدخل بدون ضغط أو إكراه» [289][8].

ويحلل فيصل المولوي النتائج المتوقعة إزاء نهج هذه السياسة في العصر الحالي ، والمصاعب التي ستواجه المسلمين إذا أصروا على السياسة العسكرية في تعاملهم مع جيرانهم فيقول «إن مسيرة الإسلام تتوقف وتتجمد إذا لم تراع الظروف المحيطة بها ..وإن القول بأن آيات المرحلة الأخيرة من القتال نسخت ما سبقها بحيث لا يجوز العمل بها معناه :

1 ـ أن ظروف المسلمين ستبقيهم في مرحلة القوة التي كانوا فيها عند نزول الآيات الأخيرة ، بحيث يستمر الإلتزام بهذه الآيات محققاً الغرض الشرعي منها ، وهذا ليس أمراً حتمياً .

2 ـ أو لأن ظروف المسلمين قد تتغير كما هو حاصل منذ مئات السنين ، ويكون الإلتزام بآيات المرحلة الأخيرة تكليفاً بما لا يستطيعه المسلمون ، وإذا فعلوه مع عدم الإستطاعة فلن يؤدي إلى تحقيق الغرض الذي من أجله نزلت الآيات ، بل ربما يؤدي إلى عكسها تماماً» [290][9].

ويؤيد هذه النظرية د. أحمد بدر، رئيس قسم التاريخ في كلية الآداب بجامعة دمشق ، إذ يقول «ويتجلى الطابع الدفاعي عندما كان المسلمون ضعفاء ، والهجومي عندما أصبحوا أقوياء» [291][10]. ويذهب إلى نفس الرأي المستشرق الإنجليزي مكدونالد L.B. Macdonald، الذي كتب مادة (الجهاد) في دائرة المعارف الإسلامية حيث بدأ مقالته بقوله «الجهاد : نشر الإسلام بالسيف فرض كفاية على المسلمين كافة» [292][11]. ويمضي مكدونالد بقوله قد «دعت السور المكية إلى الصبر على العدوان ، ولم يكن إلى غير ذلك من سبيل ، أما في المدينة فقد تبين الحق في رد العدوان ، ثم غدا هذا الحق شيئاً فشيئاً فرضاً يقضي على المسلمين بقتال أهل مكة أعدائهم ، وإخضاعهم . وقد يُشك في أن محمداً رأى أن موقفه يقتضي حرب الكفار حرباً متصلة ، من غير أن يثيروها هم عليه إلى أن يدخلوا في الإسلام ، والآيات صريحة في هذا الأمر ، ولكن آيات القرآن تتحدث دائماً عن الكفار ، الذين يجب إخضاعهم ، حديثها عن معتدين جاحدين» [293][12] . ورغم التناقض الواضح والعموميات التي أطلقها مكدونالد ، إلا أن رأيه أقرب إلى وصف أحداث معينة في مرحلة من تاريخ الإسلام ، من كونه تأسيساً لنظرية في الجهاد الإسلامي .

مناقشة نظريات الحرب والسلم في الإسلام

ستتركز هذ المناقشة على محورين أساسيين : الأول ، يتابع كيف ساهم الفقهاء القدماء بتطوير الفقه الإسلامي ، وكيف تكيفوا مع الظروف السائدة في عصرهم ، وكيف ناقشوا المشاكل ووجدوا حلولاً لها .

الثاني ، كيف واجه الفقهاء والعلماء المعاصرون التغيرات الحالية في النظام الدولي ، والتطورات السياسية والإجتماعية والثقافية في عالم اليوم .

تعتمد النظرية الكلاسيكية ، فيما يتعلق بالعلاقات مع غير المسلمين ، على أرضية تعتبر الحرب أساساً في التعامل ، وتتفرع بقية القضايا والنتائج من تلك النظرة . ويحتج الفقهاء والمفسرون بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية والأحداث التاريخية والفتوحات في العصر الإسلامي الأول . «لقد طوروا القانون الدولي الإسلامي باستخدام القياس والإجماع والإجتهاد في تفسير النصوص القرآنية ، إذا لم يكن من أجل اكتشاف أو استنباط أحكام جديدة . إن الحاجة لمزيد من التشريع ، كان يواجه الدولة الإسلامية التي أخذت تتسع بشكل متسارع ، وتواجه مشاكل وحالات جديدة بحاجة إلى حل . لذلك كان لابد من استخدام مصادر جديدة في القانون ، طالما أن الدولة مستمرة في علاقاتها مع العالم الخارجي» [294][1] .

خلال العصر الأموي والعباسي ، كانت الدولة الإسلامية تعاني من توتر مستمر في حدودها مع الدول الأخرى ، وقد تتطور أحياناً إلى حروب ومعارك ، وقد تبقى في حالة الهدوء الحذر . إن استمرار الحروب مع الدول والشعوب الأخرى قد سبب آثاراً إجتماعية وسياسية في المجتمع الإسلامي . كما أن الفقهاء قد تأثروا بتلك الأجواء العامة ، وهذا أمر طبيعي . ولما كان ذلك العصر عصر إجتهاد ، ونشاط فقهي كبير ، تأثر الفقهاء بتلك الظروف التي تمر بها الدولة ، والتي يغلب عليها طابع الحرب [295][2] . لقد ترك لنا الفقهاء الأوائل ، وخاصة في فترة العصر العباسي ، أعمالاً وكتابات عديدة حول القانون الدولي الإسلامي تستند ، أساساً ، على فكرة خلاص العالم وإنقاذه ، وأن الحرب الدينية هي واحدة من السبل التي يقرها الإسلام ويؤيدها القرآن ، لتصل إلى نتيجة إما اعتناق الإسلام أو دفع الجزية. ومن الطبيعي أن آراءهم قد تأثرت بمتطلبات المحيط السياسي ـ الإجتماعي وظروف تلك المرحلة الزمنية . وتم توارث تلك الآراء ، وبمرور الزمان ، حظيت بقدسية خاصة في أذهان الناس ، حتى اعتبرت لدى غالبية المسلمين ، أنها جزء موروث من الشريعة الإسلامية نفسها [296][3] . يضاف إلى ذلك أن التقسيم الثنائي للعالم الذي طرحه الفقهاء الأوائل ، اعتبر جزءاً من التشريع الإسلامي . وكان الكتّاب التقليديون يبذلون جهوداً لإيجاد تبريرات شرعية لذلك التقسيم ، دون مناقشته أو عرضه على القرآن الكريم . «من هنا يمكن القول أن النظرية الإسلامية الكلاسيكية هي انعكاس للظروف الإجتماعية  ـ  السياسية على طريقة تفكير فقهاء تلك المرحلة» [297][4].

إن نظرية العلاقات الخارجية في الإسلام إعتمدت على وقائع آنية معينة أكثر من اعتمادها على قواعد ومبادئ دينية . ويعلق أحد الباحثين على تأثير الفكر المحدود للفقهاء على الإسلام بقوله : «أنهم وضعوا الإسلام في ثوب ضيق ، بشكل لو قبلنا كل ما تضمنته ، وهذا لم يحدث ، لجعل إمكان تطور المجتمع الإسلامي أمراً مستحيلاً» [298][5]. «فقد أدرج الفقهاء العادات والتقاليد والأعراف السائدة في عصرهم داخل الشريعة والأحكام التشريعية . وكانت النتيجة أن أغلب الآيات التي استشهد بها الفقهاء المسلمون ، وتبعهم بعض المستشرقين ، لدعم نظريتهم ، قد تم عزلها عن أجوائها ، فجاءت مجتزأة من ظروفها . ليس ذلك فحسب ، بل أنهم لم يعتمدوا القواعد الأساسية في التفسير» [299][6].

يتمتع الفقه الإسلامي بمرونة مناسبة في إمكانية تقبل التطور الحديث ، فبعض القواعد الفقهية تسمح باستنباط أحكام جديدة لحل مشاكل معينة . وهناك أمثلة على قابلية التكيف و«تغيير الفتوى» في تاريخ الفقه الإسلامي ، فقد خصص إبن القيم الجوزية فصلاً في كتابه «أعلام الموقعين» سماه (تغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد) ، ذكر فيه بعض الوقائع المعينة وفتاوى الفقهاء بصددها ، متطرقاً إلى تأثير الزمان والمكان والظروف ، بل والأمور النفسية التي سماها(النيات) ، والسلوك الإجتماعي  [300][7] . ويرى الإمام الخميني أن «الزمان والمكان عنصران أساسيان في الإجتهاد . إذ بلحاظ العلاقات الحاكمة في السياسة والإجتماع والإقتصاد في أحد الأنظمة لعل حكماً جديداً يطرأ على مسألة ما ، كان حكمها السابق يختلف ، بمعنى أن الإحاطة الدقيقة بالعلاقات الإقتصادية والسياسية والإجتماعية جعلت نفس ذاك الموضوع  ـ بالظاهر ـ  موضوعاً جديداً فيستتبعه حتماً حكم جديد» [301][8] .

وقد ناقش السيد محمد باقر الصدر ، وهو مرجع ديني كبير في العراق ، التأثيرات على عملية الإجتهاد والفتوى والتفسير ، من خلال تسرب الذاتية إلى عملية الإجتهاد فاعتبرها خطرة على الإجتهاد مثل :

1 ـ تبرير الواقع ، حين يندفع الفقيه إلى تطوير النصوص ، وفهمها فهماً خاصاً يبرر الواقع الفاسد الذي يعيشه ، ويحاول أن يخضع النص للواقع بدلاً عن التفكير في تغيير الواقع على أساس النص .

2 ـ دمج النص ضمن إطار خاص ، أي دراسة النص في إطار فكري غير إسلامي . وهذا الإطار قد يكون منبثقاً عن الواقع المعاش ، وقد لا يكون . فيحاول الممارس أن يفهم النص ضمن ذلك الإطار المعين ، فإذا وجده لا ينسجم مع إطاره الفكري أهمله ، واجتازه إلى نصوص أخرى تواكب إطاره ، أو لا تصطدم به على أقل تقدير .

3 ـ تجريد الدليل الشرعي من ظروفه وشروطه ، وهو عملية تحديد للدليل دون مبرر موضوعي .

4 ـ إتخاذ موقف معين بصورة مسبقة تجاه النص ، ويتضمن الموقف الإتجاه النفسي للباحث ، فإن للإتجاه أثره الكبير على عملية فهم النصوص [302][9] .

 

المصلحة في الفقه الإسلامي

وتلعب بعض القواعد الفقهية دوراً هاماً في تطوير الفقه الإسلامي بصورة عامة وفيما يتعلق بالقانون الدولي الإسلامي بشكل خاص ، مثل المصلحة الإسلامية .

وقد استخدم الفقهاء القدماء قاعدة المصلحة عند عدم وجود نص قرآني أو حديث نبوي أو إجماع العلماء بصدد موضوع معين ، فيما إذا كان حلالاً أم حراماً . وقد أغنوا الأحكام الشرعية بمصدر آخر للشريعة الإسلامية . يقول إبن القيم الجوزية أن «الشريعة مبناها وأساسها على الحِكَم ومصالح العباد في المعاش والمعاد . وهي عدل كلها ، ورحمة كلها ، ومصالح كلها ، وحكمة كلها» [303][1]. وليست المصلحة أمراً عاماً يسوغ العمل به دون ضوابط ، لأن ذلك يؤدي إلى الإخلال بالأحكام التشريعية . وقد وضع الفقهاء شروطاً يجب إستيفاؤها قبل الإذن بالعمل بالمصلحة ، وهي :

1 ـ أن تكون منسجمة مع مقاصد الشرع ، غير معارضة لنص قطعي ولا لأصل من الأصول .

2 ـ أن تكون مستساغة من أهل العقل والرأي .

3 ـ أن يرفع بها مشقة واقعة أو حرجاً لازماً .

4 ـ أن تكون عامة للأمة وليست خاصة لأفراد معدودين [304][2] .

أما الفقهاء الشيعة فلم يعتبروا المصلحة واحدة من مباني الحكم ، لكن الكتب الفقهية الشيعية إستخدمت مفهوم المصلحة في أبواب الجهاد ، البيع ، المكاسب المحرمة ، والوقف ، الخراج ، الولاية على المحجورين وغيرها من الأبواب . يقول أحد الباحثين المعاصرين «ويمكن الإشارة على نحو كلي ، أنه في كل مورد طرحت فيه (الولاية) في أبواب الفقه ، طرحت إلى جوارها المصلحة التي ينظرها (الولي) . ومع ذلك لم يُعرض في أي مكان من الفقه الذي بين أيدينا لمصلحة المجتمع على مستوى القضايا الأساسية والواسعة . ولم يُبحث في كيفية إبتناء الحكم على تلك المصالح» [305][3].

ويؤيد الشيعة أهمية المصلحة في التشريع الإسلامي ، إذ يقول مرتضى المطهري «أن الأحكام الشرعية تابعة ومنبعثة من سلسلة من المصالح والمفاسد الواقعية ، أي أن كل أمر شرعي هو بعلة مصلحة لازمةِ الإستيفاء ، وكل نهي شرعي ناشئ عن مفسدة واجبة الإحتراز» [306][4]. ويتفق فقهاء الشيعة مع السنة في مفهوم المصلحة ، وإن كان بعضهم يسميها «منطقة الفراغ» ، حيث يستطيع الفقيه أو الحاكم الشرعي ملأها بالأحكام إذا لم يكن هناك نص شرعي بقضية معينة . يقول الشيخ محمد علي التسخيري :

«الإجتهاد المرتبط بعنصر (المرونة) الذي يتصف به النظام الإسلامي ، يجعله صالحاً للتطبيق في كل عصر وقطر ، وذلك لأنه إضافة إلى أنه يوفر ، باستمرار، وقوفاً دقيقاً على الأحكام الشرعية الإسلامية من مصادره الأصلية ، يوفر في بعض الأفراد القدرة المطلوبة على سد منطقة الفراغ التي تركها الإسلام مراعاة لتغير الظروف وتبدل العلاقة بين الإنسان والطبيعة ، أو حتى تعقد العلاقات الإنسانية فيما بين أفراد البشر أنفسهم . ومن هنا ، جاءت فكرة ولاية الفقيه العادل ، فقد سلمه الإسلام نتيجة فهمه وعدالته هذه المهمة الخطيرة ، أي مهمة ملء منطقة الفراغ التشريعي التي تركت ليملأها الفقيه الإمام على ضوء روح الدين الإسلامي والقواعد المشرعة والمصالح التي يعلم بها ، مشاوراً الإختصاصيين في كل جانب» [307][5].

خلال الفترة بين الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية ، حدثت تغييرات عميقة وسريعة في الدول الإسلامية من الناحيتين السياسية والتشريعية . فقد تحررت الدول الإسلامية من السلطة الإستعمارية المباشرة ، وحصلت على استقلالها ، وأخذت الحكومات الوطنية مهمة إدارة شؤون البلاد . وكانت أغلب الزعامات العربية والإسلامية التي تولت السلطة ذات توجهات غربية وليبرالية ، مما أدى إلى استمرار تطبيق القانون الغربي في شتى المجالات ، حتى أنه أصبح منافساً للشريعة الإسلامية وبديلاً لها في ظل الأنظمة السياسية التي اعتمدت الفصل بين الدين والدولة . وأخذت المفاهيم الغربية تتغلغل في التشريع الوطني للبلدان الإسلامية ، وخاصة فيما يتعلق بالقانون الدولي الإسلامي والشؤون الخارجية للدولة المسلمة ، وأخذت السلطات المحلية تتبنى القواعد والمفاهيم الغربية في سياستها وعلاقاتها الخارجية . وبذلك انحسرت المفاهيم الإسلامية التقليدية .

وأخذت الدول الإسلامية تنضم إلى المنظمات الدولية ، بعد أن حصلت على اعتراف دولي بسيادتها واستقلالها . كما أخذت تعقد وتدخل في معاهدات واتفاقيات دولية ، وتعلن عن احترامها والتزامها بالمبادئ والقوانين والأعراف الدولية . ولم تعد المفاهيم الغربية غريبة على معظم الفقهاء المسلمين . وأخذت المصطلحات الغربية تجد طريقها في الكتابات والمقالات والبيانات الإسلامية; مثل العلاقات السلمية مع الأمم والشعوب الأخرى ، الإمتناع عن استخدام القوة لحل النزاعات ، مفهوم التعايش السلمي مع غير المسلمين ، حقوق الإنسان ، حق تقرير المصير ، السيادة الوطنية ، الشخصية الدولية ، مبدأ عدم الإنحياز ، وفصل العقيدة الدينية عن العلاقات الخارجية .

تلك التغييرات خلقت جواً جعل من غير المناسب الإصرار على الأفكار التقليدية باستخدام العنف والحرب في العلاقات الخارجية أو الإرتباط بالمجتمع الدولي من خلالها . من جانب آخر ، فإن الإتهامات التي تطلق على الإسلام ووصمه بالوحشية والدموية ، قد حفزت العلماء والمفكرين الإسلاميين للدفاع عن الإسلام ، وإظهار عقائده وأحكامه بأنها أفكار حضارية ، وأن الإسلام يؤكد على العلاقات السلمية مع غير المسلمين . وقد اُلفت بذلك كتب ومقالات كثيرة تركز على الدفاع عن الإسلام وأنه يقبل المفاهيم الغربية في كثير من الجوانب السياسية والفكرية والإقتصادية والقانونية والإدارية . وقد تجذرت المفاهيم الغربية في المجتمعات الإسلامية باستمرار العلاقات القوية مع الغرب ، إقتصادياً وسياسياً . وشهدت معظم الدول الإسلامية تأسيس نظام سياسي علماني غربي ، في فصل الدين عن الدولة ، وإقصاء التشريع الإسلامي عن الحياة العامة ليبقى محصوراً في دائرة الأحوال الشخصية . وفي هذه المرحلة كان العديد من الفقهاء والمؤسسات الدينية تسعى لتكييف مواقفها مع مواقف وقرارات حكوماتها ونظامها العلماني . وقد بذل بعضهم جهوداً من أجل طرح مفاهيم ونظريات جديدة تتفق مع القانون الدولي الغربي ومتطلبات حكومات البلدان الإسلامية المتغيرة .

ولتقريب هذه الفكرة ، وتغير موقف المؤسسات الدينية حسب الظروف السياسية ، نضرب مثلاً بالموقف الإسلامي تجاه قضية فلسطين . فمنذ بداية المشكلة كان الرأي العام الإسلامي والمؤسسات الدينية والعلماء يتركز على رفض التنازل عن الأرض الفلسطينية ، وأن لا حل سوى الحرب والقتال . وكان يجري تعبئة الجماهير المسلمة من خلال مفهوم الجهاد الديني المقدس ، وتطهير الأرض الإسلامية من اليهود المحتلين المعتدين . ومن الأمثلة على ذلك الفتوى التي أصدرها مفتي الديار المصرية ، الشيخ حسنين محمد مخلوف في نيسان 1948 . فقد سئل أن يوضح موقف الإسلام فيما يتعلق بالتطوع بالنفس أو المال للإسهام في الكفاح في فلسطين فكانت إجابته :

(والجواب أن الجهاد بالنفس أو المال لإنقاذ فلسطين واجب شرعاً على القادرين من أهلها وأهل الدول الإسلامية ، التي تحاول الصهيونية اليهودية بقوة السلاح إقامة دولة يهودية بقطر من أعز اقطارها الإسلامية العربية وهو فلسطين ، لا لتملكها فحسب ، بل للسيطرة على دول الإسلام والقضاء على عروبتها وحضارتها الإسلامية . وقد تنوعت أساليب الحرب، غير أنه يجب الآن في الجهاد بالنفس ، أن يخضع المجاهد للنظم التي تضعها دول الجامعة العربية للجهاد حتى يتحقق النصر المأمول والله المستعان) [308][6].

واضح أن مضمون هذه الفتاوى سياسي إلى حد كبير ، إذ ان تطبيق حكم شرعي في ظرف معين ، يعتمد على التقييم السياسي لهذا الظرف ، ومن شأنه أن يؤدي إلى إجابات مختلفة . ورغم أن قضية إعلان الجهاد أمر ديني محض ، إلا أن الجانب السياسي في هذه الفتوى ظهر في الجملة الأخيرة ، إذ كانت موجهة ضد جماعات الإخوان المسلمين في مصر الذين كانوا يقومون بعمليات عسكرية في فلسطين دون الحصول على موافقة الحكومات العربية . وقبل صدور الفتوى المذكورة بعدة اشهر «كانت جماعة الإخوان المسلمين قد دعت إلى إنشاء كتائب لتحرير فلسطين ، ورفعت شعار الكفاح . وبالفعل فقد شكلت كتائب الجهاد حيث كانت تتدرب على الفنون العسكرية في معسكر يقع في الجبهة الجنوبية بفلسطين. ونادت صحيفة الجماعة بشن حرب دينية مقدسة ضد الصهيونية ، فيما كانت بعض الحركات الوطنية والشيوعية تؤيد قرار التقسيم (29/ 9/ 1947) وتعارض الدخول في الحرب من أجل فلسطين . وفي تشرين الأول 1947 أصدر حسن البنا أوامر لشعب الجماعة ببدء الإستعداد للجهاد . وفي 20/ 10 /1947 توجهت الكتيبة الأولى إلى الميدان» [309][7]. ولم تكن الحكومات العربية راغبة في دخول الحرب أصلاً ، وأرادت منع أية حركة جماهيرية من التدخل بهذا الأمر ، فأريد بتلك الفتوى سلب الشرعية من أي تحرك عسكري خارج إطار الجامعة العربية ، أي الحكومات العربية .

ومنذ ذلك الحين وحتى عام 1979 ، كانت الأدبيات الإسلامية والفتاوى الفقهية المتعلقة بقضية فلسطين تركز على أهمية الجهاد ضد إسرائيل ، وأنه واجب ديني مقدس . ففي تشرين الأول 1977 أصدر مؤتمر (مجمع البحوث الإسلامية) ، المنعقد في القاهرة ، بياناً جاء فيه أن الجهاد ضد إسرائيل قد أصبح فرض عين على المسلمين جميعاً تحقيقاً لأهداف الشعب الفلسطيني ، أي القضاء على إسرائيل وإنشاء دولة فلسطينية مستقلة عليها [310][8] . وبعد زيارة الرئيس السادات لإسرائيل وعقد معاهدة (كامب ديفيد) بين مصر وإسرائيل عام 1979 ، أصدر شيخ الأزهر ، الشيخ جاد الحق علي جاد الحق ، فتوى تضمنت إضفاء الشرعية على معاهدة كامب ديفيد [311][9] . وكانت حجة علماء الدين الرسميين ، الذين تصدوا للرد على نقد علماء الإسلام في البلدان الإسلامية الأخرى ، تقول أن الحاكم أو الإمام له الحق أن يعقد هدنة مع العدو كلما رأى ذلك في صالح المسلمين . وإعتمدوا على النص القرآني في قوله تعالى (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها) (الأنفال : 61) ، وعلى السيرة النبوية من أن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) عقد معاهدة الحديبية مع كفار مكة [312][10] .

وفي الوقت الذي يعتقد فيه أغلب الفقهاء بأصالة العلاقة السلمية بين الإسلام والعالم الخارجي ، ينزع البعض إلى أصل الحرب في العلاقات الدولية. تلك النظرة ، وكما عرضنا ذلك من قبل ، نشأت في ظروف سياسية وفكرية معينة ، ضمن مرحلة تاريخية معينة ، شكل فيها الطابع العسكري للدولة الإسلامية أبرز مظاهرها العامة فكان له أثر كبير على النواحي الأيديولوجية والإجتماعية والفقهية . ولا يمكن ، وفقاً لتلك النظرية ، التعامل مع العلاقات الدولية والمجتمع الدولي في العصر الراهن . إذ أنه من المستحيل إقامة علاقة مع الدول والشعوب في الوقت الذي تريد تدمير تلك الدول والحكومات ، على الأقل هذا ما تفكر هي به . وما تزال هذه النزعة موجودة بين بعض الحركات الإسلامية والقادة الدينيين ، الذين يواجهون القمع الحكومي المنظم من قبل حكومات الدول الإسلامية التي يعيشون فيها . فهذه الأنظمة السياسية القائمة تتعامل معهم بالعنف والإرهاب والإضطهاد الفكري والسياسي ، والنفي والتعذيب الجسدي ، والإعتقالات والإغتيالات ، وإصدار قرارات تحظر النشاطات الإسلامية السياسية بأي وجه ، وتمنع تشكيل أحزاب سياسية ذات صبغة دينية ، حتى في الدول المسلمة التي ترفع شعارات الديمقراطية . ومن الطبيعي أن تنعكس هذا العلاقة المرة على الموقف من الأنظمة القائمة ومن الدول الغربية التي تساندها وتؤيدها وتدعمها بالسلاح والمال والخبرة .

وهناك بعض الزعماء الدينيين ممن عاصروا عهود الإستعمار ومرحلة التصدي للإحتلال الأجنبي ، وما فعلته الجيوش الغربية المحتلة بالبلاد والشعوب الإسلامية . فلم يكن هناك فصل بين شعارات ومفاهيم مرحلة الكفاح ومواجهة الإستعمار ، وبين مرحلة مواجهة الأنظمة السياسية التي ورثتها في الحكم . وبقي الجهاد يشكل محور المواجهة في كلا المرحلتين ، من أجل تعبئة الجماهير المسلمة للمشاركة في الكفاح المقدس . كما أن طبيعة الأمور لم تتغير كثيراً ، على الأقل من وجهة نظرهم ، بين إدارات الإستعمار المباشر وبين الحكومات والأنظمة التي خلفته ، والمتهمة بالتبعية والعمالة الفكرية والسياسية والإقتصادية .

وكي لا يكون السلم هو وحده محور العلاقة مع الآخرين في المرحلة الراهنة ، متأثرين بأجواء الضعف والتخلف التي يمر بها المسلمون حالياً ، فيكون تكراراً للتأثر بالوضع العام الذي تأثر به الفقهاء القدماء في عصر الفتوحات ، أقول أن الإسلام نظام متكامل ، وتشريع يتضمن كل ما يحتاجه المجتمع الإسلامي والدولة الإسلامية ، ويتضمن أحكاماً تنظم شؤون السلم والحرب ، والعلاقات مع غير المسلمين . وإنه من غير المنطقي ولا العلمي النظر للإسلام من جانب واحد أو بعد معين ، بل يجب أن يُنظر للإسلام كوحدة واحدة متكاملة ، دون تفريق بين أحكامه أو مفاهيمه أو تشريعاته . وكما أن القانون الدولي ينظم قضايا وشؤوناً كثيرة في العلاقات الدولية والمعاهدات الدولية وقضايا السلم والأسرى والجرحى والمدنيين والأراضي المحتلة ، ينظم كذلك شؤون الحرب وإعلان الحرب والتعويضات وقصف الأهداف المدنية وغيرها . فإذا كان من الخطأ القول أن القانون الدولي هو قانون عنف وحرب لأنه يتطرق لقضايا الحرب ، فإنه من باب أولى عدم اتهام الإسلام جزافاً بالعنف والقسوة . هذا إذا كان الطرف يتسم بالموضوعية والمنهج العلمي السليم .

إن الإسلام يولي عناية كبيرة للعلاقات السلمية مع غير المسلمين ، فالرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)عقد اتفاقيات سلمية مع النصارى واليهود والمشركين . لقد عقد العديد من المعاهدات السلمية في ظروف متفاوتة ، في حالات الضعف والقوة [313][11] . لقد كان الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)يتعامل بواقعية وموضوعية مع الأحداث والظروف ، فإذا فرضت عليه القتال ، قاتل متجنباً الإسراف فيه . وكان(صلى الله عليه وآله وسلم) يعقد الإتفاقيات السلمية ويحرص عليها متجنباً سفك الدماء ، وخدمة لأهداف الدعوة الإسلامية والدولة الناشئة . وسار خلفاؤه قدماً في العمليات العسكرية والفتوحات والتوسع الجغرافي بشكل سريع . ولم تكن الفتوحات الإسلامية كلها لأغراض دعوية أو إسلامية بريئة ، بل خالطتها أهداف ودوافع وأطماع دنيوية [314][12] .

المعاهدات السلمية مع الدول غير الاسلامية

عرف الإسلام المعاهدات السلمية في السنوات الأولى من تأسيس الدولة الإسلامية الجديدة في المدينة ، إذ عقد الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) إتفاقيات سلمية مع الجماعات غير الإسلامية. وقد اعتبرت معاهدة الحديبية قدوة ومثالاً لدى الخلفاء والفقهاء عند عقد الإتفاقيات ، وإجراء المفاوضات ، ومدة المعاهدات السلمية مع غير المسلمين . عقدت معاهدة الحديبية بين الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) ومشركي مكة ، قريش ، في عام (6 هـ /627 م) ، وكانت مواد المعاهدة تتضمن ضماناً من كلا الطرفين بعدم مهاجمة الطرف الآخر . فرسخت الأمن والسلام الذي كان الطرفان بحاجة إليه ، بعد أن شهدت الجزيرة العربية صراعاً عنيفاً وحروباً ومعارك ضارية بين المسلمين والمشركين .

وكان الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) قد عقد معاهدات أخرى مع اليهود والمسيحيين ، سواء المقيمين داخل الجزيرة العربية أو خارجها ، وخارج حدود دولة المدينة . فقد عقد(صلى الله عليه وآله وسلم) إتفاقية سلمية مع نصارى نجران عام (10 هـ/ 631م) ، ومع يهود فدك وآيلة وتيماء [315][1] ، ومع بني صخر من كنانة [316][2] . وكانت تلك الإتفاقيات تضمن لهم حكماً إدارياً ذاتياً وإستقلالاً عن دولة المدينة . لقد كان بإمكانهم الإستمرار بتطبيق قوانينهم على أراضيهم . ولم تكن الجزية إلزامية في كل الإنفاقيات والمعاهدات مع أهل الكتاب ، ففي معاهدة المدينة بين الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) ويهود المدينة وأطرافها ، وهي أول معاهدة سلمية للدولة الإسلامية ، لم تتضمن دفع جزية ، بل يمكن إعتبارها «معاهدة صداقة» ، وبروتوكولاً ينظم العلاقة والصلاحيات والإمتيازات الممنوحة لليهود داخل الدولة الإسلامية . وكان من شأنها ترسيخ الأمن والسلام ، إذ لم يسبقها عداء أو حرب مع اليهود ، لولا نكث اليهود لها فيما بعد [317][3] .

كما أن المعاهدة التي عقدها الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) مع بني ضمرة لم تتضمن دفع جزية ، بل اقتصرت على نصرة الطرفين أحدهما للآخر ، وعدم مهاجمته [318][4] . وعقدت نفس المعاهدة مع بني غفار ، وبالشروط نفسها [319][5]. أما العلاقات السلمية مع الحبشة ، الدولة المسيحية ، فقد استمرت قروناً دون معاهدة مكتوبة . ففي العهد المبكر للإسلام ، هاجر إلى الحبشة حوالي 80 صحابياً هرباً من تعذيب قريش لهم وبحثاً عن ملجأ آمن ، حيث أمضوا هناك سنوات . فكان موقف المسلمين هو الشكر والعرفان بالجميل ، حتى أنهم اعتبروا الحبشة مصونة عن الجهاد والفتوحات العسكرية ، فلم يتعرضوا لها ، حتى في أوج قوة الدولة الإسلامية في العصر العباسي . ويعود ذلك إلى موقف الطرفين السلمي ، ففي حين امتنع المسلمون عن مهاجمة الحبشة إستجابة لحديث ينسب للرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)مضمونه : لا تهاجموا الحبشة ما دامت لم تهاجمكم . من ناحية أخرى ، إعتمدت الحبشة سياسة سلمية ، فلم تفكر بمهاجمة الدولة الإسلامية ، رغم أنها لديها خبرة في ذلك ، إذ كانت تحتل اليمن لقرون متطاولة قبل الإسلام ، وأسست فيها حكومة حبشية مسيحية . وحاول إبرهة الحبشي مهاجمة مكة عام 570 م سعياً لتهديم الكعبة المقدسة . وبقيت تلك الحادثة التاريخية ماثلة في أذهان العرب ، حتى سمي ذلك العام بعام الفيل .

وقد عقد الخلفاء المسلمون بعد النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) معاهدات سلمية رغم أن الطابع العام لتلك المرحلة إتسم بالعنف والفتوحات . فقد عقد حاكم مصر ، عبدالله بن سعد بن ابي سرح ، في عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان ، معاهدة سلمية مع أهل النوبة (السودان) تضمنت إقرار السلم بعد معركة طاحنة «فسألوه الصلح والموادعة ، فأجابهم إلى ذلك على غير جزية ، لكن على هدية ثلاثمائة رأس في كل سنة ، وعلى أن يهدي المسلمون إليهم طعاماً بقدر ذلك» [320][6]. وبقيت تلك المعاهدة سارية المفعول ، يحترمها الطرفان ، لمدة 600 عام ، حتى وصول الحكم الفاطمي في مصر (969  ـ  1172 م). فإذا كان سبب قبولها عجز المسلمين عن فتح بلاد النوبة ، فإن استمرارها رغم وصول المسلمين إلى درجة القوة أكبر دليل على اعتقادهم بمشروعيتها ، وعلى أن السلام يمكن أن يقع بين المسلمين والكافرين بدون اشتراط الجزية إذا التزم الكافرون بعدم الإعانة ضد المسلمين وبعدم التعرض للدعوة الإسلامية [321][7] .

وفي عام (28 هـ/ 648 م) عقد المسلمون معاهدة سلمية مع سكان جزيرة قبرص ، والذين لم يدفعوا الجزية ، ولم يعتبروا من أهل الذمة . فكانوا يؤدون خراجاً قدره 7200 دينار سنوياً ، ثم نقضوا العهد لمساعدتهم الروم ضد المسلمين ، فغزاهم معاوية عام (33 هـ/ 654 م) ففتح الجزيرة وأقرهم على الشروط السابقة . ولما تولى عبد الملك بن صالح ولاية قبرص ، قام بعض أهلها بالثورة عليه ، فاستشار عبد الملك الفقهاء في شأن إلغاء معاهدتهم لنكثهم العهد ، فأشار عليه أكثر الفقهاء  ـ  ومنهم الإمام مالك ـ  بالإبقاء على العهد والكف عنهم . وعلل موسى بن عيين ذلك بأن أهل قبرص ليسوا أهل ذمة ولو كانوا يدفعون خراجاً إلى المسلمين . وهكذا بقيت قبرص على شروط الصلح رغم نقضها العهد ، ولم يلزم أهلها بعقد الذمة وبدفع الجزية لمصلحة قدرها المسلمون [322][8] .

وفي عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب ، عقد المسلمون معاهدة صلح مع الجراجمة ، وهم قوم غير مسلمين ، كانوا يسكنون جبل اللكام على الحدود بين بيزنطة والدولة الإسلامية . وكانوا يعيشون شبه مستقلين ، مع إستعداد مسبق لخدمة الإمبراطورية البيزنطية . وقد تضمنت الإتفاقية المعقودة معهم «على أن يكونوا أعواناً للمسلمين ، وعيوناً (جواسيس) ومسالح (دوريات عسكرية) في جبل اللكام . وأن لا يؤخذوا بالجزية (لايدفعوا الجزية) ، وأن ينفلوا (يُعطوا) أسلاب (غنائم) من يقتلون من عدو المسلمين ، إذا حضروا معهم حرباً في مغازيهم» [323][9]. لقد كان الجراجمة يمثلون خطراً جدياً دفع الخليفة الأموي الأول معاوية على دفع جزية لهم لتفادي شرهم [324][10] .

وفي سنة (59 هـ/ 679 م) ، خسر معاوية معركة بحرية مع الروم البيزنطيين ، إضطر بعدها معاوية للتصالح مع بيزنطة ودفع مبلغ 3 آلاف قطعة ذهبية سنوياً مع خمسين عبداً وخمسين جواداً [325][11] .

وفي العصر العباسي عقد المسلمون العديد من المعاهدات السلمية مع الدول المسيحية مثل بيزنطة وفرنسا وروما . وكانت عواصم تلك الإمبراطوريات تشهد حضوراً متواصلاً للمبعوثين والسفراء المسلمين ، كما استقبلت الحواضر الإسلامية كقرطبة والقاهرة وبغداد سفارات مسيحية مماثلة . وقد وصلت العلاقات السلمية مع أوربا ، أحياناً ، إلى درجة عقد أحلاف سياسية ـ عسكرية مع الأباطرة المسيحيين . ففي عام 197هـ/ 812م ، وقع الخليفة الأموي في اسبانيا ، الحاكم ، إتفاقية مع شارلمان ملك فرنسا . وكان للأخير علاقات وثيقة مع هارون الرشيد [326][12] .

مدة المعاهدة السلمية

تفترض النظرية الإسلامية التقليدية ، فيما يتعلق بالمعاهدات السلمية ، أنه لا يجوز عقدها مع الكفار . وإذا ما عقدت تحت ظروف طارئة فلا يجب أن تتجاوز العشر سنوات . وهذا التقييد مأخوذ من المعاهدة النموذجية أي الحديبية التي كان أمدها عشر سنوات . وقد اعتبر الفقهاء ، وخاصة في العصر العباسي ، أن هذه هي المدة الشرعية التي لا يجوز تجاوزها . فالمذهب الشافعي يرى أنه لا يجوز أن تتجاوز المعاهدة السلمية مع العدو فترة عشر سنوات . أما أتباع المذهب الحنفي فيقولون أن معاهدة الحديبية لم تستمر عشر سنوات ، ولذلك لا يجوز عقد معاهدة سلم أكثر من ثلاث أو أربع سنوات [327][1] .

والسؤال الذي يطرح هنا هو : هل أن الشريعة الإسلامية تسمح بعقد معاهدات سلمية دائمية مع الدول غير الإسلامية ؟ وهل أن القرآن والسنة يقيدان مثل تلك المعاهدات بفترة محدودة ؟ وإذا ما تغاضينا عن آراء بعض الفقهاء المتشددين الذين يقولون «بعدم إمكانية عقد معاهدات سلمية دائمية مع غير المسلمين» [328][2] ، فإننا يجب أن نثبت أولاً هل أن الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) عقد معاهدات سلمية دائمية مع غير المسلمين أم لا ؟

إن القرآن الكريم لا يقيد مدة المعاهدات مع غير المسلمين ، حيث يقول تعالى (فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم)(التوبة :4) ، فالآية الكريمة لا تقيد المدة بل هناك إطلاق (إلى مدتهم) فلم تحدد المدة ، فلو افترضنا أن المدة كانت طويلة ، فكان من اللازم إحترامها طالما أنهم (لم ينقصوكم شيئاً ولم يظاهروا عليكم أحداً). ويؤيد العلامة السيد محمد حسين فضل الله عدم تقييد المعاهدات السلمية مع غير المسلمين ، إذ ينتقد الفكرة السائدة المتأثرة بصلح الحديبية فيقول:

«إن الوقت الذي يعينه النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) للحرب والسلام ، أو الفعل الذي يمارسه مما يحتمل أكثر من وجه لا يمثل الصيغة الشرعية النهائية ، بل يمثل الفعل الذي يخضع للمصلحة الآنية في طبيعته ووقته ، من دون أن يكون ملزماً للمسلمين إلا فيما يدل عليه من مبادئ عامة .. ولذلك قال الأصوليون والفقهاء أن الفعل مجمل لا يدل على أكثر من الإباحة ... وعلى ضوء ذلك فإننا لا نجد مانعاً شرعياً من أن يأخذ المسلمون بالطريقة الحديثة التي تتبعها الدول المختلفة في أفكارها وأنظمتها ، في نظام المعاهدات والمهادنات ، التي قد تمتد زمناً طويلاً .. وقد تنقطع لظروف طارئة .. تبعاً للمصالح الإقليمية أو الدولية التي يفرضها الواقع السياسي العام . فإذا اقتضت المصلحة الإسلامية العليا السير مع هذه الطريقة ، كان للمسلمين أن ينسجموا معها » [329][3].

ويتفق الشيخ محمود شلتوت مع عدم تقييد المعاهدات السلمية مع غير المسلمين إذ يقول أن المعاهدة التي عقدها الرسول مع نصارى نجران كانت صلحاً دائماً ، كما أن معاهدته(صلى الله عليه وآله وسلم) مع يهود المدينة كانت دائمية أيضاً [330][4] . وقد تضمن كتاب الصلح مع أهل نجران عبارة تفيد أنه دائمي ، إذ جاء فيه (ولهم على ما في هذه الصحيفة جوار الله وذمة محمد النبي أبداً) [331][5] .

وكان عهد النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لبني ضمرة الذي أعطاهم إياه عام (2 هـ/ 623م) معاهدة سلمية دائمية ، إذ تضمن تعبيراً عربياً هو (ما بل بحر صوفة) ، وهو تعبير عن الديمومة والإستمرارية ، طالما أن خاصية البلل باقية في ماء البحر . أما نص الكتاب فهو :

بسم الله الرحمن الرحيم

هذا كتاب من محمد رسول الله لبني ضمرة ، بأنهم آمنون على أموالهم وأنفسهم ، وأن لهم النصرة على من رامهم ، إلا أن يحاربوا في دين الله ، ما بل بحر صوفة ، وأن النبي إذا دعاهم لنصره أجابوه ، عليهم بذلك ذمة الله وذمة نبيه  [332][6] .

وهناك عهد مشابه أعطاه(صلى الله عليه وآله وسلم) لبني غفار عام (7هـ/628م) حيث تضمن نفس العبارة المذكورة [333][7] . وكان استخدام مثل تلك العبارات شائعاً في تلك العصور ، فالروم البيزنطيون كانوا يستخدمون عبارات (طالما الشمس مشرقة والدنيا باقية) أو (طالما تشرق الشمس والدنيا باقية من الآن فصاعدا) في اتفاقياتهم ومعاهداتهم [334][8].

وينكر بعض الفقهاء إمكانية عقد معاهدات سلم دائمية ، «إذ قرر السرخسي في شرح السير الكبير أن الصلح الدائم لا يجوز ، لأن صلح النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في الحديبية كان صلحاً مؤقتاً» [335][9]. ورأى القلقشندي «أن لا تزيد مدة الهدنة عن أربعة أشهر عند قوة المسلمين وأمنهم ، ولا يجوز أن تبلغ سنة بحال . ويقول الشافعي : أما إذا كان في المسلمين ضعف ، وهناك خوف ، فإنه تجوز المهادنة إلى عشر سنين» [336][10].

ويعلق الشيخ محمد أبو زهرة على آراء أولئك الفقهاء بقوله «وفي الحق أن الذين قالوا أن الأصل في العلاقة بين المسلمين وغيرهم هو السلم أجازوا الصلح الدائم ، لأنه رجوع للأصل ، واعتبرت الحرب حالة عارضة . والذين تأثروا بالأمر الواقع تأثروا به أيضاً في الصلح ، فقرروا أن الصلح لا يكون دائماً ، لأنهم رأوا العلاقة حرباً مستمرة ، وما كانوا يفتون إلا فيما يقع ، ولا يضعون إلا للاُمور الواقعة ، وظنوا أن الصلح الدائم نوع من الوهن ، والوهن ممنوع ، واحتجوا بقوله تعالى (ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين)» [337][11].

بعد وفاة الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) ، كان المسلمون يعقدون بإستمرار إتفاقيات سلمية مع غير المسلمين لمدد زادت عن عشر سنوات وحتى دائمية . ففي عام (59 هـ/679 م) عقد معاوية بن أبي سفيان معاهدة سلمية مع الروم لمدة 30 عاماً [338][12]. وبتاريخ 13 ربيع الآخر689هـ المصادف 23 آذار 1289م، عقدت إتفاقية سلمية بين ملك أراغون ، دون الفونسو، وحاكم مصر السلطان أبي الفتح قلاوون ، جاء في مقدمتها (إستقرار المودة والصداقة من التاريخ المقدم ذكره على ممر السنين والأعوام ، وتعاقب الليالي والأيام) [339][13]. كما عقدت بتاريخ 9 صفر سنة 692 هـ الموافق 28 كانون الثاني 1292 م إتفاقية بين ملك أراغون ، خايمي الثاني والسلطان قلاوون أيضاً تضمن المدة التالية (إستقرار المودة والصداقة بين الفريقين بصفة دائمة ، لا تنقض بموت أحد المتعاقدين أو عزله) [340][14]. ونصت معاهدة 1535م المعقودة بين الدولة العثمانية وفرنسا على أن تسري المعاهدة (طوال حياة الموقعين عليها) [341][15] . أما الإمتياز الممنوح لفرنسا عام 1740 فقد نص على أنه (ساري المفعول طوال حياة السلطان العثماني الذي منحه) [342][16] .

تطور المعاهدات السلمية بين المسلمين وأوربا

على الرغم من أن النظرية الإسلامية الكلاسيكية ، المتعلقة بالعلاقات الخارجية ، لا تحبذ إقامة علاقات سلمية مع الدول غير الإسلامية ، إلا أن المسلمين ، عبر القرون ، وجدوا أنفسهم بحاجة إلى تنظيم علاقاتهم واتصالاتهم بالشعوب والأمم الأخرى . لقد كانت هناك أسباب كثيرة تجعل من الضروري إنشاء علاقات مع الآخرين ، فالتجارة الخارجية كانت تحتل المركز الأول في النشاط الإقتصادي للدول آنذاك . وكانت الدولة الإسلامية بحاجة دوماً إلى استمرار عمليات التصدير والإستيراد لمختلف البضائع والمحصولات ، كالأغذية والعطور والأنسجة والأواني والسلاح والعبيد والخيل والمواد الخام وغيرها مما يهم الحياة الإقتصادية والإجتماعية . وكان من اللازم إرساء السلم والإستقرار مع الدول الأخرى لإستيفاء ذلك الغرض ، أي التجارة . وحتى أثناء الحروب ، كان الخصوم بحاجة إلى هدنة ووقف إطلاق النار من اجل تهئية الأجواء المناسبة للمفاوضات التي قد تؤدي إلى توقيع إتفاقية سلمية أو تبادل أسرى أو دفع جزية أو تعويضات . وكان أغلب الحكام المسلمين ، سعياً منهم لحفظ مصالحهم الخاصة ، يخرقون الأحكام الإسلامية أو القواعد العرفية . فكانوا على الدوام ينتهجون سياسة إنتهازية أكثر من حرصهم على اتباع الشريعة الإسلامية . فقد عقدوا إتفاقيات وأحلافاً سياسية وعسكرية مع الكفار ، وحتى مع الصليبيين [343][1] .

على مر العصور ، سعت الدول الإسلامية إلى تقوية علاقاتها بالدول الأوربية ، بسبب تعقد المصالح المشتركة ومتطلبات الظروف السياسية والإقتصادية في المجتمع الدولي . فعقدت العديد من الإتفاقيات التي تعالج مختلف القضايا والمشاكل . وهذه الإتفاقيات وغيرها أثرت على القانون الدولي الإسلامي بشكل مباشر أو غير مباشر . ولغرض إلقاء الضوء على طبيعة المعاهدات والإتفاقيات المعقودة في العصور الوسطى رأيت أن أعرض إحداها ، وهي الإتفاقية التي عقدت بين مصر المملوكية ومملكة أراغون الإسبانية في القرن الثالث عشر . وقد عقدت هذه المعاهدة عام 1292 بعد مفاوضات قام بها سفيران من برشلونة يحملان تفويضاً من خايمي الثاني ملك أراغون بعقد إتفاقية سلمية . وقد تضمنت المعاهدة طائفة كبيرة من النصوص السياسية والتجارية . أما النصوص السياسية فيمكن تلخيصها في المواد التالية :

1 ـ (العلاقات الودية) إستقرار المودة والصداقة بين الفريقين بصفة دائمة ، لا تنقض بموت أحد المتعاقدين أو عزله ، وأن تكون سائر بلاد السلطان في البر والبحر وما قد يفتحه من البلاد ، آمنة هي ومن فيها من الرعايا في الأنفس والأموال ، من جانب الملك خايمي وأخويه وصهريه وأولادهم وفرسانهم وجنودهم ، كما أن بلاد الملك خايمي وزملائه وهي تشمل ، عدا شبه الجزيرة الإسبانية ، ميورقة وصقلية وقورسقة وما قد يفتحه من البلاد ، تكون آمنة ومن بها من الرعايا في الأنفس والأموال في البر والبحر ، من جانب الملك الأشرف وأولاده وجيوشه .

2 ـ (حلف عسكري) وأن يكون الملك خايمي وزملاؤه أصدقاء لمن يصادقه الملك الأشرف وأولاده وأعداء لمن يعاديهم . وإذا حاول البابا أو أحد من الملوك الفرنج الإعتداء على بلاده ، فإن خايمي وزملاءه يحاولون منعه بشوانيهم وجيوشهم . وكذلك يتعهدون بألا يساعدوا بأية صورة من يحاول محاربة السلطان من ملوك الفرنج او التتار أو غيرهم . وعليهم أن يخطروا الملك الأشرف بنياتهم العدوانية متى وقفوا عليها .

3 ـ (صيانة السفن) وأنه متى انكسرت مركب من المراكب الإسلامية في أحد الموانئ الإسبانية ، فإنها تخفر وتحرس أموالها ، ثم تصلح وتجهز إلى بلاد الملك الأشرف ، وكذلك إذا انكسرت مركب من مراكب الطرف الآخر في موانئ الملك الأشرف فإنها تعامل بمثل هذه المعاملة .

4 ـ (حماية البريد) وأنه متى مر رسل الملك الأشرف في الأراضي الإسبانية صادرين أو واردين ، أو رماهم الريح ، فإنهم يكونون آمنين على أنفسهم وأموالهم .

5 ـ (سياحة) وأنه متى قصد أحد من رعايا الملك خايمي وزملائه أو رعايا معاهديه زيارة بيت المقدس ، ومعه كتاب بخاتمه إلى نائب السلطان ، فإنه يفسح له في الزيارة ، ويعود إلى بلده آمناً في نفسه وماله ، رجلاً كان أو إمرأة . ولا يمنح الملك خايمي مثل هذا التصريح لأحد من أعدائه أو أعداء الملك الأشرف .

6 ـ (الأسرى) وإذا حمل أحد من الأسرى المسلمين في البر أو البحر إلى بلاد إسبانيا ليباع فيها ، فإنه يطلق سراحه ، ويرسل إلى بلاد الملك الأشرف .

أما النصوص التجارية ، فقد تضمنت :

1 ـ أنه متى توفي أحد من التجار المسلمين أو النصارى من رعايا الملك الأشرف في البلاد الإسبانية ، تحمل أمواله وبضائعه دون معارضة إلى بلاد السلطان . وكذلك الشأن فيما إذا مات أحد من الرعايا الإسبان في بلدان السلطان .

2 ـ وعلى ان يسمح الملك خايمي وزملاؤه لرعاياهم بأن يحملوا إلى الثغور الإسلامية البضائع من الحديد والبياض والخشب وغيرها .

3 ـ وعلى أنه متى وقعت معاملة بين التجار المسلمين والإسبان وهم في بلاد السلطان فإنه يقضى فيها وفقاً لأحكام الشريعة .

4 ـ وأنه إذا ركب أحد من التجار المسلمين في مركب إسبانية ومعه بضاعته فإذا فقدت هذه البضاعة ، وجب على الملك خايمي ردها أو دفع ثمنها .

5 ـ وإذا هرب أحد من رعايا السلطان إلى إسبانيا ومعه بضاعة لغيره وأقام هناك ، فإنه يجب رد الهارب أو المقيم ببضاعة غيره ومعه هذه البضاعة إلى بلاد السلطان .

6 ـ أن يؤدي الملك خايمي وزملاؤه عند ورودهم إلى الموانئ المصرية أو صدورهم منها عن البضائع والمتاجر على اختلافها ، سائر الحقوق والمكوس المفروضة وقت عقد هذه المعاهدة ولا تزاد عليهم . وكذلك الشأن فيما يتعلق برعايا السلطان القاصدين إلى الثغور الإسبانية [344][2] .

وكانت المعاهدات تكتب بنسختين ، باللغتين العربية والأوربية ، وتختم بأختام الملوك والسلاطين وأولياء العهد وفق مراسم خاصة . وترفق بها نسخ من اليمين الذي يحلف به كل طرف ضماناً لاحترام بنودها وتعزيزاً للثقة بين الطرفين . فقد جاء في القسم الذي أداه السلطان قلاوون ما يلي :

(أقول  ـ  وأنا قلاوون بن عبدالله الصالحي ـ  والله والله والله وحق دين الإسلام ، وحق القرآن العظيم الذي يعتقده المسلمون أن هذا الصلح والصداقة الذي تقرر بيني وبين الملك الريدراغون لا أغيره ولا أخرج عنه ما دام الملك الريدراغون وافياً باليمين يُحلِفهُ رسلي بها هو وإخوته ، عن نفسي وعن أولادي وعن أهل بلادي جميعهم . والله على ما أقول وكيل) [345][3].

كما تضمنت المعاهدة القسم الذي أداه ولي عهد السلطان ، خليل بن قلاوون .

أما ملك أراغون فقد كان قسمه بالشكل التالي :

(أقول  ـ  وأنا دوفنش (دون الفونسو) ـ  والله والله والله ، وحق الصليب وحق المسيح وحق الست مارية  ـ  أم النور ـ  وحق الأناجيل الأربعة التي نقلها متى ومرقص ولوقا ويوحنا ، وحق الصوت الذي نزل على نهر الأردن فزجره ، وحق ديني ومعبودي واعتقادي ، أنني من وقتي هذا وساعتي هذه ، وما مد الله في عمري قد أخلصت نيتي ولاقيت سريرتي وساويت بين ظاهري وباطني في مصادقة مولانا السلطان الملك المنصور سيف الدنيا والدين ... وإنني والله العظيم أحفظ رعية بلاد المسلمين كلهم في بلادي وأتوصى بهم وأفعل معهم بشروط المهادنة المذكورة . ومتى خالفت شرطاً منها فأكون محروماً من ديني ، مخالفاً لإعتقادي واعتقاد أهل ملتي . واليمين يميني أنا ، والنية فيها نية مولانا السلطان الملك المنصور وولده الملك الأشرف ، ونية أولاد الملوك ونية مستحلفي لهم بها . والإله على ما أقول وكيل) [346][4].

ومن خلال المعاهدات والإتفاقيات التي عقدت بين الدول الإسلامية والدول الأوربية تسربت العديد من المفاهيم والأعراف الدولية إلى النظام التشريعي الإسلامي . ولغرض تقييم ذلك التأثير ، سأحاول متابعة تطور المعاهدات السلمية بين المسلمين وأوربا من خلال نظام الإمتيازات الغربية في العالم الإسلامي ، والتي تمثل إلى حد ما ، التأثير الغربي الكبير على التشريع الإسلامي الداخلي بصورة عامة والقانون الدولي الإسلامي بصورة خاصة ، والأخير هو الذي يتعلق بهذه الدراسة 

تأثير الإمتيازات الغربية على القانون الدولي الإسلامي

سميت الإمتيازات التجارية الممنوحة من قبل الدول الإسلامية إلى الدول الأوربية المسيحية بنظام الإمتيازات Capitulations، التي تسمح بالتجارة بما يعرف داخل أراضي العدو . واشتهرت الدولة العثمانية والدولة الصفوية ومصر بمنح الإمتيازات الأجنبية . وقد أرست الإمتيازات سلسلة من النظم والأعراف تتعلق بشؤون الجمارك وتأمين حماية الأجانب وممتلكاتهم وحرية ممارسة شعائر دينهم . كما أسست قواعد في التعامل مع المشاكل والنزاعات القانونية . ولأن ميزان القوى كان لصالح أوربا دائماً ، فقد استخدمت الدول الغربية نظام الإمتيازات للحصول على مكاسب وأوضاع دولية لأتباعها ورعاياها في البلدان الإسلامية [347][1] .

لقد استندت الإمتيازات على قاعدة إسلامية هي «الأمان» ، الذي تمنحه الدولة الإسلامية للمواطنين من رعايا الدول الإسلامية . يُعرف الأمان بأنه السماح لمواطن من أهل دار الحرب بدخول دار الإسلام . «وعلى مر الزمن تطور مفهوم الأمان واتسع ليشمل الإتفاقيات التي تعقدها الدولة الإسلامية والتي تتضمن منح الأجانب إمتيازات خاصة في أراضيها» [348][2]. وكانت تلك الإمتيازات إتفاقيات ذات مفعول اُحادي الجانب concessions Unilateral، أي أن الأوربيين وحدهم لهم الحق في التمتع بالإمتيازات والصلاحيات بينما يُحرم منها الرعايا المسلمون المقيمون في الدول الأوربية . ولا توجد معلومات كافية تفسر قبول الدولتين العثمانية والصفوية هذه الوضعية . وقد يبدو أن المصلحة الإسلامية ، ومصالح الحكام المسلمين ، كانت الدافع الرئيس وراء منح الإمتيازات . ويرى بعض الباحثين أن «تراجع النفوذ التركي في أوربا ، واسترجاع إسبانيا وعودتها للمسيحية ، والنشاط البرتغالي في المحيط الهندي ، واكتشاف طرق تجارية جديدة عبر الكاب Cape (في جنوب أفريقيا) وصولاً إلى الهند . كل هذه العوامل أخذت تهدد التجارة في البحر المتوسط ، التي كان المسلمون يهيمنون عليها ، مما جعل السلاطين الأتراك والمماليك (في مصر) يبذلون جهوداً لإنقاذ تجارتهم ، والقبول بسياسة ليبرالية تجاه الرعايا الغربيين» [349][3].

أول امتياز منحته الدولة العثمانية كان لتجار مدينة جنوا الإيطالية عام 1352 . وكانت جنوا في حرب مع فينيسيا ، حليفة الإمبراطورية البيزنطية [350][4] . وخلال الحرب العثمانية ـ النمساوية (هابسبورغ) في عام 1683 ، أخذت الإمتيازات تستخدم كورقة ضغط أو إغراء في النشاط الدبلوماسي العثماني لتحشيد القوى ضد هابسبورغ . فقد عرضت الدولة العثمانية إمتيازاً مغرياً على فرنسا من أجل ضمها إلى جانب العثمانيين . إذ تضمن العرض تخفيض الرسوم الجمركية مع مصر من 10% إلى 3% فقط ، وعودة الكنيسة الكاثوليكية إلى نشاطها في بيت المقدس . ومع ذلك فقد فشل العرض في اجتذاب فرنسا ومنعها من الإنضمام إلى الحلف النمساوي ، مما عزز موقع الإنجليز في حصولهم على امتيازات أكبر مثل تأسيس قنصلية بريطانية في مصر ، والهيمنة ولوحدهم على نقل التجارة بين مصر وإسطنبول [351][5] .

وعلى الرغم من العداء التقليدي ، في العصور الوسطى ، بين العالم الإسلامي وأوربا المسيحية ، فإن الدول الإسلامية المطلة على البحر المتوسط أخذت تمنح الإمتيازات للتجار الأوربيين . إذ عكست الإمتيازات حاجة إقتصادية لتشجيع التجارة بين الدول العربية المهيمنة والمدن الإيطالية والدول الأوربية المتوسطية . فقد حاول محمد علي باشا (ت 18) خديوي مصر ، إجتذاب المساهمة الأوربية في تنفيذ مشاريعه العمرانية والإصلاحية ، من خلال منح الأجانب إمتيازات [352][6] .

وكانت العلاقات بين الدولتين الصفوية والعثمانية سيئة ، تخللتها حروب ومعارك وعداوة . ولما كانت علاقات العثمانيين سيئة مع أوربا عموماً بسبب التوسع التركي داخل أوربا ، والذي ضم اليونان وبلغاريا والمجر والبوسنة ورومانيا والبانيا ، حتى حدود النمسا ، والحروب المتواصلة من أجل استردادها ، فقد كان من الطبيعي ان تتحسن العلاقات بين الصفويين والأوربيين . فقد بادر الشاه عباس عام 1515م إلى قبول الإحتلال البرتغالي لجزيرة هرمز في الخليج ، مقابل أن يزود البرتغاليون الدولة الصفوية بالأسلحة [353][7].

ومنح الصفويون إمتيازات إلى بريطانيا عام 1600 وإلى هولندا عام 1623 وإلى فرنسا عام 1665. وتطورت الإمتيازات لمصلحة الدول الأوربية ، يشير إلى ذلك حجم الإمتيازات الممنوحة للدول الأوربية ، فقد حصلت بريطانيا على امتيازات متوالية في الأعوام 1580 و 1583 و 1601 و 1616 و 1624 و 1643 و 1666 وعام 1675; كما حصلت فرنسا على امتيازات في الأعوام 1535 و 1569 و 1597 و 1602 و 1604 و 1673 و عام 1740 . وفي القرن الثامن عشر حصلت دول أوربية أخرى على امتيازات خاصة بها مثل السويد عام 1737 ، والنمسا عام 1699 و1718 ، وصقلية عام 1740 ، والدنمارك عام 1756 ، وبروسيا عام 1761 ، وإسبانيا عام 1783 . أما المدن الإيطالية مثل فينيسيا وليفورنو فقد حافظت على امتيازاتها في التجارة مع الدولة العثمانية . وحصلت بولندا على إمتياز عام 1553 ، وهولندا عام 1612 ، وجنوا عام 1665 .

لقد تضمنت الإمتيازات ، وفي عهد مبكر ، شؤوناً تجارية مثل مقررات الجمارك ونسبة المكوس والضرائب في الصادرات والواردات ، إضاقة إلى الإعفاءات الضريبية . كما شملت قضايا اخرى مثل تعويض الأضرار ، ميراث المتوفين ، حماية ضحايا السفن الغارقة والمعطوبة هم وبضائعهم ، إصلاح السفن ، التعاون ضد القرصنة ، حرية السفر ، حرية الديانات ، الحماية من التدخل ، الحصانة من المسؤولية لرجال الحكومات ، والمعاملة العادلة في المحاكم . لقد كان باستطاعة أية جماعة من التجار الأجانب في مدينة معينة إعلان أنفسهم كجالية يرأسها قنصل الدولة التابعين لها . ويحصل القنصل على اعتراف رسمي من الدولة الإسلامية ، مثلاً في الدولة العثمانية ، كان القنصل يُمنح أمراً سلطانياً يسمى (برائتلي) يجعله ممثلاً لقومه ، ويعطيه صلاحيات فض النزاعات بين رعاياه ، والإشراف على أمورهم وجمع الضرائب من التجار الذين يبحرون رافعين علم بلاده . كما تمنح شهادة البرائتلي القنصل حصانة شخصية وإعفاءً ضريبياً ، هو وعائلته وأتباعه . كما تسمح له بدعوة السلطات العثمانية لمساندة قراراته [354][8].

وبمرور الوقت تطورت الإمتيازات وتوسعت صلاحياتها بشكل كبير ، حتى أنها لم تعد مقتصرة على الأجانب بل أخذت تشمل رعايا الدولة العثمانية من غير المسلمين . ولغرض تقييم تأثير الإمتيازات على القانون الدولي الإسلامي ، سأركز على بعض القضايا ذات العلاقة المباشرة بهذه الدراسة ، مثل :

1 ـ الإعفاء من ضريبة العشور

تفرض الشريعة الإسلامية ضرائب خاصة على البضائع العائدة للتجار غير المسلمين من غير رعايا الدولة الإسلامية ، والتي تمر أو تدخل البلاد الإسلامية . وهؤلاء ليس بينهم وبين المسلمين عهد أو معاهدة ، فليسوا أهل ذمة لأنهم ليسوا من مواطني الدولة المسلمة ، ولا أهل صلح لعدم وجود إتفاقية معهم أو مع دولتهم . وتسمى بالعشور أو المكوس . ولفظ العُشور مأخوذ من العُشر أو 10% . ويدفع التجار غير المسلمين هذه الضريبة على التجارة والسفن والقوافل [355][9] (اليوم النقل البري والجوي) .

ويذكر إبن سلام (157 ـ 224هـ /774 ـ 838م) في كتابه الأموال ، باب (ما يأخذ العاشر من صدقة المسلمين وعشور أهل الذمة والحرب) ، أن «أول من وضع العشر في الإسلام عمر بن الخطاب» [356][10].

والعشور ضريبة غير إجبارية بل يمكن فرضها بعنوان المعاملة بالمثل ، «فقد ذهب الحنفية والزيدية إلى أنها تؤخذ من الحربيين معاملة بالمثل ، وذلك هو الأصل حتى أنهم (الحربيين) إذا لم يأخذوا من المسلمين شيئاً ، فلا نأخذ منهم شيئاً» [357][11]. ورأى المالكية والحنبلية أن تؤخذ من الحربيين دون النظر إلى المعاملة بالمثل . وقال الشافعية : إن اشترط عليه ذلك ينفذ الشرط ، وإلا فلا [358][12] . والأمر «يعود إلى الحاكم الإسلامي والإمام الحاكم أن يقرر ذلك وفقاً للمصلحة الإسلامية ، وبناء على المصالحة أو الإتفاقية التي يمكن أن تعقد مع هؤلاء» [359][13].

وتضمنت الإمتيازات إعفاءات ضريبية من الرسوم وغيرها ، لكنها لم تتضمن إعفاءً من ضريبة العشور . ففي عام 1683 عرضت الدولة العثمانية عرضاً على فرنسا يتضمن تخفيض هذه الضريبة من 10% إلى 3% . أما معاهدة 1535 بين الدولة العثمانية وفرنسا فقد تضمن إعفاءً من ضريبة الرؤوس Tax  ـ Poll أو الجزية [360][14] . أما امتياز 1569 فقد ذهب أبعد من ذلك في الإعفاءات الضريبية . فبينما كانت إتفاقية 1535 مع فرنسا تقيد الإقامة بعشر سنوات فقط معفية من الضرائب ، منح الإمتياز المذكور الإعفاء دون تقييد مدة الإقامة [361][15] . ولما كان الأتراك على المذهب الحنفي ، الذي يرى أن العشور يمكن فرضها من باب المعاملة بالمثل ، فقد استخدم الخلفاء العثمانيون هذا الأمر وعرضوا تخفيض هذه الضريبة على الأجانب غير المسلمين مراعاة لمصالح الدولة المسلمة . ويرى بعض الفقهاء الحنفية كالشيباني أنه «تعفى، أحياناً ، بضائع التجارة العائدة للنساء والقاصرين (غير المسلمين) من الضريبة الجمركية في الأراضي الإسلامية» [362][16].

2 ـ الحصانة القضائية للأجانب

تضع الشريعة الإسلامية تشريعات خاصة بعقوبات الأجانب غير المسلمين ، الذين يقومون بإرتكاب جريمة في الأراضي الإسلامية . وللفقهاء المسلمين آراء مختلفة بهذه المسألة ، حيث توجد ثلاث نظريات مختلفة حول سريان العقوبة على المكان وهي :

 


 

أ ـ نظرية إقليمية سريان الشريعة

وصاحبها أبو حنيفة ويرى أن الشريعة تُطبق على الجرائم التي ترتكب في دار الإسلام ، أي مكان داخل في حدود الدولة الإسلامية ، أياً كانت الجريمة ، وسواء كان مرتكبها مسلماً أو ذمياً. أما من يقيم إقامة مؤقتة في دار الإسلام فلا تطبق عليه أحكام الشريعة ، إذا ارتكب جريمة تمس حقاً لله ، أي تمس حقاً للجماعة ، وإنما يعاقب بمقتضى الشريعة إذا ارتكب جريمة تمس حقاً للأفراد ، وقد علمنا أن من يقيم إقامة مؤقتة في دار الإسلام يسمى مستأمناً . ويعلل أبو حنيفة إعفاء المستأمن بأنه لم يدخل دار الإسلام للإقامة ، بل لحاجة يقضيها كتجارة أو رسالة أو لمجرد المرور ، وليس في الإستئمان ما يلزمه بجميع أحكام الشريعة في الجرائم والمعاملات [363][1].

وبناء على نظرية أبي حنيفة ، لا يمكن معاقبة الأجنبي غير المسلم على جرائم مثل السرقة والزنا ، ولكنه يُعاقب على جرائم القصاص والقذف ، والجرائم التي تخص الأفراد كالغصب . والجرائم المرتكبة خارج الدولة الإسلامية لايُعاقب عليها مرتكبها ، وفقاً لهذه النظرية ، سواء كان مسلماً أو ذمياً أي مواطن تابع لدولة إسلامية ثم عاد إليها ، أو كان أجنبياً إرتكبها في الخارج ثم دخل دار الإسلام; «لأن المسألة عند أبي حنيفة ليست مسألة إلتزام المسلم أو الذمي بأحكام الإسلام أينما كان مقامه ، وإنما هي واجب الإمام في إقامة الحد ، ولا يجب على الإمام أن يقيم الحد أو العقوبة إلا وهو قادر على إقامتها ، لأن الوجوب مشروط بالقدرة ، ولا قدرة للإمام على من يرتكب جريمة في دار الحرب أثناء ارتكابها» [364][2].

ويعلق عبد القادر عودة على هذه النظرية بقوله «هذه هي نظرية أبي حنيفة في سريان الشريعة الإسلامية على المكان . وقد كان لرأيه في عدم سريان الشريعة على المستأمن أثر سيئ على البلاد الإسلامية لأن رأيه إتُّخِذَ أساساً وسنداً في منح الإمتيازات الأجنبية للمستأمنين ، أي من نسميهم اليوم بالأجانب ، وكلنا يعلم مدى ما قاسته البلاد الإسلامية وما تزال تقاسيه من آثار هذه الإمتيازات التي منحت للأجانب وقت ضعفهم وقوة المسلمين; لتشجع الأجانب على دخول دار الإسلام ، وتؤمنهم على أنفسهم وأموالهم ، فأصبحت بعد ضعف المسلمين سبباً لإستغلال المسلمين ، وتضييع حقوقهم ، واستعلاء الأجانب عليهم» [365][3].

ب ـ نظرية أبي يوسف

وهو فقيه من فقهاء المذهب الحنفي ، ولكنه يختلف مع أبي حنيفة الذي يقيد تطبيق أحكام الشريعة ، على الجرائم المرتكبة داخل دار الإسلام ، على مواطني الدولة الإسلامية سواء كانوا مسلمين أو ذميين . «أما أبو يوسف فيرى أن الشريعة الإسلامية تسري على كل المقيمين في دار الإسلام سواء كانت إقامتهم دائمة كالمسلم والذمي ، أو كانت إقامتهم مؤقتة كالمستأمن ، وحجته في ذلك :

ـ أن المسلم يلزمه إسلامه بإلتزام الإسلام .

ـ وأن الذمي ملزم بأحكام الإسلام إلتزاماً دائماً بمقتضى عقد الذمة الذي يضمن له الأمان الدائم .

ـ وأما المستأمن فيلتزم أحكام الإسلام بمقتضى عقد الأمان المؤقت الذي خوله الإقامة المؤقتة في دار الإسلام ، وبقبوله دخول دار الإسلام; لأنه بطلبه دخول دار الإسلام قد قبل أن يلتزم أحكام الإسلام مدة إقامته; ولأنه لما منح إذن الإقامة منحه على هذا الشرط ، فصار حكمه حكم الذمي ، ولا فرق بينهما إلا أن الذمي أمانه غير مؤقت والمستأمن أمانه مؤقت ، ولهذا يُعاقب المستأمن مهما قصرت مدة إقامته على الجرائم التي يرتكبها في دار الإسلام ، سواء تعلقت هذه الجرائم بحقوق الجماعة أو بحقوق الأفراد» [366][1].

إن وجه الخلاف بين النظريتين ينحصر في تطبيق الشريعة على المستأمن ، فأبو يوسف يرى تطبيق الشريعة على المستأمن في كل الأحوال ، بينما أبو حنيفة لا يرى تطبيق الشريعة على المستأمن إلا في الجرائم التي تمس حقوق الأفراد دون غيرها من الجرائم . ويتفق أبو يوسف مع أبي حنيفة في أن الشريعة لا تسري على الجرائم التي ترتكب في دار الحرب ولو ارتكبها المقيمون في دار الإسلام .

وقد بقيت هذه النظرية هي السائدة في القانون الدولي حتى نهاية القرن التاسع عشر ، حيث أن الدول الغربية كانت تطبق قوانينها الوطنية على جميع المقيمين في أراضيها مهما كانت أوضاعهم ، وكانت ترفض منح إمتيازات قضائية لأية دولة أو أشخاص .

 

ج ـ نظرية عالمية سريان الشريعة

وهذه النظرية يؤمن بها فقهاء الشيعة [367][1] والمالكية والشافعية والحنبلية وهم يرون أن الشريعة تطبق على كل جريمة ترتكب في أي مكان داخل حدود دار الإسلام ، سواء كان مرتكب الجريمة مسلماً أو ذمياً أو مستأمناً [368][2] . كذلك تطبق الشريعة عند هؤلاء الأئمة على كل جريمة ارتكبها مسلم أو ذمي في دار الحرب ، بخلاف جرائم الحربي المستأمن التي يرتكبها في دار الحرب فإنه لا يُعاقب عليها في دار الإسلام لأنه لم يلتزم أحكام الإسلام إلا من يوم دخوله داره [369][3] .

فهذه المدارس الإسلامية تعتمد على أصالة ولاء المسلم والذمي للشريعة الإسلامية ، فلذلك تطبق عليهم أينما كانوا . أما أبو حنيفة فيرى أن الشريعة تسري على الاراضي الإسلامية فقط ، وأن الدولة الإسلامية لها الولاية على أتباعها ضمن حدودها الجغرافية فقط ، ولا تمتد خارج نطاق سلطاتها وتطبيق قوانينها .

أما المدرسة الشيعية فترى أن ولاية الدولة على حدودها وأراضيها ، فتعاقب على الجرائم طالما أمكن عقاب مرتكبها ، سواء ارتكبت داخل الدولة الإسلامية أم خارجها ، وسواء كان المرتكب مسلماً أم ذمياً ، مواطناً تابعاً للدولة الإسلامية أم أجنبياً من رعايا دولة غير إسلامية . يقول السيد إسماعيل الصدر «أن الرأي الراجح عند فقهاء المذهب الجعفري هو لزوم العقاب على أية جريمة ترتكب» [370][4].

3 ـ الإمتيازات القضائية الغربية في العالم الإسلامي

ولما كان المذهب الحنفي هو السائد في الدولة العثمانية ومصر والمذهب الشيعي الإثنا عشري في إيران ، فمن المتوقع ان تسود قواعد وآراء هذه المذاهب في البلدان المذكورة ، فيما يتعلق بمعاملة الأجانب فيها . ومنذ القرن الثاني عشر أخذت أعداد غفيرة من المسيحيين الغربيين يقيمون في الدول الإسلامية مع الإحتفاظ بجنسياتهم الأصلية . فلم يقبلوا الإنضمام إلى نظام الذمة المعمول به آنذاك ، بل كانوا يعتبرون أنفسهم رعايا دولة أجنبية وتابعين لقنصلها المقيم في ذلك البلد الإسلامي . وكانت تلك بدايات مخالفة المفهوم التقليدي لنظام الذمة ، ثم تطور من خلال نظام الإمتيازات [371][1]. وفي عام 1154 تم منح أول امتياز من قبل مصر إلى تجار مدينة بيزا الإيطالية ، حيث تضمن منحهم حق التجارة مع الإسكندرية ، وحرية الأفراد وحماية الممتلكات ، وصلاحية القنصل في البت بالمنازعات بينهم وحق إصدار أحكام وقرارات بصددها [372][2] .

وتم منح رعايا بيزا إمتيازاً آخر عام 1215 ، تضمن إعطاءهم حق استئناف دعاواهم لدى أمير الإسكندرية ، وإذا لم يبدِ قناعته ، فمن حقهم رفع شكاواهم إلى السلطان في حالة جرح أحد رعايا بيزا من قبل المصريين . ومنحت مصر إمتيازات فيما بعد إلى فينيسيا في الأعوام 1238 و1254 و1302 . فقد حصل تجار فينيسيا على ضمان حرياتهم الشخصية وحماية ممتلكاتهم ، وأن ترفع جميع قضايا المسيحيين والمسلمين ضد رعايا فينيسيا إلى محكمة القنصل الفينيسي . وتم تقييد صلاحيات أمير الإسكندرية لتقتصر على الجرائم الكبيرة . أما القضايا التي يقدمها الفينيسيون ضد المسلمين فترفع إلى محكمة الأمير ، ولكن بموافقة القنصل الفينيسي . ومثل تلك القضايا يمكن رفعها إلى السلطان [373][3] .

وتضمنت المعاهدة العثمانية ـ الفرنسية الموقعة عام 1535 على «أن المأمور والقنصل يتمتعان بصلاحياتهما ، كل في موقعه ، ودون عراقيل من قبل القاضي أو الصوباشي أو غيرهما ، في البت في القضايا ، سماع الشهود ، إصدار القرارات في جميع الدعاوى والخلافات ، سواء المدنية أو الجنائية ، والتي قد تنشب بين التجار ورعايا الملك . وحتى لو رفع التجار شكاواهم إلى القاضي العثماني فإن حكمه يعتبر باطلاً ولاغياً» [374][4].

وبدأت تنحية القانون الإسلامي تدريجياً عن القضاء في النزاعات التي يكون الأجانب طرفاً فيها . فقد تضمن الإمتياز الممنوح لفرنسا عام 1604 تفصيلات وحقوقاً أخرى ، حيث جاء فيه أن «من حق السفير والقناصل الفرنسيين القيام بإلإجراءات القضائية حسب القوانين والأعراف الفرنسية في حالات القتل والجرائم الأخرى بين الرعايا الفرنسيين» [375][5].

كان للعلاقات الجيدة بين العثمانيين والفرنسيين دورها في منح الفرنسيين مثل تلك الإمتيازات الواسعة . ويمكن مقارنتها بالعلاقات غير الودية عموماً بين الدولة العثمانية والإمبراطورية النمساوية ، حيث انعكست طبيعة العلاقة على مستوى الإمتيازات الممنوحة للنمساويين . ففي المعاهدة العثمانية ـ النمساوية عام 1606 ، والتي تم تجديدها مع بعض التعديلات عام 1615 ثم عام 1616 ، ثم إصدار الفرمان العثماني عام 1617 الذي منح التجار النمساويين حق العمل في الأقاليم العثمانية ، لم يتضمن إعطاء القناصل النمساويين حق الإمتياز القضائي والبت في الدعاوى ، سواء بين التجار النمساويين أنفسهم أو بينهم وبين الرعايا العثمانيين ، بل خولت السلطات العثمانية صلاحية النظر فيها . ويمكن تفسير ذلك بعدم رغبة السلطان العثماني في منح رعايا قوة معادية للدولة العثمانية وضعية مشابهة لبقية الدول المسيحية (فرنسا ، فينيسيا ، إنجلترا وهولندا) التي تتمتع بعلاقات ودية مع الحكومة العثمانية [376][6] . وبعد قرن من الزمان ، في عام 1718 ، إستطاع التجار النمساويون الحصول على حقوق مشابهة مثل بقية رعايا الدول الغربية وذلك في معاهدة السلام المعقودة بين الدولة العثمانية والنمسا في باساروويدز Passarowitz .

وتضمن الإمتياز الممنوح لهولندا عام 1680 حق القنصل في القضاء بين رعايا دولته المقيمين في الدولة العثمانية ، حيث جاء في المادة الخامسة مايلي : «أن جميع القضايا والخلافات ، وحتى القضايا المتعلقة بجرائم القتل والتي يكون الرعايا الهولنديون طرفاً فيها ، يتم البت بها وإصدار الحكم بموجب قوانينهم وأعرافهم ، من قبل السفير والقناصل دون تدخل من أي قاضي أو أي موظف آخر» [377][7].

وأما الإمتياز الممنوح لإنجلترا عام 1675 فقد تضمن ميزات هامة مثلاً ، أن القضايا المختلطة بين الأتراك والإنجليز والتي تزيد قيمة الدعوى فيها على أربعة آلاف أسبيرس (عملة تركية) ترفع إلى الباب العالي . أما قضايا القتل وبقية الجرائم فإنها تُرفع إلى الحكام المحليين بحضور السفير أو القنصل الإنجليزي ، ويتم اتخاذ القرار من قبل الموظفين العثمانيين والإنجليز معاً ، ودون أن يزعج العثمانيون الإنجليز في سماعهم للدعوى لوحدهم ، وبما يناقض القانون المقدس وهذه الإمتيازات . وتضمن امتياز عام 1673 والممنوح لفرنسا حق القضاء للممثل الفرنسي في قضايا الجرائم بين الرعايا الفرنسيين.

ولم يبق دور للحكام العثمانيين حتى في الجرائم الكبيرة المرتكبة على أراضيهم ، فقد جاء في المادة 16 من الإمتياز الإنجليزي «أن كل قضية أو خلاف أو نزاع بين الرعايا الإنجليز ، فإن القرار يكون بيد السفير أو القنصل ، وحسب اعرافهم ، دون تدخل من قاضي أو حاكم (عثماني)» [378][8].

وفي إيران ، كانت الفقرات الهامة في الإمتيازات الممنوحة للأجانب تتضمن حصانة الممتلكات الأجنبية من تفتيش السلطات المحلية ، وإعفاء القناصل من الرضوخ للقضاء القانوني الإيراني . وتم تأسيس محاكم خاصة للبت في القضايا التي يكون أطرافها من الأجانب والإيرانيين . ولا يمكن عقد المحاكمة دون حضور القنصل أو السفير ، والذي يملك حق الإشراف على القرار النهائي للدعوى [379][9] . وفي 10 شباط عام 1828 وقعت إيران وروسيا معاهدة تركمن جاي ، والتي تضمنت منح الرعايا الروس حق عدم التقاضي أمام المحاكم الإيرانية ، ولكن ترفع قضاياهم إلى القنصل ليحكم بها وفق قوانينهم وأعرافهم [380][10].

وأخذت الإمتيازات القضائية شكلاً متطوراً في الدولة العثمانية في نهاية القرن التاسع عشر ، حيث تضمنت منح صلاحيات تامة للقناصل الأجانب في القضاء بين أتباعهم ، وفي جميع القضايا ، المدنية والجنائية . أما في القضايا المختلطة بين طرفين أو أكثر من رعايا الدول الغربية ، فقد تم تأسيس لجان مشتركة تتولى البت في القضايا بموجب إتفاقية 1820 بين وزراء النمسا وفرنسا وبريطانيا وروسيا ، والتي ضمت فيما بعد ممثلي الدول الأخرى. هذه اللجان تم استبدالها في وقت مبكر بمحاكم مختلطة تتألف من عضو معين من قبل المدعي وعضوين من قبل المدعى عليه . وبذلك تم القضاء على أي تأثير للقضاء العثماني في هذه القضايا . ويقوم القناصل بالتصديق على احكام هذه المحاكم لتصبح نافذة المفعول [381][11] .

وفي تطور لاحق ، تم خلال العامين 1874 و 1875 إنشاء نظام المحاكم المختلطة في مصر [382][12]Courts  Egyptian Mixed بتأثير من المحاكم التجارية المختلطة العثمانية ، حيث ذهبت إلى مدى أبعد في صياغة تشكيل قضائي عملي . وكانت المحاكم المختلطة تتشكل من قضاة مصريين وأجانب ، وكان يرأسها قاضي أجنبي . وتقوم بالنظر بالقضايا المدنية والتجارية بين المصريين والأجانب ، وكذلك بين الأجانب أنفسهم من مختلف الجنسيات . كما وتنظر في قضايا الشركات والمؤسسات المصرية إذا كان هناك مال أجنبي مستثمر فيها . أما القانون المطبق في المحاكم المختلطة فكان مجموعة من الأحكام المأخوذة من النظام القضائي الفرنسي [383][13] .

وفي عام 1937 تم الإتفاق على إلغاء المحاكم المختلطة في مصر بعد توقيع إتفاقية مونترو Montreux بين مصر والدول الأوربية ، حيث تضمنت إنهاء المحاكم خلال فترة 12 عاماً بدءاً من تاريخ توقيع الإتفاقية . وفي عام 1949 تم إغلاق جميع المحاكم القنصلية ، وأصبح القضاء المصري يشرف على جميع القضايا سواء المتعلقة بالأجانب أو غيرهم . كما تم تعديل وتوحيد القوانين المطبقة في المحاكم المصرية [384][14] .

وتطرح بهذا الصدد بعض التساؤلات ، إذ لا يوجد أي تفسير أو تبرير شرعي وفقهي يبرر كيف يمكن أن يُعامل مواطنون مسلمون في بلد إسلامي وفقاً لقانون غير إسلامي ؟ ومع أن جميع المذاهب ألاسلامية تشترط أن يكون قاضي المسلمين مسلماً ، إلا أن السوابق التاريخية التي عرضناها تشير إلى تولي قضاة غير مسلمين القضاء في بلد إسلامي . وقد يمكن فهم ذلك إذا كان أولئك القضاة والقناصل بنظرون في قضايا الأحوال الشخصية لرعاياهم ، ولكن صلاحياتهم توسعت لتشمل فض المنازعات التي يكون بعض أطرافها مواطنين مسلمين . ولا يوجد أي تفسير يبرر سكوت المؤسسة الدينية العثمانية والجامع الأزهر عن إقصاء القانون الإسلامي وتطبيق القوانين الغربية الوضعية في القضاء الإسلامي . إن المسلم ملزم بتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية في كل الأحوال ، ولا يمكنه شرعاً أن يطبق أي قانون آخر في دار الإسلام [385][15]. من المؤكد أن الخلفاء العثمانيين وخديويات مصر قد وجدوا في إعطاء تلك الإمتيازات والتسهيلات والحصانات القضائية سبيلاً لتوثيق صلاتهم بالدول الغربية وخدمة مصالحهم الخاصة من خلال كسب رضى الدول الأوربية ، ومنح رعاياها حريات وصلاحيات واسعة .

لقد حدثت كل تلك التطورات في النظام القانوني في الدول الإسلامية عبر نظام الإمتيازات ، وكذلك بتوثيق العلاقات بين العالم الإسلامي والدول الغربية . ومع ان الإمتيازات كانت توسعاً طبيعياً لفكرة شخصية القانون ، وانها كانت حلاً عملياً لمشكلة القضاء بين الأجانب المقيمين في دولة إسلامية ، إلا أنها أصبحت مفارقة تاريخية حيث اعتبرت الإمتيازات تطفلاً وخرقاً لحقوق السيادة ، وهيمنة على الوطنية وسطوة على فكرة إقليمية القانون ، التي يدافع عنها الغربيون .

تاريخياً ، كان لنظام الإمتيازات تأثير هام في تطور الأنظمة القانونية في المنطقة ، إذ كانت تمثل الجسر الذي إنتقل عبره الفكر القانوني الغربي والإجراءات القانونية الأوربية . فقد وجدت قوانين التجارة والجزاء الأوربية طريقها إلى الدولة العثمانية منذ القرن التاسع عشر من خلال الإمتيازات ، حيث ضمنت الدول الأوربية تطبيق قوانينها على رعاياها المقيمين في الشرق الأوسط . وسهل التعامل مع القوانين الأوربية تعرف واطلاع المسلمين على هذه الأنظمة القانونية عن قرب ، مما جعل إمكانية تطبيقها في المنازعات التجارية بين التجار المسلمين والأوربيين .إن القوانين المدنية والجزائية الغربية قد تم تبنيها في التشريعات القانونية في معظم الدول الإسلامية . لقد كان قبول تلك القوانين الأوربية على اعتبار أنها نظام إقليمي ، مما يعني أن الدول الأجنبية قد أذعنت في النهاية إلى إلغاء الإمتيازات ، حينما أصبحت تشكل تهديداً متزايداً على السيادة الوطنية [386][16] .

والقضية الأخرى فيما يتعلق بنظام الإمتيازات هي مبدأ المعاملة بالمثل Reciprocity أي يفترض أن كلا الطرفين يتمتعان بنفس الحقوق والصلاحيات التي تمنحها الإمتيازات . لعله من المنطقي قبول نظام الإمتيازات إذا كان الطرف المسلم يتمتع بحقوق في البلدان الغربية مشابهة للحقوق التي يتمتع بها الغربي في البلدان الإسلامية . وللأسف لم يكن للرعايا والتجار المسلمين حقوق مساوية للأوربيين ، فقد نصت الفقرة 6 من الإمتياز النمساوي عام 1718 على أنه «لا يتمتع القنصل العثماني (الشاهبندر) في النمسا بأية امتيازات قضائية» [387][17]، مما يعني حرمان الرعايا المسلمين في النمسا من الخضوع للشريعة الإسلامية بينما يخضع الرعايا النمساويون لقوانينهم وأعرافهم ، كما سبق وأن تطرقنا إلى ذلك . ولم تكن بقية الامتيازات الممنوحة لفرنسا وإنجلترا وفرنسا والسويد وإسبانيا والدانمارك تختلف عن الإمتياز النمساوي ، إذ أنها لم تمنح القنصل العثماني أية صلاحيات في القضاء بين رعايا دولته . وكان التبرير الذي تعرضه الدول الغربية في رفضها منح الدولة العثمانية إمتيازات قضائية على أراضيها ، أنها لو منحت الدول الأوربية الأخرى حصانة قضائية لرعاياها ، عندئذ يمكن للقنصل العثماني أن يكون له إمتياز مشابه . فالدول الغربية كانت ترفض تطبيق قانون غير قانونها على أراضيها حتى ولو كان قانوناً لدولة أوربية أخرى .

في عام 1867 أصدر الباب العالي مرسوماً سلطانياً (فرمان) يقضي بالسماح للأجانب بالملكية الشخصية من عقارات وأراضي في أنحاء الدولة العثمانية بشرط أن يدفعوا الضرائب العثمانية ويطيعوا القانون العثماني . وقد فتح الباب لمزيد من الإستغلال الاجنبي في الدولة . ويعتقد بعض الباحثين أن قرار الباب العالي جاء بعد فشله في إلغاء الإمتيازات في مؤتمر باريس عام 1856 ، فأراد بذلك الفرمان تطبيق القانون العثماني على الرعايا الأجانب طوعاً من خلال منحهم حق الملكية الخاصة [388][18] .

 

4 ـ حماية الأقليات الدينية في البلاد الإسلامية

حاولت الدول الأوربية إستغلال نظام الإمتيازات بأقصى حد ممكن والتدخل في الشؤون الداخلية للبلدان الإسلامية . فأخذت تدعي حماية ليس رعاياها فقط بل رعايا عثمانيين أيضاً . ومع أن الإمتيازات كانت تقتصر على المترجمين وبعض الرعايا العثمانيين الذين يعملون في القنصليات الأجنبية والشؤون الدبلوماسية ، إلا أن الدول الأوربية أخذت تتوسع في حماية عناصر معينة فيما سمي بنظام الحماية Prot Åg Å System، فقد توسعت صلاحيات السفارات والقناصل لتشمل الأقليات المسيحية في الدولة العثمانية ، وأدت إلى مساوئ ومفاسد جمة مما اضطر الدولة العثمانية إلى إصدار قانون عام 1863 [389][1] .

وفي معاهدة كوجوك كايناريا Kaynaria KϵÏk الموقعة عام 1774 بين روسيا والدولة العثمانية ، سمح للروس ببناء كنيسة أرثوذوكسية في حي بيكلو  Beyogluالذي يسكنه الأجانب في إسطنبول ، وضمان حمايتها وحق تعيين ممثليها فيها . ووعدت الحكومة العثمانية بالأخذ بنظر الإعتبار وجود ذلك التمثيل وحماية الديانة المسيحية بصورة عامة . واعتبرت روسيا ذلك الإمتياز المحدود حقاً يمنحها صلاحية حماية كل المسيحيين الأرثوذكسيين في أنحاء الإمبراطورية العثمانية ، وحق التدخل إذا ما رأت ما يهدد أوضاعهم ، وأن تستشير الدولة العثمانية الروس فيما يتعلق بأية إجراءات تخص الأقلية الأرثوذكسية. وأعلنت فرنسا عن رغبتها في ممارسة حق مشابه تجاه الأقلية المسيحية الكاثوليكية في الإمبراطورية العثمانية (المارونيين في لبنان ، حيث كان القساوسة الفرنسيون يمارسون أعمالهم منذ العصور الصليبية) على أساس فقرات وردت في امتياز عام 1673 تضمن الحماية العثمانية لرهبانها . وطالبت بريطانيا بإدعاء مماثل في حقها بحماية الدروز في لبنان واليهود في فلسطين . «واحتفظت بريطانيا نظرياً بحق حماية الأقليات المصرية حتى عام 1922» [390][2]. وقد ألغي ذلك الحق بعد ثورة 1952.

إن التعاطف الأوربي مع مسيحيي الشرق يمكن فهمه في حدود معينة، لكن ذلك يجب أن لا يستلزم التدخل السافر في الشؤون الداخلية للدول الأخرى وتهديد السيادة الوطنية . لقد استغل القناصل الأوربيون ضعف البلدان الإسلامية وأخذوا يطلبون المزيد من شهادات البرائتلي للرعايا العثمانيين من الأقليات الدينية . وبلغ ببعض القناصل أن يطلب آلافاً من هذه الشهادات سنوياً ، حتى نهاية القرن التاسع عشر ، مما شكل منحى جديداً في تغيير الجنسية العثمانية ، حيث أصبح المواطنون غير المسلمين يتمتعون بحقوق وامتيازات أكبر من المسلمين في البلد الواحد . وأدى ذلك إلى فقدان الحكومة العثمانية سلطتها على رعاياها ، كما خلق تناقضاً مع القانون الإسلامي فيما يتعلق بالمواطنين غير المسلمين . فكل المذاهب الإسلامية تتفق على أن أهل الذمة يجب أن يخضعوا لقانون الدولة الإسلامية وقراراتها ، وأن ترفع قضاياهم إلى المحاكم الإسلامية ، عدا قضايا الأحوال الشخصية كالزواج والميراث وغيرها ، والتي يمكن أن يرجع فيها إلى شريعتهم ودينهم .

إن حماية الأقليات الدينية المقيمة في الدولة الإسلامية أمر خارج عن القانون الإسلامي . والسؤال الذي يطرح هنا هو : لماذا رضي الفقهاء المسلمون بتلك الوضعية المهينة للدولة الإسلامية ؟ ولماذ قبلوا بإقصاء الشريعة الإسلامية عن التطبيق بحق مواطنين تابعين للدولة الإسلامية ؟ لا توجد توضيحات وتبريرات شرعية وكذلك غياب مواقف المؤسسات الدينية بهذا الصدد . ولا حاجة للقول أن المؤسسات الدينية غالباً تسير في ركاب الحكومات ، وتؤيد قرارات السلطات الحاكمة في البلدان الإسلامية .

إن حماية المواطنين غير المسلمين في الدولة العثمانية قد أدى إلى تغيير جوهري في وضعية الأقليات الدينية في المجتمع الإسلامي . ففي عام 1839 أصدر السلطان عبدالمجيد مرسوماً سلطانياً (خطي شريف) في قصر كلهان ، تضمن إعلان مبدأ المساواة بين المسلمين وغير المسلمين ، مما يعني إلغاء الوضعية الشرعية التقليدية لغير المسلمين المعروفة بالذمة [391][3] . وتم تأكيد ما ورد في المرسوم بقرار سلطاني آخر عام 1856 ، حيث أصدر السلطان «خطي همايون» الذي منح المساواة التامة والحرية الدينية الكاملة للرعايا المسيحيين في الإمبراطورية العثمانية [392][4] .


5 ـ ترسيخ السلام مع أوربا

على الرغم من أن النظرية التقليدية السائدة آنذاك لم تشجع على إقامة علاقات سلمية مع الكفار ، لكن الحكام المسلمين كانوا يتخذون سياسة عملية ومصلحية تجاه العلاقات مع الدول غير المسلمة .وكانت الإمتيازات أرضية قوية لإنشاء علاقات سلمية مع القوى الأوربية . ومن خلال المعاهدات والإتفاقيات كانت الدول الإسلامية تقبل بالعلاقات السلمية مع الدول الكافرة . وبدأت الدول الإسلامية تتكيف تدريجياً مع الأوضاع الدولية المحيطة بها ، والقبول بالتعايش السلمي . وقد أدى قبول التسوية والتسامح إلى إمكانية تطور القواعد والمبادئ المشتقة ليست من العقيدة الدينية بل من المصالح المشتركة .ولعل أول وأعمق تغيير في السياسة الخارجية للدول الإسلامية هو قبول مبدأ العلاقات السلمية بين الأمم بعيداً عن الإختلافات الدينية [393][1]  . وأخذت عبارة «الأمة المفضلة» Most-Favord-Nation، ويقصد بها دولة أوربية مسيحية ، تظهر في الإتفاقيات والإمتيازات . وكان أول ما ظهرت هذه العبارة في الإمتياز الإنجليزي عام 1580 [394][2] .

ولعل أهم وأول الوثائق والإتفاقيات التي اعترفت بالسلم كعلاقة طبيعية بين الدول الإسلامية والغربية ، كانت معاهدة عام 1535 الموقعة بين السلطان سليمان الكبير وفرانسيس الأول ملك فرنسا .فقد تضمنت المعاهدة فقرات وعبارات تتعلق بترسيخ السلم بين الإسلام والأمم الأخرى . فقد تضمنت المادة الأولى الدعوة إلى ترسيخ «السلم الأكيد والفعال» بين السلطان والملك [395][3] . وتضمنت مقدمة المعاهدة أن تجري معاملة ملك فرنسا ومبعوثيه على قدم المساواة مع السلطان سليمان وممثليه . أما المادة 15 فقد فتحت الباب أمام الدول الأخرى للإنضمام إليها ، إذ جاء فيها «أن جميع الإمتيازات الممنوحة في هذه الإتفاقية ، يمكن أن تتوسع لتضم الأطراف الراغبة بالإنضمام إليها ، وإبداءً لرغبة السلطان بإقامة علاقات مع الأمراء المسيحيين مثل ملك إنجلترا وملك سكوتلندا والبابا» [396][4]. أما العلاقات العدائية بين الدولة العثمانية والنمسا فقد تخللتها فترات سلم . فقد عقدت إتفاقيات رسخت السلم بين الطرفين ، مثل معاهدة ستفاتورك Sitvatorok عام 1606 ومعاهدة باساروويتز Passarowitz عام 1718 . وقد تم تجديد تلك المعاهدات بهدف ترسيخ حالة السلم والإستمرار في التمتع بالإمتيازات .

لقد كانت الإمتيازات تتطلب إستقرار الأمن والسلام بين العالم الإسلامي والغرب ، كما أن المصالح المشتركة تستلزم توثيق العلاقات السلمية واتخاذ السبل الكفيلة بتحقيق السلم بين الطرفين ، وتهيئة الأجواء اللازمة للتفاهم المشترك ، وانعكاس ذلك على طبيعة العلاقات ، والإتفاقيات التي تؤكد تلك الأهداف والنوايا . وتعتبر معاهدة كوجوك كايناريا Kaynaria  KϵÏkعام 1774 بين الدولة العثمانية والإمبراطورية الروسية أول وثيقة دولية تعترف بسلطة الخليفة العثماني على المسلمين خارج إمبراطوريته . فقد كان السلطان العثماني يدعي ، وقُبِلَ ذلك الإدعاء على الصعيد الدولي ، أن له سلطة دينية على المسلمين التتار المقيمين داخل الإمبراطورية الروسية . وجاء ذلك القبول كرد على الإتفاقية التي تضمنت موافقة السلطان العثماني على إدعاء إمبراطورة روسيا كاترين الثانية بأن لها حقاً برعاية المسيحيين الأرثوذكس المقيمين في الدولة العثمانية . وقد ساهمت المعاهدة في تحقيق السلم ورسم العلاقات بين الإمبراطوريتين من عام 1774 إلى عام 1914 حيث نشبت الحرب العالمية الأولى ، فقد نصت المادة الأولى من تلك الإتفاقية على ما يلي :

«إعتباراً من الوقت الحاضر ستتوقف جميع أشكال العداوة وإلى الأبد . وستدفن في أعماق النسيان الأبدي جميع الأعمال العدائية المرتكبة من قبل الطرفين ، سواء بالقوة المسلحة أو بأي طريق آخر ، ومهما كانت . وعلى العكس سيكون هناك السلام الدائمي المستمر والمصون في البر والبحر» [397][5].

وأدت الضغوط الداخلية والعلاقات الخارجية إلى أن تقوم الدولة العثمانية بإصلاحات رئيسة لتتحول البلاد من التركيب التقليدي للدولة إلى شكل أكثر عمقاً . ففي عام 1793 قام السطان سليم الثالث بخطوة اعتبرت الأولى من نوعها في التاريخ العثماني ، عندما أوعز بإنشاء ممثليات عثمانية دائمة في العواصم الأوربية ، من أجل تجنب الإصطدام مع القوى الأوربية ، وحفاظاً على حالة السلم من خلال تقوية النشاط الدبلوماسي [398][6] . وبلغت العلاقات السلمية مع الدول الأوربية مستوىً أعلى . ففي الحرب بين الدولة العثمانية ضد روسيا والنمسا ، بدا من المناسب أن يعقد السلطان معاهدة مع السويد ، التي كانت في حرب مع روسيا ، ومع إيران ، من أجل ممارسة الضغط على النمسا . وقد تم توقيع معاهدات مع تلك الدولتين عامي 1789 و1790 على التوالي . لقد كانت فكرة التحالف العسكري مع دولة مسيحية أمراً جديداً ، وغير مقبول لدى بعض العلماء الأتراك . فقد أعلن القاضي العسكري شاني زادة أفندي بأن التحالف يخالف الشريعة المقدسة ، إنطلاقاً من قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق)(الممتحنة :1) ، ولكن شيخ الإسلام رده بقوله : إن الله يؤيد هذا الدين بغير أهله ، إضافة إلى احتجاجاته وذكره للنصوص الشرعية التي تؤيد قرار الحكومة العثمانية بعقد تحالفات مع الكفار [399][7] . وخلال الحرب العالمية الأولى تحالفت الدولة العثمانية عسكرياً وسياسياً مع ألمانيا والنمسا ضد بريطانيا وفرنسا وروسيا وصربيا . وقد أصدر المفتي العثماني خيري أفندي فتوى تطلب من المسلمين أن يتخذوا موقفاً ودياً تجاه المانيا والنمسا ، جاء فيها :

«سؤال : وفي هذه الحال ، فهل المسلمون الذين يخضعون في هذه الحرب لحكم إنجلترا وفرنسا وروسيا والصرب والجبل الأسود وحلفائها ، يقترفون معصية كبيرة عندما يقاتلون ضد ألمانيا والنمسا اللتين هما حليفتان للحكومة الإسلامية العلية ، وهل يحق عليهم العقاب الأليم ؟

جواب : نعم» [400][8].

وعلى الرغم من التحولات الراديكالية في مسار العلاقات الخارجية الإسلامية مع المسيحية ، إلا أن الدولة العثمانية لم تعتبر جزءاً من النظام الأوربي ولا طرفاً في القانون الدولي . «فقد كانت الدول الأوربية تعقد معاهدات أو إتفاقيات خاصة مع الحكام المسلمين لتنظيم علاقاتهم معهم على أساس القواعد العرفية السائدة بين الأمم الأوربية ، وعلى أسس الأعراف الأوربية التي لا تلزم الأمم غير الأوربية» [401][9]. وفي الجزء الأخير من القرن التاسع عشر وجدت الدول الأوربية أنه من الضروري معاملة الدولة العثمانية كعضو في المجتمع الأوربي ، وقُبلت في المشاركة بالقانون العام ، بعد دعوتها إلى التوقيع على معاهدة باريس الموقعة في 30 آذار 1856. وقبل ذلك التاريخ كانت الدولة العثمانية تساهم عملياً في القانون الدولي من خلال إنشاء بعثات دبلوماسية في الدول الأوربية ، كما عقدت معاهدات تنظم علاقاتها معها . وبنهاية الحرب العالمية الأولى شهد العالم الإسلامي إنقسامات عديدة ، حيث نشأت دول إسلامية مستقلة ، أخذت تمارس نشاطاتها على الصعيد الدولي ، وتبدي استعداداً لقبول القانون الدولي الغربي . ومنذ ذلك التأريخ ، أي بعد سقوط الخلافة الإسلامية ، ووقوع أغلب الدول الإسلامية تحت الإحتلال الإستعماري المباشر ، أخذ القانون الدولي الإسلامي يفقد تأثيره المباشر على العلاقات الخارجية للدول الإسلامية .

في القرن التاسع عشر تحولت الدول الأوربية من شعوب تهتم بالتجارة إلى مهاجمين مستعمرين تبتغي الإستغلال والإستحواذ على ثروات وأراضي الآخرين . وفي الشرق الأوسط أخذ الإستعمار هيئة الهيمنة الإقتصادية في وقت مبكر . ففي عام 1781 أصبحت الإمبراطورية العثمانية مستعمرة إقتصادية فرنسية ، واحتلت القوات الفرنسية بقيادة نابليون بونابرت مصر في 19 مايس 1798 . ووقعت الدولة العثمانية معاهدة KϵÏk Kaynaria عام 1774 مع روسيا ، بعد أن كانت الأخيرة قد احتلت منطقة كريما  Crimeaالعثمانية . أما معاهدة بالطا ليماني Limani  Baltaبين بريطانيا والإمبراطورية العثمانية الموقعة عام 1838 فقد ألغت القيود المفروضة على التجار الأجانب في الحركة الداخلية ، والتي كانت تضع قسماً من التجارة داخل الدولة العثمانية بيد التجار المسلمين . إن فتح الأسواق الداخلية العثمانية أمام الغزو الصناعي الأوربي ادى إلى تدمير الصناعة والتجارة العثمانية ، وانخفاض العائدات الجمركية [402][10].

وفي القرن العشرين بدأ إلغاء نظام الإمتيازات ، حيث تم إلغاؤه في تركيا بتاريخ 8 أيلول 1914 ، وفي المغرب عام 1920 ، وفي إيران بتاريخ 10 مايس 1928 ، وفي العراق عام 1931 ، وفي مصر عام 1937 .

 

الوضعية الشرعية للدول غير المسلمة المعاصرة

تقسم النظرية الكلاسيكية العالم إلى قسمين : دار الإسلام ودار الحرب .

دار الإسلام

وتعرف دار الإسلام : بأنها البلاد التي يسود فيها الحكم الإسلامي تشريعاً وتنفيذاً ، وتكون القوة والعزة فيها للمسلمين ، سواء كانوا أكثرية السكان بها من المسلمين ، أم غير المسلمين [403][1] . واشترط بعض الفقهاء أن تكون الأكثرية فيها للمسلمين ، حتى لو غلب عليها غير مسلم [404][2] .

ويعرفها بعض الفقهاء المعاصرين بأنها «الأرض التي يمثل فيها المسلمون الأغلبية الساحقة ، ويمارسون فيها إلتزاماتهم وشعائرهم الإسلامية بحيث يكون الطابع العام الغالب عليهم إسلامياً ، سواء أكان ذلك من خلال المجتمع في حركته ، أو خلال الدولة في قوانينها» [405][3] .

ويمكن من خلال هذا التعريف وضع الشروط التي لو توفرت في البلد أصبح دار إسلام وهي :

1 ـ أن تكون أكثرية الشعب من المسلمين .

2 ـ أن يمارس الشعب الشعائر الإسلامية .

3 ـ أن تكون قوانين الدولة إسلامية .

 

دار الحرب

وتعرف دار الحرب : بأنها الأراضي التابعة لغير المسلمين خارج دار الإسلام . وهذا تعريف عام ، لكن بعض الباحثين يرى : هي البلاد التي لا تكون فيها السيادة والمنعة للحاكم المسلم ، ولا يقوى فيها المسلمون على تطبيق الأحكام الإسلامية [406][1] . ويعرفها آخرون «بأنها الأرض التي يمثل فيها الكفار القوة القاهرة بحيث تعيش تحت تأثير المنهج الكافر للحياة على مستوى الدولة والمجتمع» [407][2].

إذن يشترط في دار الحرب توفر الشروط التالية :

1 ـ أن تكون الأكثرية من الكفار ، أي غير المسلمين على الإطلاق .

2 ـ أن تتبع في قوانينها المنهج الكافر ، أي غير الإسلامي ، سواء على مستوى الدولة أو الشعب .

ورغم أن هذا التقسيم لم يرد في القرآن الكريم ولا في السنة النبوية بل هو مجرد تقسيم وصفي إفترضه فقهاء العصر العباسي لتمييز الدولة الإسلامية عن غيرها ويعتبره الفقهاء المعاصرون صحيحاً ، إلا أن هذه التعاريف والمصطلحات ما زالت تثير الإشكالات والتساؤلات حول مصاديقها وتطبيقاتها في العصر الحالي . ومن هذه الأسئلة : أي الدول الإسلامية تعتبر دار إسلام وفق التعريف الفقهي ؟ يتساءل الشيخ فيصل المولوي (لبناني سني) :

«ما هو المعيار لسلطان الإسلام وتنفيذ أحكامه وإقامة شعائره؟ هل هو إقامة أحكام الإسلام بشكل كامل ؟ هذا معناه أن أكثر بلاد المسلمين لم تعد اليوم دار إسلام .

هل يكفي أن تطبق أحكام الأحوال الشخصية الإسلامية دون سائر القوانين ؟ هذا معناه أيضاً أن تخرج بلاد إسلامية عريقة من دار الإسلام كتركيا (وتونس) (يطبق في تركيا القانون السويسري الخاص بالأحوال الشخصية) .

هل يكفي أن يقيم المسلمون شعائر الإسلام بحرية كالصلاة والصيام والحج والزكاة لتعتبر دار إسلام بناء على استمرار الماضي ؟ هذا معناه أن أكثر بلاد المسلمين تعتبر اليوم دار إسلام ، ولكن ما الحكم في كثير من البلاد غير الإسلامية التي يأمن فيها المسلمون ويقيمون شعائرهم بحرية أكثر من بعض بلاد المسلمين؟ طبعاً لا يمكن إعتبارها دار إسلام ، ولكن من حيث الواقع ليس هناك فرق بينها وبين الكثير من بلاد المسلمين التي لا تطبق أحكام الإسلام ، وإن كانت تسمح بإقامة الشعائر الإسلامية» [408][3] .

إن القضية الرئيسة في هذا الموضوع هي الوضعية الشرعية للبلدان غير الإسلامية ، أوربية وأميركية وأفريقية وآسيوية . فهل تعتبر دار حرب ، وما هي الأسس المعتمدة في ذلك التصنيف ؟

يرى آية الله السيد كاظم الحائري ، من كبار الأساتذة في الحوزة العلمية في قم ، «أن الدول الغربية الحالية هي دار حرب» [409][4]. أما المرجع الديني آية الله السيد محمد حسين فضل الله فيرى أن «البلاد الغربية والدول المحايدة الكافرة الأخرى تعتبر (دار كفر) ، ولكن لا يجوز  ـ  في رأينا ـ  الإعتداء على أهلها ، وذلك لأننا نستوحي من قوله تعالى (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم ، إن الله يحب المقسطين) ، فهو يدعو إلى البر بهم والعدل معهم فلا ينهاهم عن ممارسة ذلك . ونحن نعرف أن كلمة (العدل) تفرض وجود حق لهؤلاء على المسلمين لابد لهم من قيامهم به ومحافظتهم على إيصاله إليهم ، وعلى هذا الأساس ، فإننا نستوحي من ذلك أن العدل إذا جاز وجب .

وفي ضوء ذلك كانت فتوانا  ـ  التي نختلف فيها مع مشهور الفقهاء ـ  هي أن الأصل حرمة كل إنسان في نفسه وماله وعرضه ، إلا المحارب ومن بحكمه من الذين يخرجون المسلمين من ديارهم ، ويساعدون على إخراجهم إنطلاقاً من قوله تعالى (إنما ينهاكم عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ، ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون)» [410][5].

فإذا كانت الدول الغربية تعتبر دار حرب فما هو المعيار لإعتبار بلد ما دار حرب ؟ هل مجرد أن أهلها كفار تصبح دار حرب؟ يتساءل فيصل المولوي ثم يجيب طبعاً الجواب لا ، لأن الكفار قد يدخلون في عهد مع المسلمين لا يدفعون فيه الجزية ولا يخضعون لدار الإسلام فتعتبر بلادهم دار عهد كما يرى الإمام الشافعي [411][6] . ثم يستنتج المولوي أن بلاد الغرب ليست بدار حرب ، حيث يناقش القضية من جوانب أخرى . إذ يعتبر عدم وجود حرب فعلية معها ووجود معاهدات بين الدول الغربية والدول الإسلامية شروطاً تخرجها عن دائرة (دار الحرب) ، فيقول :

«إننا نستطيع أن نستنتج مما تقدم أن المسلمين في أوربا وغيرها من بلاد الغرب ليسوا في دار حرب :

أولاً : لأنه ليس هناك من حكامنا من أعلن الحرب .

ثانياً : لوجود معاهدات بين دولنا وهذه الدول ونحن ملزمون بهذه المعاهدات شرعاً طالما أنها لا تلزمنا بمعصية . فإذا أردنا الإلتزام بالتقسيم الفقهي للعالم إلى دار إسلام ودار حرب ودار عهد فنحن هنا في دار عهد» [412][7].

دار العهد

إذن نحن أمام قسم ثالث سماه الفقهاء بدار العهد ، فما هي شروط دار العهد ؟ يعرّف الفقهاء دار العهد بأنها : «بلاد غير إسلامية عقد أهلها الصلح مع المسلمين دون أن تؤخذ منهم جزية . فدارهم لا تخضع لأحكام الإسلام فليست من دار الإسلام ، وليس بينهم وبين المسلمين حرب فليست دار حرب» [413][1] . ويعرّفها بعض الفقهاء بأنها «الأرض التي يغلب عليها الكفار الذين صالحهم المسلمون على البقاء فيها ودخلوا معهم في معاهدة سلام على أن تكون الأرض لأهلها ، وتسمى (دار الصلح)» [414][2].

ومن الفقهاء الشيعة الذين يرون الدول الغربية دار عهد هو الشيخ محمد علي التسخيري ، الذي يرى «ان الدول الغربية ليست من ديار الحرب ، إلا إذا دخلت حرباً مع العالم الإسلامي ، بل هي من ديار العهد» [415][3].

ويضيف التسخيري بأنه «لا مانع من توقيع معاهدة عدم إعتداء مع دولة غير مسلمة ، بل أن القبول بميثاق الأمم المتحدة يعني ذلك عموماً» [416][4]. ويؤيد المراجع العظام كالسيد عبد الهادي الشيرازي والسيد محمد رضا الكلبايكاني وغيرهما «أن دخول البلاد الإسلامية مع الدول الأخرى في ميثاق الأمم المتحدة يلزم تلك البلاد بإحترام تلك الدول في أهلها ونظامها» [417][5].

ورغم أن السيد محمد حسين فضل الله يعتبر البلاد غير الإسلامية دار حرب إلا أنه يرى أنه لا مانع من عقد معاهدات صداقة وسلام معها . فقد سألته عن الدول غير الكتابية كالهند وكوريا والصين فأجاب :

 «هي دار حرب ، ولكن الواقع الحاضر الذي لا يمثل المسلمون فيه قوة قاهرة ، لا تترتب آثار الحرب عليها بالمعنى العملي ، فيمكن الدخول معها في معاهدة عدم إعتداء أو صداقة أو تبادل تجاري أو أمني أو ثقافي مما تفرضه المصلحة الإسلامية العليا ، ولكنها لا تمثل دار العهد بالمعنى المصطلح لأنه لا موضوع لذلك في خصوصيات الواقع» [418][6].

إن التقسيم التقليدي الذي يصنف الدول خارج دار الإسلام بأنها دار حرب لا يعتمد أي قاعدة أو معيار لذلك التقسيم ، وقد ذكرنا في الفصل السابق أن الصفة العامة التي تميزت بها الدول المعادية للإسلام في العصر العباسي هي العداء والحروب المتواصلة، قد جعلت هناك ملازمة بين إطلاق كلمة الحرب ودار الحرب على كل ما هو خارج الدولة الإسلامية. ومع أن بعض الفقهاء يستخدم أحياناً مصطلح دار الكفر إلا أن الغالبية تعتمد مصطلح دار الحرب. ومن ناحية لغوية فإن (دار الحرب) لا تكون مخالفة لـ (دار الإسلام) بل لـ (دار السلم)، إن كان يتضمن المعنى الإصطلاحي لكلمة الإسلام . ولغرض توضيح هذه الفكرة ، ومعرفة دلالة كل مصطلح إستناداً إلى معيار معين ، سيكون التقسيم حسب ما يلي :

1 ـ على أساس المعيار الأيديولوجي ــ دار الإسلام              تقابلها            دار الكفر

2 ـ على أساس المعيار الأمني ــــــــ دار السلم                   تقابلها            دار الحرب

3 ـ على أساس المعيار السياسي ـــــــــــــــــــــــــــــــ دار العهد

والشكل التالي يوضح العلاقة بين هذه المصطلحات :

دار الإسلام

دار الكفر

بالمعاهدة (تصبح)

بالحرب (تصبح)

دار العهد

دار الحرب

 


الغرب دار إسلام !

ويذهب بعض الباحثين والإسلاميين بعيداً في تطبيق هذه المصطلحات على الواقع الحالي للدول الغربية ، فالباحث المغربي عبدالعزيز بن الصديق يصف الحريات التي يتمتع بها المسلمون والأعداد الغفيرة من المؤسسات الدينية (مساجد ، معاهد ، مراكز ومدارس وغيرها) التي أسسها المسلمون المقيمون في أوربا وأميركا ، وكذلك الدعوة إلى الإسلام واعتناقه من قبل الأوربيين والأميركيين ، ليستنتج «أن أوربا وأميركا ، من هذه الناحية أصبحت بلداناً إسلامية مستوفية كل الخصائص الإسلامية . وأن المقيم فيها مقيم في دولة إسلامية ، حسب المصطلح اللغوي للفقهاء المسلمين» [419][1]. ويؤيد ذلك راشد الغنوشي زعيم حركة النهضة الإسلامية التونسية ، حيث صرح عام 1989 في مؤتمر إتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا (UOIF)، «أن فرنسا أصبحت دار اسلام » . وقد قبلت المنظمات الإسلامية ذلك الطرح وأصبح يحل محل الرأي السابق الذي يقول «بأن فرنسا جزء من دار العهد» [420][2].

 

طاعة القوانين الغربية

يعيش سبعة ملايين مسلم في بلدان أوربا الغربية [421][1] . ويتمتعون بحرية تامة في ممارسة عباداتهم وشعائرهم . وقد دخلوا هذه البلدان بإذن حكوماتها عبر حصولهم على الفيزا ، التي تشابه المفهوم الإسلامي المسمى بالأمان . يرى بعض المراجع الشيعة كالسيد محمد حسين فضل الله أنه «لاينبغي للمؤمن أن يسيء إلى نظام البلد الذي يعيش فيه ، وإلى أمنه ، للمفاسد الكثيرة المترتبة على ذلك ، ولزوم هتك حرمة المسلمين ، بل ربما يحتمل أن هناك إلتزاماً بينه وبين هذا البلد بأن يحافظ على نظامها وأمنها من خلال (الفيزا) التي تمنحها له» [422][2].

وقد سألت السيد محمد حسين فضل الله حول رأيه الآنف الذكر ، وأن دخول المسلم إلى بلد وحصوله على الفيزا يعني التزاماً ضمنياً باحترام القوانين ، فهل تعتبرون وجود المسلم في بلدان الغرب هو التواجد في دار عهد ؟ وما هي واجباتهم الشرعية فيما يتعلق بذلك الأمر ؟ فكان جواب سماحته كالتالي :

«لا يمكن إعتبار البلاد الغربية دار عهد بالمعنى المصطلح من ناحية عامة ، ولكن لابد للمسلم  ـ  من الناحية الفردية  ـ  أن لا يسيء إلى أهلها ونظامها العام  ـ  بما لا ينافي إلتزامه الإسلامي  ـ  إنطلاقاً من العهد الفردي بينه وبينهم من خلال إلتزامات سمة الدخول (الفيزا) التي يلزم فيها نفسه بالمحافظة على عنصر السلام في وجوده في داخل البلد ، وفي ضوء ذلك يمكن أن ينطبق هذا الحكم على المجموعات الإسلامية المتواجدة في تلك البلد بلحاظ إلتزام كل واحد منهم ، فيجب عليهم الوفاء بإلتزاماتهم العقدية وشروطهم حتى مع الكفار إنطلاقاً من «أوفوا بالعقود» و «المؤمنون عند شروطهم» . وعليهم  ـ  من خلال ذلك ـ  الحفاظ على النفوس والأموال والأعراض والنظام العام في ذلك البلد» [423][3].

وللسيد علي السيستاني رأي مشابه يقول فيه «إن الدخول الرسمي للدول الغربية من خلال وثيقة الجواز ، فإن هذه الوثيقة تتضمن شرطاً دولياً بالأمان ، بحيث لا يجوز قانوناً لداخل البلاد مخالفة قوانينها» [424][4]. ويقول سماحته ايضاً «لا تجوز السرقة من أموالهم (الأوربيين) الخاصة والعامة وكذا إتلافها إذا كان ذلك يسيء إلى سمعة المسلم أو المسلمين بشكل عام . وكذا لا يجوز إذا لم يكن كذلك ، ولكن عُد غدراً ونقضاً للأمان الضمني المعطى لهم حين طلب رخصة الدخول في بلادهم أو طلب رخصة الإقامة فيها لحرمة الغدر ونقض الأمان بالنسبة إلى كل أحد».

وهذا رأي صائب إذ أنه من المعلوم عرفاً أن من يدخل بلداً ما عليه إحترام قوانينها ، سواء كانت إقامته قصيرة أو طويلة . ولو أنه عند الدخول قال لسلطات الحدود بأنه يؤمن بمخالفة قوانين الدول غير الإسلامية فلا يسمح له بالدخول . إن احترام قوانين البلدان يعتبر من العرف الدولي .

ويؤكد السيد محمد حسين فضل الله على أهمية إحترام القوانين والسلوك الإسلامي القويم فيقول «لا بد للمسلم أن يكون أميناً على أموال الآخرين مسلمين كانوا أو غير مسلمين ... وأنه لا ينبغي للإنسان المؤمن أن يفعل ذلك (أي سرقة الكافر أو بيعه المخدرات أو إعطاؤه عملة مزورة) لا سيما في العملة المزورة ، لأنه لا بد أن يكون مثال الأمانة مع كل الناس وفي جميع الأشياء ، حتى يكون النموذج الإنساني الكامل في علاقته بالناس ، من دون فرق بين أن تكون الفتوى بالحلية أو بالحرمة ، أما رأينا فهو الحرمة في الجميع» [425][5].

ويتفق الشيخ فيصل المولوي في ذلك الأمر إذ يقول «إن من واجبنا الشرعي أن نلتزم بقوانينهم فيما لا معصية فيه . إن حقوقنا في هذه البلاد هي ما تعطينا قوانينهم من حقوق ، ولا يجوز لنا أن نتجاوز هذه القوانين بإحتيال أو كذب أو خديعة أو غدر» [426][6]. أما المفكر الإسلامي كليم صديقي ، بريطاني من أصل هندي ، فيقول «على المسلمين في الدول الغربية أن يدفعوا الضرائب للسلطات غير المسلمة . ويجب عليهم طاعة القوانين طالما كانت هذه القوانين لا تعارض إلتزامهم بالإسلام وإرتباطهم بالأمة» [427][7].

 

 

التجنس بجنسية غربية

تعرف الجنسية بأنها «رابطة سياسية وقانونية بين الفرد والدولة . وهناك من يضيف إلى هاتين الرابطتين رابطة ثالثة هي الرابطة الإجتماعية وخصوصاً عندما يكون شعب الدولة مكوناً من أمة واحدة» [428][1].

فهي علاقة سياسية تنشئها الدولة بمحض إرادتها ، علاقة سياسية ضرورية تربطها برعاياها فتمنحها لمن تشاء وتحرمها ممن تشاء وفق ظروفها السياسية والإقتصادية والإجتماعية . فهذه الظروف مجتمعة أو منفردة تملي عليها سياسة معينة في مسائل الجنسية . «فقد تكون راغبة في كثرة شعبها فتأخذ حينئذ بحق الإقليم بالإضافة إلى حق الدم ، فتعتبر كل من ولد في إقليمها متمتعاً بجنسيتها ولا تكتفي فقط بحق الدم . وبجانب هذين الأساسين تذهب أكثر من ذلك فتشجع الدخول في شعبها من الأجانب وذلك بفتح باب التجنس وتخفيف شروطه وإجراءاته . وعلى العكس من ذلك تضيق في سبيل الحصول على جنسيتها متى كانت غير راغبة في تزايد شعبها فتقتصر في منح جنسيتها لمن ولد لأصل يحمل هذه الجنسية أي تقتصر على الأخذ بالدم» [429][2]. والجنسية في القانون هوية خاصة لكل دولة ، وهي ترجمة للفظ Nationality.

وهي علاقة قانونية حيث يرتبط طرفاها بروابط قانونية ، إذ تفرض على كل منهما إلتزامات للآخر وتقرر له حقوقاً قبله . فهي علاقة قانونية متبادلة أي مزدوجة الأثر . فللشخص حق الحماية لشخصه ولماله ولعرضه وتهيئ له سبل الحياة لتقيه بالوسائل المتاحة لها شر الفقر والمرض والجهل ، ولها عليه مقابل ذلك واجب الولاء والطاعة وتنفيذ أوامرها المشروعة .

وتعتبر الجنسية المعيار لتحديد صفة الأجنبي داخل كل دولة وما يترتب على هذه الصفة من آثار من حيث التمتع بالحقوق داخل الدولة ، حيث لا يتمتع الأجنبي بالكثير من الحقوق العامة وخاصة الحقوق السياسية.

إن تواجد المسلمين في البلدان الغربية يطرح عدة مشاكل شرعية أمام الأقليات الإسلامية المقيمة . وبعض هذه المشاكل تتعلق مباشرة بوضعيتهم واندماجهم في المجتمعات الغربية ، كالتجنس والمشاركة في الحياة السياسية . ويرى بعض المسلمين أن الحصول على جنسية تلك البلدان يسهل الحياة في تلك المجتمعات ، إذ أنه يفتح أمامه الأبواب في المشاركة في القضايا العامة والتدرج في الوظائف الحكومية ، بل وتمثيل الشعب الغربي ودخول البرلمانات الأوربية ، كما هو حاصل في بعض الأحيان . كما أن بعض فئات المسلمين قدمت إلى البلدان الغربية طلباً للجوء السياسي ، وبسبب أوضاع بلدانها ،فقدت كل وثائقها القانونية وأوراقها الثبوتية ، إضافة إلى أن حكومات تلك الدول لا تمنحها وثائق جديدة أو تزود أولاد المهاجرين بوثائق قانونية كجوازات السفر أو شهادات الجنسية . كل ذلك يجعل الحصول على جنسية البلد الغربي أمراً مطلوباً في ذاته ، وكذلك لحل العديد من المشاكل القانونية .

وللعلماء المسلمين وجهات نظر مختلفة حول التجنس بجنسية غربية . ومع أن الجنسية لا تحمل بعداً عقائدياً بل هي مجرد إثبات للإنتماء القانوني إلى بلد ما ، إلا أن بعض العلماء يعتبرها معياراً للعقيدة والدين ، فيعتبر حصول المسلم على جنسية دولة غير مسلمة بمثابة ترك المسلم لدينه ، وفك ارتباطه بالعالم الإسلامي . وهذا معيار غير دقيق و يتضمن العديد من الإشكالات منها أن هناك أقليات غير إسلامية تعيش في البلدان الإسلامية وتحمل جنسيتها ، فهل يدل ذلك على أنها تركت دينها وأصبحت مسلمة ؟ وهناك أقليات إسلامية تعيش في بلدان كافرة ، كتابية أو وثنية ، وتحمل جنسيتها ، فهل يعني أنها غير مسلمة ؟ وهناك من يعتنق الإسلام من الغربيين ، وبالطبع فهم يحملون جنسية بلدانهم ، فهل يُطعن في إسلامهم إذا بقوا حاملين لها ؟

وهناك بعض الحالات التأريخية أعتبر فيها الحصول على الجنسية بمثابة مغادرة الإسلام والإرتباط بالأجنبي المحتل ، كما حدث في تونس والجزائر حيث كانت الحكومة الفرنسية المستعمرة تشجع المسلمين هناك على الحصول على الجنسية الفرنسية لأسباب سياسية وقانونية من خلال ضم تلك البلدان إلى الدولة الفرنسية بإعتبارهم مواطنين فرنسيين . وكانت السلطات الفرنسية تجند اليهود الجزائريين لتكثير عدد الفرنسيين وللإعتماد عليهم في إدارة البلاد والهيمنة على تجارتها . ولما كانت حركة الجهاد الإسلامي موجهة ضد الإحتلال الأجنبي ومن يتعاون معه ، فجرى اعتبار من يتجنس بالجنسية الفرنسية ملتحقاً بخدمة الكفار ، ومرتداً عن الدين الإسلامي ، ورفض دفنه في مقابر المسلمين . من جانب آخر فإن المتجنس يطبق عليه القانون الفرنسي حتى في الأحوال الشخصية كالنكاح والطلاق والمواريث .

وبقيت نظرة الفقهاء التونسيين والجزائريين والمغاربة سلبية نحو التجنس بسبب الخلفية التاريخية والتجربة السياسية ، وبسبب فهمهم الخاص للمسألة للأسباب التي ذكرناها .

لقد طرحت مسألة التجنس بجنسية غير اسلامية في وقت مبكر من القرن العشرين ، فقد سأل بعض التونسيين علماء الأزهر حول «تجنس رجل مسلم بجنسية أمة غير مسلمة إختياراً منه ، والتزم أن تجري عليه قوانينها بدل أحكام الشريعة الغراء» [430][3] فأجابه الشيخ يوسف الدجوي من هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف بما يلي : «إن التجنس بالجنسية الفرنسية والتزام ما عليه الفرنسيون في كل شيء حتى الأنكحة والمواريث والطلاق ومحاربة المسلمين والإنضمام إلى صفوفهم معناه الإنسلاخ من جميع شرائع الإسلام ومبايعة أعدائه ...وأما حليف الفرنسيين الخارج من صفوف المسلمين طوعاً واختياراً مستبدلاً لشريعة بشريعة ، واُمة باُمة مقدماً ذلك على اتباع الرسول بلا قاسر ولا ضرورة فلا بد أن يكون في اعتقاده خلل ، وفي إيمانه دخل ... فلسنا نشك في أن هؤلاء المتجنسين بالجنسية الفرنسية على أبواب الكفر وقد سلكوا أقرب طريق إليه» [431][4].

وواضح أن ظروف التجنس ونتائجه تستدعي ذلك الرأي خاصة إذا ذكر أن المتجنس بجنسية غير إسلامية ينسلخ عن الشريعة الإسلامية ، فمما لا شك فيه أن أي فقيه مسلم سيكون ذلك رأيه. كما أن الظروف السياسية واضحة في مضمون الفتوى وغايتها التي تهدف مساعدة حركة الجهاد وقطع الطريق أمام السلطات المحتلة باستخدامها هذه الوسيلة لإغراء المسلمين للإنضمام إليها وخدمة مخططاتها وأغراضها في تغيير هوية البلد الإسلامي ، واعتبار الجنسية جسراً لعبور أبناء البلد إلى الخندق الآخر .

كما تم توجيه سؤال من قبل أحد التونسيين المقيمين بمصر إلى جمعية الهداية الإسلامية في القاهرة حول التجنس بالجنسية الفرنسية ، «فبحثت المسألة ، فرأت أن الأدلة القائمة على ردة المتجنس قاطعة ، فكتبت فتوى بذلك وقدمتها إلى مجلس إدارة الجمعية ، فقرر نشرها بالصحف تحذيراً للمسلمين من الوقوع في هاوية الإرتداد عن الدين» [432][5]. وقد تضمن السؤال عن التجنس «والتزام المتجنس بأن تجري عليه أحكام قوانين الاُمة غير المسلمة بدل أحكام الشريعة حتى في الأحوال الشخصية ، ويدخل في صفوفها عند محاربتها لاُمة إسلامية ، كما هو الشأن في التجنس بالجنسية الفرنسية الآن في تونس . فهل يكون نبذه لأحكام الشريعة الإسلامية ، والتزامه لقوانين اُمة غير مسلمة طوعاً منه إرتداداً عن الدين ، وتجري عليه أحكام المرتدين ، فلا يُصلى عليه ، ولا يُدفن في مقابر المسلمين ، أو كيف الحال ؟ وإذا كان خلع أحكام الشريعة عن عنقه ، والتزامه لقوانين اُمة غير مسلمة ردة ، فهل ينفعه أن يقول بعد هذا الإلتزام أني مسلم ،اشهد ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ؟ أفتونا».

وطبيعي أن صيغة السؤاال وما تضمنه من عبارات تسير بإتجاه تكفير المتجنس ، تجعل الفقيه لا يرى أبعد من ذلك ، ويتفاعل مع السؤال ، إضافة إلى الجو الإسلامي العام المناوئ للإستعمار والدول الإستعمارية المحتلة ، خاصة وأنها دول غير مسلمة ، فكانت فتوى اللجنة المذكورة كالتالي :

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وآله وصحبه ومن والاه . أما بعد فإن التجنس بجنسية اُمة غير مسلمة على نحو ما في السؤال هو تعاقد على نبذ أحكام الإسلام عن رضا واختيار ، واستحلال لبعض ما حرم الله ، وتحريم لبعض ما أحل الله ، والتزام لقوانين أخرى يقول الإسلام ببطلانها ، وينادي بفسادها . ولا شك أن شيئاً واحداً من ذلك لا يمكن تفسيره إلا بالردة [433][6]، ولا ينطبق عليه حكم إلا حكم الردة ، فما بالك بهذه الأربعة مجتمعة في ذلك التجنس الممقوت ؟

أما النطق بالشهادتين مع التردي في هذه البؤر الخبيثة الموجبة للردة ، ومع عدم الإقلاع عنها والتبرؤ منها والندم عليها ، هذه الشهادة لا تنفع صاحبها وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم ، لأن الشهادتين إنما كانتا دليلاً على الإسلام باعتبار أنهما عقد بين العبد وربه على احترام أحكام دينه ، والرضا عنه وعن تشريعه ، وعدم تخطيه إلى شريعة أخرى... [434][7]

التوقيعات

                 رئيس اللجنة                                                                         أمين اللجنة

                 علي محفوظ      محمد عبد العظيم الزرقاني

مدرس بكلية أصول الدين بالأزهر                                       من علماء الأزهر

وتعرض بعض الفقهاء المعاصرين إلى موضوع التجنس ، بعد تغير الظروف وتطور الأوضاع السياسية للبلدان الإسلامية والغربية معاً . وبعد ما أخذت أعداد هائلة من المسلمين تذهب إلى الغرب طلباً للرزق والعمل والإقامة ، فأصبحت قضية التجنس واحدة من القضايا الهامة التي لا بد للإسلام ان يعطي رأيه فيها . فقد نشر الشيخ محمد الشاذلي النيفر ، عضو المجمع الفقهي الإسلامي برابطة العالم الإسلامي (تونس) ، بحثاً حول التجنس ، يميز فيه أولاً بين ظروف المتجنسين ، فيقسم التجنس إلى قسمين :

1 ـ التجنس الإضطراري ، مثل الأقليات المسلمة التي تقيم في دول غير إسلامية ، وهي بالأصل من سكان تلك المناطق ، كالمسلمين في الجمهوريات المسلمة التابعة للإتحاد السوفياتي السابق ،حيث يقول : «وهي أمم تعد من العالم الإسلامي ولا يمكن أن تنفصل عن العالم الإسلامي . كما أنها جادة في المحافظة على إسلاميتها رغم عوامل الإلحاد الكثيرة» [435][8]. ويناقش قضية الإضطرار وحكم المضطرين للدخول تحت أحكام غير إسلامية ، فيضرب مثلاً بقضية الصحابي عمار ابن ياسر عندما أجبره كفار قريش على قول الكفر ، وقول الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) له : كيف تجد قلبك ؟ فقال : مطمئن بالإيمان ، فقال(صلى الله عليه وآله وسلم) : فإن عادوا فعد . ثم يستنتج أن العلماء قد «حملوا كل ما كان سبيله الإكراه على عدم المؤاخذة لأن ما كان أصلاً في الشريعة وكفرَ به ، لم يؤاخذ المكره بكفره عليه فسبيل ذلك سبيله». ثم يضيف إن «حكم هؤلاء الجارية عليهم الأحكام غير الإسلامية ، حتى اعتبروا متجنسين بجنسية غير إسلامية أنهم مسلمون غير عاصين» [436][9].

2 ـ التجنس الإختياري ، ويقصد به أولئك المتجنسين المقيمين في البلاد الأجنبية دعتهم أعمالهم ووجودهم في بلد إستوطنوه فاختاروا جنسيته لكنهم لم ينسوا إسلامهم وعملوا لبقائه في أنفسهم وتقدموا في ذلك فأنشأوا مؤسسات إسلامية . ويناقش مدى انطباق قوله تعالى (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) ، ثم يستنتج أنها لا تشمل المسلمين بل هي تخص الكفار ، «وبمقتضاه لا يحكم بكفر من دخل تحت أحكام غير إسلامية لأنه ليس مشمولاً لما ورد في الآيات» [437][10]. ويضع الشيخ النيفر شروطاً يجب استيفاؤها من قبل أولئك المقيمين في الدول الغربية ، وهي :

1 ـ أن لا تكون إقامة المسلم في الأرض المحكومة لغير المسلمين إقامة هوان وذلة .

2 ـ حرية إقامة الشعائر الإسلامية (الصلاة والزكاة والصيام والحج) .

3 ـ الأمن على النفس والولد والمال .

4 ـ الإحتراز من الفتنة في الدين .

ويعلق بمرارة «على أن الذي يخشى منه هو الآن موجود في البلدان الإسلامية مما يؤسف له ، فلا فرق بين البلدان الإسلامية وبين هؤلاء المتساكنين مع غير المسلمين» [438][11].

أما الشيخ محمد بن عبدالله بن سبيل ، إمام الحرم المكي الشريف ، فيرى «أن المسلم الذي يقبل الإنتظام في سلك الجنسية يستبدل أحكامها بأحكام القرآن فهو ممن يتبدل الكفر بالإيمان». ويستنتج أن «طلب الجنسية الذي من لوازمه أن يصير المتجنس تابعاً لقوانين وضعية نصوصها صريحة بالحكم بغير ما أنزل الله ، وإباحة الزنا وتعاطي الخمور وارتكاب الفجور وتحليل الربا والإكتساب من طرق غير مشروعة ، ومنع تعدد الزوجات ، واعتبار ما زاد على الواحدة من قبيل الزنا المعاقب عليه (!؟) وإنكار نسب ما ولد له من زوجة أخرى حالة وجودها عنده ، ولا حق له في نفقة ولا إرث .. وكون المتجنس مجبوراً على الخدمة العسكرية في جيش الدولة التي انتمى إليها بهذه الجنسية ، واستعداده للقتال في أي وقت تقوم حرب على دولته ، حتى ولو كان على دولة مسلمة .. يتضح من ذلك أن من يطلب الجنسية من دولة كافرة ميلاً إليهم ، ومحبة في القرب منهم ، والإنضمام إليهم ، والدخول في سلكهم ، والرضا بسيطرتهم عليه وعلى ذريته فإنه داخل تحت قول تعالى (لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله)وقوله (ومن يتولهم منكم فإنه منهم)» [439][12].

ولا يخلو الطرح من إشكالات من حيث التعميم وافتراض أن هناك تلازماً بين التجنس وارتكاب المعاصي وكأن التجنس هو الدافع وليست الإقامة ، إذ يقيم في الغرب آلاف الفقهاء والعلماء المسلمين ، وبعضهم يشرف على المؤسسات الدينية والمساجد ، كما أن بعضهم يحملون جنسيات وجوازات غربية .

ويميل الشيخ ابن سبيل إلى تحري الدقة ، بعد التعميم السابق ، فيقسم المتجنسين إلى ثلاث فئات هي :

«القسم الأول : إذا أخذ الجنسية من يرغب بلاد الكفار ويحبهم ويحب البقاء بينهم ، ويرى أن معاملتهم والإنتماء إليهم أفضل من المسلمين . وأنه راض بإجراء أحكامهم عليه من الحكم بغير ما أنزل الله في الأحكام والنكاح والطلاق والميراث ، فهذا لا شك في كفره ، وهو مرتد عن دين الإسلام ردة صريحة ، حتى لو قال أنه مسلم ، ولو شهد الشهادتين وصلى وعمل ببعض شرائع الإسلام .

القسم الثاني : راض بالإنتماء إليهم لمصالحه الدنيوية ومعاملاتهم التجارية ، فأخذ الجنسية منهم ليتم مقصوده من حصول الدنيا والتسهيلات التي تحصل للمنتمين إليهم ، وهو مؤدٍّ لشرائع الإسلام ، مظهر لدينه ، ولا يترافع إليهم باختياره ، فإذا صدر بما لا يخالف الشريعة قبله ، وإن صدر بما يخالف الشريعة رفضه . فأرى أن مثل هذا على خطر عظيم من تناول بعض الآيات حيث آثر دنياه على آخرته ، وقد ارتكب منكراً عظيماً ، فهو على خطر من الردة عن دين الإسلام لركونه إليهم وبقائه بين أظهرهم ، لكن لا أجزم بالحكم عليه بالردة ، فأتوقف في ذلك ، ولكنه بأخذه الجنسية أظهر الميل والمحبة لهم وعرض نفسه للدخول تحت قوله (لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله).

القسم الثالث : من بلي (من المسلمين) بهم (بالكفار) في بلاده وهو كاره لهم ومبغض لدينهم ، وحكموه بغير رضاه وأرغموه على التجنس أو مغادرة بلاده وأهله وأولاده ، فقبلها للبقاء في بلاده، على ماله وأهله وولده ، ومع ذلك هو مقيم لشرائع الدين ، مظهر لدينه ، معلن العداء لهم ، مصارح لهم بكفرهم ، وأنهم على باطل ، وأن دينه هو الحق ، فمثل هذا لا شك أنه على خطر في بقائه عاص ، وآثم بقبوله الجنسية بمقدار ما ألزم نفسه فيها ، لكن لا نحكم عليه بالكفر ما دام أنه عمل ما في وسعه من عدم اتباعهم وموافقتهم على باطلهم ومن إظهار دينه ، ولكن بقاءه بين أظهر الكفار فيه خطر عليه وعلى أولاده ومن تحت يده» [440][13].

ويرفض أحد المشايخ في فرنسا ، محمد بن عبد الكريم الجزائري ، الجنسية الغربية ويعتبرها ردة عن الدين الإسلامي . وألف كتيباً بعنوان (تغيير الجنسية ردة وخيانة)  [441][14]. أما الخمليشي عبدالله الطائي ، إمام مسجد مغربي في أمستردام فيقول «إن المسلم الذي يقبل جنسية دولة غير مسلمة يحرم نفسه من انتمائه لدولته المسلمة بكل ما في ذلك من امتيازات وقدرات ، يريد أن ينتهي مرتداً . فقد يُجبر هو أو أولاده على أداء الخدمة العسكرية ومحاربة إخوانه المسلمين أو الدول الإسلامية . إن التجنس يتضمن القبول بالقوانين الأجنبية . وهذا القانون هو الذي ورد ذكره في القرآن وسماه بالطاغوت ، ونهى الله تعالة المسلمين عن موالاته . وفوق ذلك فإن التجنس يتضمن تقوية الكفار بما نهى الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)عنه» [442][15]. وللشيخ يوسف القرضاوي رأي آخر ، حيث ينظر لتواجد المسلمين في الغرب أنهم أزاء مسؤولية كبيرة هي الدعوة إلى الله ، وأن حصولهم على الجنسية سيسهل أعمالهم ونشاطاتهم ، فيقول «إن تواجد المسلمين خارج العالم الإسلامي هو شرط أساسي لأداء الدعوة إلى الإسلام ، وبإمكانه دعم أولئك الناس الذين يعتنقون الإسلام . وفي عالم اليوم ، لاشك أن حصول المسلم على جنسية البلد المضيف يتضمن فوائد كثيرة ، وبهذه الطريقة سيزداد تأثيره . أما من ناحية مضارها ، فلا أحد يزعم أن التجنس يتضمن نوعاً من الركون أو الولاء للكفار ، والذي يحرّمه القرآن الكريم . فالقرآن يحرم الركون والولاء للكفار الذين يحاربون الإسلام . وهذا لم يعد قائماً في هذا العصر ، عصر الثقة المتبادلة والحل السلمي ، إنه عصر التعايش بين الأيديولوجيات» [443][16].

أما قضية الخدمة العسكرية فالشيخ القرضاوي لا يرى إشكالاً في ذلك ، إذ يقول «لا ضير في أداء الخدمة العسكرية التي تتبع الحصول على الجنسية الغربية . فاحتمال اضطرار حمل السلاح ضد الإخوة المسلمين قائم في العالم الإسلامي نفسه ، ويمكن توضيح ذلك في الحروب الأخيرة بين المسلمين كالحرب العراقية  ـ الإيرانية» [444][17]. وفي حرب الخليج في الكويت عام 1991 شاركت عشرات الجيوش العربية والإسلامية (مثل مصر وسوريا والسعودية والكويت والإمارات والباكستان والمغرب والسنغال) في القتال إلى جانب القوات الغربية ضد الجيش العراقي . وما زالت قوات المجاهدين الأفغان في حرب وقتال منذ عام 1989 .

وما زالت الحكومات في البلدان الإسلامية تستخدم الجيوش المسلمة لقتل المسلمين سواء من نفس الشعب أو الإعتداء على شعب مسلم آخر ، فما هو الوضع الشرعي لهؤلاء الجنود والضباط ؟

ولا يرى فقهاء الشيعة إشكالاً في حصول المسلم على الجنسية الغربية في ذاتها ، لكن بعضهم يشترط أن لا تؤدي إلى ما هو خارج الدين والشريعة . يقول السيد كاظم الحائري «يجوز إكتساب الجنسية على أن لا يستفيد منها ما هو محرم عليه، مثلاً كما لو كانت إمرأة فأخذت من الإرث بقدر ما يساوي سهم أخيها المسلم . فمع تجنب أمثال ذلك من المحرمات لا تحرم الإستفادة من جنسية البلدان الكافرة» [445][18] .

أما المرجع الديني آية الله لطف الله الصافي فيؤيد رأي الحائري في ضرورة أن لا يؤدي اكتساب الجنسية إلى الوقوع في المعاصي أو ارتكاب المحرمات ، ويعتبر مسألة الحصول عليها من حالات الإضطرار التي يتوقف عليها أمر هام لا يمكن للشريعة أن تتغاضى عن إستيفائه ، فيقول في جواب السؤال وجهته لسماحته حول التجنس بجنسية غربية ، ما يلي : «إن كان الحصول على الجنسية موجباً لفرض القوانين الكافرة على الشخص المسلم ومستلزماً لها بحيث يوجب وقوعه في المعاصي والمحرمات فلا يجوز ذلك . نعم لو اقتضت الضرورة وتوقف حفظ مصلحة مهمة لا يرضى الشارع بإهمالها ، فالضرورات تقدر بقدرها» [446][19].

ويتفق الشيخ محمد علي التسخيري مع ذلك الرأي حيث يقول «التجنس بجنسية البلاد الكافرة في نفسه لا مانع منه ، إلا إذا ترتب عليه عمل محرم ، فيجب ملاحظة المستلزمات في ذلك . والحقيقة أن هذه المستلزمات موجودة ، فإذا أمكنه التخلص منها فلا مانع ، وإلا فلا يجوز ، إلا أن تكون ضرورة .

أما الإنخراط في الجيش المترتب على التجنس لمصلحة إسلامية فقد توضح الجواب في القسم الأول من جواب هذا السؤال» [447][20].

 

 

الإنتماء إلى الأحزاب السياسية الغربية

نتيجة للعيش في المجتمعات الغربية ، وقبول بعض المتطلبات من أجل المشاركة في الحياة السياسية ـ الإجتماعية ، فقد وجد المسلمون أنفسهم مدعوين للإنضمام إلى الأحزاب السياسية في البلدان الغربية . ولما كانت الأنظمة السياسية تعتمد الديمقراطية والإنتخابات وسيلة لإدارة البلاد وتبادل السلطة ، فقد اكتسبت الأحزاب السياسية أهمية كبرى في الحياة السياسية في المجتمعات الغربية . فهي التي تضع الخطط والسياسة العامة وتتخذ القرارات وتناقشها وتسن التشريعات في البرلمانات . ولذلك تعتبر الأحزاب أقوى وسيلة في التأثير على القرارات والمواقف السياسية . وفي أغلب البلدان الغربية ، نجد أن الأحزاب السياسية تفتح أبوابها أمام الأجانب ومن ضمنهم المسلمين للإنضمام إليها والمساهمة في نشاطاتها . وبإستطاعة المسلم الحاصل على جنسية البلد المضيف أن يصبح عضواً في البرلمان إذا حصل على أصوات الناخبين . إذ يوجد بضع نواب مسلمين في البرلمان الهولندي ، على سبيل المثال .

وإذا كانت قضية التجنس قد أثارت جدل الفقهاء ومدى ارتباطها بموضوع الركون للكفار والولاء لهم ، فإن مسألة الإنتماء للأحزاب السياسية الغربية (الكافرة) تثير الكثير من الجدل والنقاش . وتتأثر نظرة الفقهاء للقضية حسب فهمهم للواقع الحاضر والظروف التي يعيشها المسلمون في الغرب ، ومدى وضوح الصورة لديهم حول طبيعة الأحزاب الغربية وأهدافها ووظيفتها . ومع ذلك فإن بعض الفقهاء المعاصرين يؤيد الإنضمام إلى الأحزاب السياسية الغربية كالشيخ جاد الحق ، شيخ الأزهر السابق ، الذي يقول :

«لما كان التعايش مع غير المسلمين ، وفي بلادهم يستدعي الحفاظ على حقوق المسلمين ، وكانت النظم السياسية والإدارية متفاوتة ، فهي في بلد غيرها في بلد آخر ،  وهي  ـ  بجملتها ـ  ليست من الأحكام المستمرة أو المستقرة ، بمعنى أنها قابلة للتغيير ، وتدخل في نطاق أحكام المعاملات التي لم ترد محاذيرها مفصلة في القرآن ، والسنة ، وإنما جاءت مجملة على نحو ما نوهت عنه هذه الآيات الكريمة ، (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم ولم يخرجوكم من ديارهم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين)(الممتحنة: 8) وقوله تعالى (اليوم أحل لكم الطيبات ، وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم ، والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ..) (المائدة:5) . فقد أشارت الآيات إلى أن معايشة المسلمين لغير المسلمين في وطن واحد ، والتعاون معهم في أمور الحياة مباح ، غير منهي عنه ، ما داموا لم يتعرضوا للمسلمين في أمر الدين أو الديار . كما أباحت للرجل المسلم التزوج من المرأة الكتابية ، أي تكوين أسرة ينشأ فيها أولاد ، ويترتب عليها صهر ، بإفتراض إستمرار الزوجة غير المسلمة على دينها . وفي هذا إباحة التعامل في سائر أمور الحياة بين المسلم وغير المسلم ، دون إضرار بالإسلام ، ولا بالمسلم في عقيدته ودينه .

وإذا كانت الأحزاب السياسية قد برزت في العصر الحالي كوسيلة للتنافس على الوصول إلى الحكم في أغلب دول العالم ، وكذلك الجمعيات والمؤسسات التعاونية الأخرى والنقابات ، كل ذلك لخدمة أغراض إجتماعية ، أو فئوية أو سياسية ، وكلها تدور مع المصالح الذاتية ، والعامة لأعضائها في نطاق النظام العام للدولة .

إذا كان كذلك ، فإنه لا حرج على مسلم ، أو أكثر من الإنضمام إلى أي من الأحزاب المعترف بها من الدولة بالرغم من علمانيتها ، أو نصرانيتها ما دامت لا تمس العقيدة الإسلامية ، أو المصالح الأساسية للمسلم . ومن ثم كان من المباح في الإسلام إنضمام المسلم  ـ  فرداً كان أو جماعة ـ  إلى أي حزب من الأحزاب السياسية ذات الكيان القانوني في الدولة التي يقيم المسلم على أرضها ، وفي نطاق قوانينها ، قصداً إلى التمكن من ترشيح نفسه في انتخابات المجالس البلدية أو المجالس النيابية . ومن المباح  ـ كذلك ـ  للمسلم وللمسلمين كافة في أية دولة الإدلاء بأصواتهم في الإنتخابات لصالح حزب دون التحالف معه، أو مع التحالف ، للإستعانة بكل ذلك على تحقيق مصالح المسلمين وحمايتها والدفاع عن الحقوق المشروعة لهم بالذمة والصدق . وعلى المسلمين  ـ  في هذه الدول  ـ  أن يسلكوا هذه الطرق المشروعة ، وفي نطاق قوانين تلك البلاد ، ليكون لهم صوت يحمي مصالحهم ، أو ينضموا إلى حزب أو أكثر حسبما يرون ، ويصوتوا في الإنتخابات لحزب أو أكثر ، ما دام ذلك في صالحهم في موطنهم بشرط ألا يضر هذا بالإسلام عقيدة وشريعة .

وعلى من يكون من المسلمين عضواً في المجالس البلدية ، أو النيابية ألا يصادق على أمر معروض ضد عقيدة الإسلام ، أو ضد مصالح المسلمين ، فلا يصادق على إباحة أمر محرم في الإسلام ، أو يناهض أصول العقيدة الإسلامية» [448][1].

ويتفق الشيخ يوسف القرضاوي مع أهمية دخول المسلمين في الغرب في الأحزاب السياسية ، حيث يؤكد «أن ذلك سيكون مصدر قوة لهم من أجل الدفاع عن حقوقهم وأوضاعهم هناك. وأن عليهم أن يعملوا ما بوسعهم في ذلك السبيل ، فإذا كان حصولهم على الجنسية سيقويهم فليفعلوا ذلك ، وإذا كان الإنتماء للأحزاب الإسلامية يقويهم ، فليفعلوا ذلك أيضاً». ويرد على اعتراض حول قضية موالاة غير المسلمين فيقول «أن الأمر ليس كذلك ، والمسلم ينتمي بهدف معين ، ولا يستلزم موالاته لهم» . ويرد على إشكال آخر يتلخص بأن الفقهاء في البلدان الإسلامية يحرمون الإنتماء إلى الأحزاب العلمانية والإشتراكية فكيف يحللون الإنتماء إليها في الغرب ؟ فيجيب أن «الفتوى تتغير بحسب الظروف والمواضيع ، وأنه في البلد الإسلامي شيء وفي البلدان الغربية شيء آخر» [449][2].

ويؤيد الشيخ محمد علي التسخيري دخول المسلمين في الأحزاب السياسية الغربية ، حيث يرى أنه لا مانع منه ، لكنه يضع شرطاً هو أن لا يؤدي ذلك إلى عمل محرم [450][3] .

ويوافق السيد محمد حسين فضل الله على دخول المسلمين في البرلمانات الغربية ، رغم أنه لم يوضح كيفية دخولها ، إلا إذا اعتبرنا أن سماحته على علم بأن دخول المسلم في البرلمان يستلزم حصوله على أصوات كافية من الشعب ، وأن النظام الإنتخابي في الغرب يعتمد على اللوائح الحزبية للأحزاب السياسية . أي أن المسلم قد تم ترشيحه من قبل حزب ينضم إليه ، وفوزه هو فوز للحزب أولاً . فإذا كانت هذه المقدمة صحيحة فمعنى ذلك أن السيد فضل الله يؤيد الإنضمام للأحزاب السياسية الغربية . يقول سماحته رداً على سؤال حول جواز الدخول في البرلمانات الدولية والمشاركة في مجلس النواب ، فأجاب :

«لا مانع من ذلك إذا كانت هناك مصلحة إسلامية عليا ، والظاهر وجود المصلحة غالباً بشرط أن يكون المشاركون في مستوى المسؤولية في المحافظة على مصالح المسلمين» [451][4]. فهو يشترط وجود مصلحة إسلامية ، ويؤيد وجودها في أغلب الأحيان .


الإسلام والإتفاقيات الدولية

منذ نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945 ، وحصول أغلب الدول الإسلامية على استقلالها السياسي ، بدأت بتأسيس حكومات وطنية بعد عهد طويل من الإستعمار والإنتداب الغربي . ولأول مرة تتمتع الدول الإسلامية بالسيادة التامة على كامل أراضيها .وبمرور الوقت أقامت الدول الإسلامية علاقات متنوعة مع بقية الدول والأمم . سياسياً ، كانت العلاقات ، في معظم الأحيان ، بين العالم الإسلامي وبين الغرب ، أوربا وأميركا ، جيدة ووطيدة ، مقارنة بعلاقات الأخيرتين مع المعسكر الشيوعي طوال الحرب الباردة . وخلال الحرب الباردة (1950 ـ 1990) بين الكتلتين الغربية والشرقية ، بادرت بعض الدول الإسلامية مثل مصر وسوريا والعراق والجزائر وليبيا واليمن الجنوبي إلى تقوية علاقاتها مع الإتحاد السوفياتي كبديل للعلاقة مع الغرب التي اتسمت بماض إستعماري وإستغلال إقتصادي وقمع سياسي ، وكذلك من أجل الحصول على الخبرة والسلاح السوفياتي الرخيص الثمن والمتطور ، في حين كانت أميركا وأوربا تضع شروطاً غير مقبولة من قبل الأنظمة الثورية التي أمسكت بزمام السلطة في تلك الدول . ومع ذلك فإن أغلب دول العالم الإسلامي بقيت محافظة على علاقاتها السياسية والإقتصادية القوية مع الغرب ، لوجود مصالح مشتركة بين الطرفين .

في الخمسينات كان الشرق الأوسط ، وما يزال ، يحتل موقعاً هاماً في الستراتيجية الغربية ، فقد بادرت أميركا وبريطانيا إلى التفكير بوضع خططها من أجل محاصرة التوسع السوفياتي في المنطقة ، عبر ربط دول الشرق الأوسط في إطار سياسي يبدأ من مفهوم التعاون الإقتصادي والسياسي لينتهي إلى حلف عسكري وأمني ضد السوفييت . في عام 1946 حاولت بريطانيا تطوير بنية أمنية في المنطقة ، حيث شجعت العراق وتركيا على البدء بالمشروع ، فوقع الطرفان بتاريخ 24 شباط 1955 المعاهدة التركية ـ العراقية والتي سميت فيما بعد بحلف بغداد ، بعد أن انضمت إليه إيران والباكستان وبريطانيا [452][1] . وتضمن ميثاق الحلف التعاون المشترك بين الدول الموقعة في قضايا الدفاع والأمن ، وبموجب المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة . واتفقت الأطراف على عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأعضاء في الحلف ، وعلى حل النزاعات سلمياً فيما بينهم ووفقاً لميثاق الأمم المتحدة .

ولم يكن علماء الإسلام بعيدين عن مراقبة هذه التوجهات والخطط ، فقد انتقد الشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء ، من فقهاء النجف الأشرف بالعراق ، الإتصالات والمفاوضات التي كانت جارية إستعداداً لتوقيع حلف بغداد ، فكتب مقالة ، صدرت في كتيب ، بعنوان (المثل العليا في الإسلام ، لا في بحمدون) . ورغم أن المقالة كانت موجهة ضد السياسة الأميركية وضد عقد مؤتمر يضم علماء مسلمين ومسيحيين في مدينة بحمدون بلبنان للفترة 22 ـ 27 نيسان 1954 ويستهدف إستخدام الدين لمواجهة الشيوعية ، وكان قد دعي إليه إلا أنه رفض المشاركة ، إلا أن الشيخ كاشف الغطاء تناول حلف بغداد بالإنتقاد فقال :

«كيف وأنى يتورط العراق بالدخول في حلف تركيا والباكستان ؟ ، في الوقت الذي تدعو فيه الحكومة العراقية الدول العربية إلى الوحدة العربية أو الإتحاد العربي . كيف نحالف تركيا وهي صديقة (إسرائيل) في الوقت الحاضر ، وأول دولة (إسلامية) إعترفت بها ولا تزال تؤيدها وتروج بضاعتها وتجارتها ؟

وحكومة تركيا الآن عدوة العرب والإسلام وصديقة اليهود ، وقديماً قالوا (صديق عدوي ليس لي بصديق) وقد باعت تركيا شرف إستقلالها بالدولار وصارت آلة لأميركا ، تصرفها كيف تشاء ، وبإشارة منها أصبحت أكبر مساعد لإسرائيل لقيطة أميركا وابنتها المدللة . ثم أن دخول العرب في حلف تركيا سهم في قلب العروبة ... ثم فتحت أخيراً أميركا عيونها وجاءت تريد الحصة الوافرة بل الكل من هذه الفريسة وتضحك على الذقون ، فتقدم المساعدات المالية والأسلحة الرمزية ، والقواعد العسكرية ، ولا شيء إلا المواعيد الخلابة ، والأقاويل الكاذبة» [453][2].

تقبلت الدول الإسلامية الأفكار والمبادئ القانونية الغربية السائدة في القانون الدولي باعتبارها الأسس التي تعتمدها في علاقاتها الخارجية . ويرى أحد الخبراء بالقانون الدولي الإسلامي أنه «من الصعب تقييم كيف حدثت تلك التطورات في الدول والمجتمعات الإسلامية ، وخاصة على ضوء التحفظ الموروث للقانون الإسلامي ، بالإضافة إلى بقية العناصر الثقافية في العالم الإسلامي . ففي معظم البلدان الإسلامية واجه الغرب مقاومة كبيرة إن لم يكن إمتعاضاً وعداءً . وعلى غير المتوقع ، جرى قبول معايير القانون الدولي بشكل يثير التعجب» [454][3].

وبعد حصولها على استقلالها ، كانت الدول الإسلامية تبدي حرصاً على الإنضمام إلى المنظمات الدولية من أجل الحصول على اعتراف دولي بها ، ولتبدأ بممارسة دورها على الصعيد الدولي . كما أخذت تعقد إتفاقيات وتوقع معاهدات ، وتقيم علاقات دبلوماسية وسياسية وإقتصادية مع بقية دول العالم . وعدا الأمم المتحدة ، إنضمت الدول الإسلامية إلى المنظمات الدولية مثل إتحاد الإتصالات الدولية (ITU, 1865)، إتحاد البريد العالمي (UPU, 1878)، منظمة الطيران المدني الدولي (ICAO, 1947)، صندوق النقد الدولي (IMF, 1945)، البنك الدولي للإعمار والتنمية World Bank, 1946) الإتفاقية العامة للتعرفة والتجارة (GATT, 1948)، منظمة التعليم والثقافة والعلوم ( UNESCO,1946)، منظمة الأغذية والزراعة (FAO, 1945)، منظمة الصحة العالمية (WHO, 1948)، صندوق الطفولة العالمي وبرنامج الغذاء الدولي وغيرها .

وتشكلت منظمات دولية ذات أرضية معينة ، (اللغة) جامعة الدول العربية عام 1945 ، (الدين) منظمة المؤتمر الإسلامي عام 1969 ، (النفط) منظمة الدول المصدرة للنفط OPEC، (سياسي ـ عسكري) مجلس التعاون الخليجي عام 1980 .

وقد وقعت الدول الإسلامية على معاهدة جنيف 1961 الخاصة بالعلاقات الدبلوماسية ومعاهدة فينا 1963 الخاصة بالعلاقات القنصلية . وأصبحت الدول الإسلامية ملزمة بتنفيذ هذه الإتفاقيات بموجب القانون الدولي الإسلامي . فالشريعة الإسلامية تفرض إحترام أية معاهدة توقعها الدولة الإسلامية وتفرض عليها الإلتزام بها في كل الظروف . فمعاهدة فينا الآنفة الذكر مثلاً تمنح الحصانة الكاملة للدبلوماسيين ، وتمنع إعتقالهم ، حبسهم أو إضطهادهم [455][4] . وكما يتمتع بهذه الإمتيازات الدبلوماسيون الأجانب في البلدان الإسلامية ، يتمتع بها أيضاً السفراء والقناصل المسلمون في الدول الأجنبية .

ودخلت الدول الإسلامية في إتفاقيات ومعاهدات مع الدول الغربية في شتى المجالات والنواحي التي تنظم العلاقات وشؤون التجارة ، السفر ، النقل ، الإتصالات ، التبادل الثقافي والعلمي ، التمثيل الدبلوماسي ، الفن ، التكنولوجيا ، التدريب العسكري ، صفقات الأسلحة ، التعاون الأمني ، المواد الخام والنفط والغاز ، وأموراً أخرى كثيرة مما يحقق مصالح الطرفين . أما العلاقات السلمية فقد توثقت إلى مستوى الأحلاف العسكرية . فهناك العديد من معاهدات دفاع مشترك بين بعض الدول الإسلامية والدول الغربية . فالولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وفرنسا وقعت إتفاقيات سياسية ـ  عسكرية مع السعودية والكويت والبحرين وعمان والباكستان . وكانت تركيا الدولة المسلمة الوحيدة العضو في حلف منظمة حلف شمال الأطلسي ، الناتو NATO كما أن بعض البلدان الإسلامية وافقت على إقامة قواعد عسكرية غربية على أراضيها ، مثل السعودية والبحرين وعمان وتركيا ، وخلال الحرب العراقية ـ الإيرانية (1980 ـ 1988) قررت الكويت تسيير ناقلاتها النفطية وهي ترفع العلم الأميركي تفادياً للصواريخ الإيرانية في الخليج .

 

مناقشات حول الإتفاقيات الدولية

أغلب المعاهدات والإتصالات والنشاطات التي تقوم بها الدول الإسلامية تستند على مبررات فقهية يقدمها الفقهاء والمؤسسات الدينية في هذه الدول . ويبذل الفقهاء جهوداً من أجل التوفيق بين السلوك العام للدولة وبين القواعد الأصولية والأحكام الفقهية للشريعة الإسلامية ، مستهدفين الوصول إلى حلول للمشاكل المتعلقة بالمعاهدات الدولية والعلاقات الخارجية . ويسعون لتطوير الفقه الإسلامي لمواجهة الظروف المستجدة والتغيرات السياسية والدولية ، وأن الإسلام قادر على التكيف بسهولة مع مختلف نواحي النشاط الإنساني ، ولديه فقه غير منغلق بل فيه من المرونة ما يجعله صالحاً لكل زمان ولكل أمة . كما أن الإسلام قادر على التعامل مع الشؤون الدولية والقانون الدولي ، ومتطلبات الدولة الإسلامية العصرية; وأن للإسلام ما يقوله في كل قضية ومشكلة بناءً على أسس ومبادئ فقهية وأخلاقية . وتسعى المؤسسات الدينية للوقوف غالباً إلى جانب الحكومات ، وتبرير قراراتها وإضفاء الشرعية عليها . ولسنا بصدد تقييم ما إذا كان ذلك صحيحاً أم لا ، لأن لكل طرف آراءه وحججه الفقهية . كما أن الخلاف غالباً مايكون ذا بعد سياسي أكثر منه فقهي أو أصولي . وحتى عندما تغير الحكومات مواقفها وتتراجع عن شعاراتها ، تجد مبررات وتفسيرات دينية تدعم هذا التغير ، وتؤيد الموقف الجديد .

نذكر على سبيل المثال موقف مؤسسة الأزهر العريقة في مصر تجاه القضية الفلسطينية والعلاقات مع إسرائيل . فقد كان شيخ الأزهر طوال عقود من السنين يصدر فتاوى الجهاد في فلسطين ، وحث الجماهير المسلمة على المشاركة فيه ودعم الكفاح المسلح للشعب الفلسطيني ، فكان ذلك هو الموقف السائد في حروب العرب مع إسرائيل ، حرب 1948 ، حرب 1967 وحرب 1973 ، إضافة إلى عشرات البيانات والتصريحات في المؤتمرات والمناسبات الوطنية والدينية . وتحت أيدينا بعض الفتاوى المتعلقة بقضية فلسطين ، مثلاً الفتوى التي أصدرها الأزهر عام 1948 ووقعها 26 عالماً وفقيهاً [456][1] . وكانت المؤتمرات الإسلامية التي يشرف الأزهر على إقامتها تؤكد دائماً على أن «تحرير فلسطين وأمنها لازم لأمن الديار المقدسة (مكة والمدينة) ولأداء الشعائر الدينية لجميع المسلمين في المشارق والمغارب . لذلك كان الدفاع عن فلسطين والعمل على تحريرها فرضاً على كل مسلم ، وكان القعود عنه إثماً ، ومن ثم يوصي المؤتمر في شأن هذه القضية بما يلي :

1 ـ أن يولي المسلمون جميعاً قضية فلسطين كامل عنايتهم وجهودهم حتى يتم تحرير هذا الوطن العربي الإسلامي المغتصب تحريراً كاملاً .

2 ـ أن تسحب الدول الإسلامية التي اعترفت بحكومة إسرائيل هذا الإعتراف . وأن توقف الدول والشعوب الإسلامية التي تتعامل مع إسرائيل هذا التعاون ...» [457][2]. وتغيرت المواقف بعد زيارة الرئيس أنور السادات إلى تل أبيب عام 1977 ثم توقيع إتفاقية كامب ديفيد عام 1979 والتي اعترفت مصر فيها بإسرائيل وأقامت علاقات دبلوماسية معها ، وزيارات متبادلة وبدء تطبيع العلاقات بينهما . وفي حين إستنكر العالم الإسلامي والمؤسسات الدينية تلك المعاهدة ، إلا أن شيخ الأزهر جاد الحق أصدر فتوى تدعم مبادرة السادات ، وتؤيد إقامة علاقات سلمية مع إسرائيل ، وتبرر توقيع معاهدة كامب ديفيد . وكان رأي مؤسسة الأزهر أنه للحاكم أو الإمام الحق في عقد هدنة مع العدو متى ما رأى ذلك في صالح المسلمين [458][3] .

وحالة أخرى حول تغير المواقف للدول الإسلامية فيما يتعلق بالعلاقات الخارجية هو ما حدث من تبدل الموقف الإيراني تجاه الحرب مع العراق . فطوال الحرب كان الإمام الخميني (1900 ـ 1989) يرفض أي وقف لإطلاق النار أو إنهاء الحرب رغم العروض الكثيرة . وكان موقفه يعتمد على أن الرئيس العراقي صدام حسين هو الذي بدأ العدوان ، فهو الطرف المعتدي ويجب أن يُعاقب على أعماله وجرائمه . وكان الإمام الخميني يردد شعار (لا معنى للصلح بين الإسلام والكفر) أي بين إيران (الإسلام) والعراق (الكفر). وكان يعتبر صداماً كافراً . وصرح في 20 تشرين الأول 1980 «أن صداماً لا ينصلح إلا إذا سحب قواته وغادر العراق ويتخلى عن حكومته الفاسدة; ويترك الشعب العراقي ليقرر مصيره بنفسه . إن المسألة ليست حرباً بين حكومة وأخرى ، إنها قضية غزو عراقي بعثي كافر على بلد إسلامي ،وهذا بغي وكفر ضد الإسلام» [459][4]. وكانت الجماهير الإيرانية تردد في التظاهرات والإجتماعات والصلوات شعار (حرباً ، حرباً حتى رفع الفتنة في العالم) . وبعد تغير ميزان القوى في الحرب واستخدام صدام حسين الأسلحة الكيماوية ضد القوات الإيرانية ، وازدياد الدعم الغربي والمحلي للجهد العسكري العراقي ، وتجهيز العراق بالأسلحة المتطورة والصواريخ البعيدة المدى التي وصلت طهران وقم ، أعلن الإمام الخميني في آب 1988 موافقته على قرار مجلس الأمن المرقم 598 الصادر عام 1987 . ويضع القرار 598 نهاية للحرب ويرسي دعائم السلم والإستقرار ، وحل النزاع بين البلدين . وسرعان ما بادر بعض القادة الإيرانيين إلى تبرير الموقف الجديد ، وأن القرار الذي رفضوه طوال عام كامل ليس بتلك الدرجة من السوء ، بل هو يصب في النهاية لصالح إيران ، ويحقق جانباً مما كانت تريده من المجتمع الدولي 


 

 

 

المصلحة الإسلامية والعلاقات الدولية

إن الأساس الذي إعتمدته المؤسستان الدينيتان ، السنية والشيعية ، هو المصلحة الإسلامية .وقد ناقشنا رأي المدرسة السنية من قبل [460][1] . أما المدرسة الشيعية فتقسم الأحكام الإسلامية إلى  :

1 ـ القواعد الأولية : وهي الأحكام الأولية التي تأتي عامة ، ويمكن تعريفها بأنها الأحكام المجعولة للأشياء أولاً وبالذات ، كإباحة شرب الماء ، وإباحة المشي ، وحرمة الخمر ووجوب الصلاة .

2 ـ الأحكام الثانوية : وهي الأحكام التي تجعل للأشياء بلحاظ ما يطرأ عليها من ظروف وشروط وعناوين أخرى تقتضي تغيير حكمها الأولي ، فشرب الماء المباح إذا كانت تتوقف عليه الحياة يصبح واجباً ، وإذا كان يترتب عليه ضرر يصبح حراماً . والقواعد الثانوية تعبر عن المرونة الإسلامية [461][2] .

والقواعد الثانوية كثيرة في الشريعة ، ولم يتعرض الفقهاء لإحصائها ودراستها بصورة مستقلة وكافية ، وهو موضوع هام ونافع ، ويدخل في كثير من أبواب الفقه ، منها : 1) الضرر 2) العسر 3) الحرج 4) الخطأ 5) النسيان 6) الإكراه 7) الجهل (ما لا يعلمون) 8) العجز (ما لا يطيقون) 9) الإضطرار [462][3].

3 ـ منطقة الفراغ : وهي المنطقة التي لا يوجد فيها نص شرعي حول قضية أو حكم ما ، إنما هي مما يدخل في باب المباح ، فيحق للحاكم الشرعي أن يملأها وفقاً لمصالح الدولة الإسلامية والشعب المسلم . فيمكن للحاكم الإسلامي أو من يمنحه هذه الصلاحيات كمجلس الوزراء أو البرلمان إصدار تشريعات وقوانين وقرارات تتعلق بالقضايا والشؤون التي ليس لها نص شرعي ، قرآن أو سنّة .

وبناء على هذه القواعد ، يشرح الشيخ محمد علي التسخيري موقف الحكومة الإيرانية الآنف الذكر بصدد إيقاف الحرب مع العراق والقبول بالقرار 598 ، فيقول :

«وهناك تطبيقات كثيرة في مختلف المجالات ، نذكر منها : مسألة القبول بالقرار 598 ووقف إطلاق النار (بين إيران والعراق 1980 ـ  1988) ، فمع أن الحكم الأولي على النظام العراقي أنه باغ يجب أن يُقاتَل ويُعاقَب على إجرامه الكبير، ولكن الأضرار التي كانت تترتب على عدم القبول كبيرة ، دعت لتقديم هذا الحكم الثانوي على الحكم الأولي» [463][4].

ويؤمن الفقهاء المسلمون بأن المصلحة الإسلامية هي الأساس في إقامة علاقات ثنائية ودولية مع دول العالم من غير المسلمين . ولا يوجد هناك فرق بين الدول المسيحية في أوربا وأميركا الشمالية والجنوبية وأفريقيا وآسيا وأستراليا وغيرها; أو الدول الوثنية وغير الكتابية مثل الصين والهند وكوريا واليابان وسيريلانكا وتايلاند وفيتنام والنيبال وغيرها . ويرى السيد محمد حسين فضل الله أن عقد إتفاقيات مع هذه الدول لا حدود له مما تفرضه المصلحة الإسلامية فيقول : «فيمكن الدخول معها في معاهدة عدم إعتداء أو صداقة أو تبادل تجاري أو أمني أو ثقافي مما تفرضه المصلحة الإسلامية العليا» [464][5].

ويتفق السيد كاظم الحائري مع صحة عقد المعاهدات مع الكفار والدول غير المسلمة ، ودور المصلحة فيها فيقول :

«لو لم يصح عقد القرارات والعهود على الإطلاق بين المسلمين والكفرة لما عقد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بعض التحالفات التي عقدها مع قسم من الكفار ، ولما قال الله تعالى في سورة براءة (إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئاً ، ولم يظاهروا عليكم أحداً ، فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين) . ولما قال الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) في ذكر أوصاف المسلمين (يسعى بذمتهم أدناهم) (راجع : الحر العاملي، «وسائل الشيعة إلى تحصيل الشريعة» / الباب 31 من قصاص النفس) ، بل ورد في الحديث عن الإمام الصادق(عليه السلام) : لو أن قوماً حاصروا مدينة فسألوهم الأمان فقالوا : لا فظنوا أنهم قالوا نعم فنزلوا إليهم كانوا آمنين . (راجع : وسائل الشيعة إلى تحصيل الشريعة / الباب 2 من جهاد العدو)» [465][6].

ويعتبر الشيخ لطف الله الصافي المصلحة الإسلامية هي القاعدة في عقد الإتفاقيات الدولية فإذا انتفت المصلحة فلا يجوز عقد المعاهدات الدولية ، فيقول :

«جواز كل هذا يدور مدار ما تقتضيه المصالح الإسلامية والضرورات الملحة الملزمة ، وإلا فلا يجوز الموافقة على الإتفاقيات الناقضة لبعض الحقوق الإسلامية . ولا أرى وجهاً ومصلحة للإنضمام إلى أكثر تلك الإتفاقيات . فالإستقلال الإسلامي والمحافظة على الحقوق الإسلامية أمر لا يجوز التنازل عنه لبعض الملاحظات ، وإن كان بسيطاً أو يسيراً» [466][7].

ويبدي الشيخ الصافي تحفظاً تجاه الإتفاقيات والمنظمات الدولية ، فيبدو غير مقتنعاً بأهدافها وأنها على العموم تحقق مصالح الغرب ، ويطالب المسلمين أن يمسكوا هم بزمام المبادرة في طرح الإتفاقيات الدولية فيقول :

«لماذا لا يكون المسلمون هم المبتكرون للإتفاقيات لينضم إليها غيرهم ؟ فالإتفاقيات الدولية إن لم تكن مقبولة عند المسلمين وكانت مرفوضة من قبل المسلمين ودولهم ، فلا تبقى لقراراتها طبيعة تنفيذية .

وبالجملة ، لا نرى وجهاً وضرورة لقبول قرارات تلك المنظمات المخالفة لمصالح المسلمين وحقوقهم .

وها نحن نرى الحكومة المفروضة من جانب الإستعمار والإستكبار على مسلمي فلسطين تعد نفسها عضواً في الأمم المتحدة ولا تقبل قرارات مجلس الأمن وغيره ولا تنفذها».

ويبحث الشيخ حسين علي منتظري في (وجوب الوفاء بالعهد وحرمة الغدر ولو مع الكفار) في بحثه الواسع حول (ولاية الفقيه وفقه الدولة الإسلامية) ثم يقرر :

«إذا عاهدت الحكومة الإسلامية أو أمتها دولة أو فرداً من الكفار ، أو مؤسسة تجارية أو خدمية لهم ، واستحكم العقد بينهما ، وجب الوفاء به ولا يجوز نقضه إلا مع تخلف الطرف (الكافر) ونقضه (للعقد)» [467][8].

وأكد علماء وفقهاء الإسلام الذين اجتمعوا في مكة المكرمة (10 ـ 12 أيلول 1990) إثر غزو العراق للكويت وأصدروا بياناً ، عُرف بوثيقة مكة ، على أهمية إحترام الإتفاقيات الدولية حيث جاء فيها :

«ولما كانت قواعد الشريعة الإسلامية تلزم بالوفاء بالعهود والمواثيق للمسلمين وغيرهم ، وتحمي الرسل والسفراء المقيمين في البلاد الإسلامية من غير المسلمين في أنفسهم وأموالهم لما قررته القوانين الدولية والأعراف الدبلوماسية ، فإن المؤتمر يطالب النظام العراقي بالإلتزام بهذه المواثيق واحترامها» [468][9].

لقد قبلت الدول الإسلامية بمبادئ القانون الدولي الذي لم يعد يحكم علاقاتها الخارجية مع الدول غير الإسلامية فحسب، بل بين الدول الإسلامية نفسها . فقد أدى خرق العراق لمعاهدة الجزائر 1975 بين العراق وإيران إلى نشوب حرب ضارية بين البلدين المسلمين ، مع أن المعاهدة جرى إعداد بنودها وفق القانون الدولي [469][10] وتم تسجيلها في الأمم المتحدة لضمان شرعيتها الدولية .

 

الإستعانة العسكرية بغير المسلمين

في الثاني من شهر آب 1990 إجتاحت القوات العراقية دولة الكويت واحتلت عاصمتها وألغت حكومتها ، واستطاع أمير الكويت وحاشيته ووزراؤه الهرب إلى المملكة العربية السعودية . وقد شعر الملك فهد بن عبد العزيز ، ملك السعودية ، بأن التهديد العراقي قد أصبح خطراً على مملكته ، فطالب المجتمع الدولي بالتدخل وإخراج القوات العراقية من الكويت . وكانت الولايات المتحدة الأميركية ترغب بالتدخل العسكري بهدف حماية آبار البترول والإحتياطي الهائل للنفط ، وحماية مصالحها . فحشدت الرأي العام العالمي ، وأصدر مجلس الأمن الدولي قراراً رقم 678 يمنح الأمم المتحدة صلاحية اللجوء للقوة لإخراج الجيش العراقي من الكويت . وسرعان ما بدأت القوات الغربية، أغلبها مسيحية ، إضافة إلى بضع مئات من اليهود الأميركيين ، بالتدفق السريع على الأراضي السعودية ، حيث بلغ حجمها نصف مليون جندي . وضمت كذلك قوات إسلامية ولكن لم يكن لها دور رئيس . أزاء ذلك بادر الإعلام العراقي بطرح قضية «تواجد القوات الأجنبية في الأراضي المقدسة» بإعتبارها قضية دينية، وزعمت الدعاية العراقية أن الشريعة الإسلامية تحرم الإستعانة بالكافرين وطلب الدعم العسكري منهم .

لقد كانت أول مرة في التاريخ الحديث يقوم فيها المسلمون بالإستعانة بقوات مسيحية أجنبية وتقديم المساعدة لبلد مسلم . فقد اعتاد المسلمون على رؤية القوات الأجنبية غازية لبلادهم في عصر الإستعمار حيث احتلت القوات البريطانية والفرنسية والإيطالية والإسبانية والهولندية بلداناً إسلامية عديدة . كما اتفقت بريطانيا وفرنسا وإسرائيل على مهاجمة مصر في حرب السويس عام 1956 . وكانت أميركا المجهز الرئيس لإسرائيل في حرب 1967 . وتدخلت القوات الأميركية في محاولة فاشلة لإنقاذ الرهائن الأميركيين في إيران عام 1980 . ودكت المدافع والصواريخ الأميركية والفرنسية المدن اللبنانية ومنها بيروت عام 1982 . وضربت الطائرات الأميركية الأراضي الليبية عام 1986 . هذه السوابق العسكرية والتاريخية جعلت أغلب المسلمين لا يصدقون حقيقة الأهداف الغربية من الحشود العسكرية في السعودية .

ورغم أن الخلاف بين العراق والحلفاء خلاف سياسي ـ  عسكري بحت إلا أن صدام حسين أراد إقحام الدين في الصراع، وإستخدامه لتعبئة المشاعر ضد أميركا والغرب . وجاء طرح قضية الإستعانة بالكفار كورقة ضغط على السعودية التي تشرف على الأماكن المقدسة ، وإحراجها أمام المسلمين ، حيث تحتل هذه القضية حساسية خاصة في نفوس المسلمين . وأخذت الدعاية العراقية في تعبئة وحشد أكبر عدد من أصوات المشايخ والعلماء للتنديد بتواجد القوات الأجنبية في المنطقة . وقد إستجاب لصدام قسم من العلماء في البلدان الإسلامية وعلماء وقادة الحركات الإسلامية في شمال أفريقيا والأردن ، الذين أصدروا فتاوى تضمنت أن ما تقوم به السعودية هو عمل مخالف لأحكام الشريعة الإسلامية . ومن جانبها سعت السعودية ودول التحالف ومنها دول إسلامية وعربية ذات ثقل ديني كمصر والباكستان ، في تحشيد العلماء والفقهاء لتأييد موقفها بطلب المساعدة العسكرية الغربية . وبعد خمسة أسابيع من الغزو العراقي ، بتاريخ 10 ـ 12 أيلول 1990 ، عقد في مكة المكرمة مؤتمر إسلامي عالمي . وقد حضر المؤتمر عشرات الفقهاء والعلماء الكبار قدموا من مصر والهند والمغرب ولبنان وأفغانستان والباكستان وتونس وتركيا والسنغال وسوريا وإندونيسيا والسودان والصومال إضافة إلى السعودية والكويت وبقية دول الخليج وعلماء مسلمون من أوربا واميركا ، وبعد تداول إتفقوا على شرعية الخطوة السعودية ، وأن الشريعة لا تمنع الإستعانة بالكفار .

وقدمت بحوث وفتاوى منها بحث للشيخ عبدالعزيز بن باز بعنوان (حكم الإستعانة بالكفار في قتال الكفار) ، نقل فيه آراء الفقهاء القدماء التي تراوحت بين المنع والسماح بالإستعانة بالمشركين ،ولم يوضح رأيه بصراحة ، ولكنه إعتبر مبادرة السعودية من باب الإضطرار; فقد جاء في كلمته التي ألقاها في المؤتمر أن «ما يتعلق بالإستعانة بالجيوش المتعددة الأجناس لدفع عدوان هذا الظالم العنيف الذي أقدم على أمر فظيع مع الكويت ، وإقدام الحكومة السعودية على هذا الأمر الذي علمتموه وسمعتموه ، فهذا دعته إليه الحاجة بل والضرورة الملحة لدفع هذا الظلم ، والوقوف به في وجه هذا الظلم حتى لا تقع كارثة لا يعلم مدى شرها إلا الله سبحانه وتعالى . فبهذا أقدمت الحكومة السعودية على الإستعانة بعدة من الجيوش الإسلامية وغيرها دفعاً لهذا الخطر عن بلاد المسلمين ... وقد صرح العلماء ، كما لا يخفى ، بجواز الإستعانة بالدول الإسلامية والدول غير الإسلامية وبالكفار الذين تؤمن عاقبتهم ودعت الحاجة إليهم لدفع الشر عن المسلمين» [470][1].

كما قدم الشيخ محمد سيد طنطاوي ، مفتي الديار المصرية السابق وشيخ الأزهر حالياً ، بحثاً بعنوان (الحكم الشرعي في أحداث الخليج) ذكر فيه أنه «من حق البلد الإسلامي أن يستعين بمن شاء من المسلمين وغير المسلمين ، من أجل الدفاع عن كل ما يجب الدفاع عنه شرعاً ، ومن أجل دحر العدوان المتوقع . إذ من القواعد الشرعية المعروفة أن الضرر يزال ، وأن الضرورات تبيح المحظورات ، وإن الضرورة تقدر بقدرها ...والخلاصة أننا لا ننكر الإستعانة بغير المسلمين ، لدفع عدوان متوقع . وبناء على كل ذلك فإن دار الإفتاء المصرية ، ترى أنه من الأحكام الشرعية الصحيحة ، ما قام به علماء وقضاة المملكة العربية السعودية» [471][2].

واتفق العلماء المشاركون في المؤتمر على أن الشريعة الإسلامية تسمح بالإستعانة بالكفار ، وتم تثبيت هذا الرأي أو الفتوى في وثبقة مكة ، حيث ورد فيها :

«ومما يترتب على هذا العدوان وجود قوات أجنبية في الخليج ، إذ إضطرت المملكة العربية السعودية ودول الخليج العربي إلى طلب قوات إسلامية وأجنبية لمساندة قواتها الدفاعية في مواجهة عدوان وشيك من القوات العراقية المحتشدة على حدود المملكة العربية السعودية .

ولقد تقرر عند اُولي العلم أن شريعة الإسلام تتسع لهذا الإجراء وتستوعب هذه الضرورة . ومن هنا فإن ثمة تلازماً بين احتلال الكويت والتهديد العراقي للمملكة العربية السعودية ودول الخليج ووجود القوات الأجنبية ، فإذا زالت الأسباب إنتفت الضرورة لوجود هذه القوات ، كما أكد أولو الأمر في المملكة العربية السعودية على ذلك .

ولا يرى المؤتمر مسوغاً لإقحام الحرمين الشريفين في هذا الخصام السياسي والإعلامي ، فليس في الأرض المقدسة وجود أجنبي ، ولا يجوز أن يقحما في الصراعات والشعارات والخلافات والمزايدات السياسية ، فالنأي بهما عن هذه الصراعات والمزايدات مظهر من مظاهر تعظيمهما واحترامهما» [472][3].

لقد تضمنت الوثيقة المذكورة جملة من القضايا ، إذ أنها تعاملت بحذر في قضية شائكة في ظل أجواء إعلامية وسياسية متوترة ، من هذه الأمور :

1 ـ أن العدوان العراقي هو السبب في استقدام القوات الأجنبية ، وأن وجودها مرتبط بإستمرار العدوان . فالوثيقة تذكر أن هناك تلازماً بين الإحتلال العراقي للكويت والتهديد العراقي للسعودية وبين وجود القوات الأجنبية في السعودية .

2 ـ أن الإستعانة بالقوات الأجنبية جاء لمساندة القوات الدفاعية السعودية ، أي أن القوات الأجنبية جاءت لتقديم المساندة العسكرية للقوات السعودية ، وفي ذلك تخفيف إعلامي لدورها ، إذ أنها كانت هي التي تقود الحرب فعلاً ، وترسم الخطط العسكرية وتقوم بتنفيذها والإشراف عليها . وبقي دور القوات الإسلامية دوراً ثانوياً . ووصفت القوات السعودية بأنها قوات دفاعية أي أنها غير هجومية وتقتصر وظيفتها على الدفاع عن الأراضي الإسلامية المحتلة من قبل القوات العراقية .

3 ـ أن الشريعة الإسلامية تسمح بالإستعانة بالكفار ، وأن ما فعلته السعودية لا يخرج عن الدين وتعاليمه.

4 ـ أن بقاء القوات الأجنبية غير دائم بل مؤقت ، وينتهي بعد إنهاء الإحتلال العراقي للكويت . وأن ملك السعودية ووزراءه والمسؤولين قد أكدوا للعلماء والفقهاء ذلك .

5 ـ إستخدمت الوثيقة لفظة (أولو الأمر) في تعبيرها عن المسؤولين السعوديين وفي ذلك تأكيد لشرعية القرارات التي اتخذوها ومنها الإستعانة بالكفار ، وعلى المسلمين طاعة أولي الأمر منهم .

6 ـ رد الشبهة التي طرحتها الدعاية العراقية بأن القوات الأجنبية تحتل الحرمين المقدسين . وأنه ليس من الإلتزام الإسلامي إقحام الديار المقدسة في الصراعات والشعارات والمزايدات السياسية والإعلامية ، فيجب أن تبقى بعيدة عن الإستخدام الرخيص في النزاعات والصراعات السياسية .

من الجدير بالذكر أن الحكومة السعودية كانت تؤكد على ضرورة احترام القوات الأجنبية العادات والتقاليد الإسلامية والمحلية ، كي تتجنب نشوء حالة من الإستياء والإمتعاض بين الشعب من تواجد الأجانب وسلوكهم الذي قد يخالف الأعراف الإجتماعية السائدة ، وبما يخدم الإشاعات والدعايات العراقية . فأخذت القيادة الأميركية تقوم بنشر معلومات لجنودها حول الإسلام والتعاليم الإسلامية والثقافة المحلية كي تتفادى الأخطاء المحتملة . كما جرى إبعاد القوات العسكرية عن مراكز المدن والقرى قدر المستطاع ، حيث جرى إسكانهم في تجمعات بعيدة عن الأماكن المأهولة بالسكان [473][4] .

وقد أيد شيخ الأزهر جاد الحق الإستعانة بالقوات الأجنبية إذ صرح في مؤتمر صحفي أن «الضرورات الخمس التي شرع الإسلام الدفاع عنها هي الدين والنفس والعرض والمال والنسل ، فإن لم يستطع المسلم دفع العدوان عن نفسه أو أية واحدة من هذه الضرورات فله الإستعانة بالمسلمين وبغير المسلمين عند الضرورة» [474][5]. كما أصدر نداءً إلى الرئيس صدام حسين يناشده فيه بالإنسحاب وإيقاف الحرب [475][6] .

وقبل نشوب الحرب بأيام دعي العلماء لحضور إجتماع عاجل في مكة المكرمة حيث عقد بتاريخ 9 ـ 10 كانون الثاني 1991 ، ثم صدر عنه (إعلان مكة المكرمة) الذي ركز بيانه الختامي على مناقشة سياسة وشعارات صدام حسين والتي أراد بها تشتيت الرأي العام الإسلامي ، وذكر جرائم صدام وأنه علماني ، وانعكس الخلاف بين العلماء المسلمين ومواقفهم المختلفة تجاه الإستعانة بالكفار ، فخاطب العلماء الذين يؤازرون صداماً ، إذ ورد فيه «والمجتمعون اليوم في مكة المكرمة يبدون عجبهم واستغرابهم واستنكارهم لموقف المنتسبين إلى العلم والدعوة الذين يؤازرون النظام العراقي ويحضرون مؤتمراته بعد أن ظهر لهم أنه يتخذ الإسلام مطية فحسب . ألا يتذكر هؤلاء المؤازرون للنظام العراقي ما فعل صدام حسين بإخواننا الأكراد من قتل وتشريد ؟ ألا يتذكرون ما فعله الرئيس صدام حسين برجال الدعوة الإسلامية داخل العراق قتلاً وسجناً وتشريداً . ولا تزال سجون العراق مملوءة بالدعاة والعلماء !! ألا يتذكرون أنه يحكم العراق بدستور إشتراكي علماني !!... إن الوقوف مع هذا النظام الظلوم دعم للظلم ، وتشجيع على الإستمرار في الإعتداء على الكويت ، وإضطهاد أهلها ، وتخريب مؤسساتها ، وإتلاف بيئتها ، وهو كذلك إغراء بالتعنت المفضي إلى الحرب . والإغراء بالجريمة مشاركة فيها ، فالمؤيدون للقيادة العراقية يتحملون تبعة كبيرة من تبعات نشوب الحرب ، وما يتبع ذلك من خسائر في الأنفس والثمرات» [476][7].

لقد نسي أولئك العلماء مواقفهم المؤازرة لصدام حسين أثناء عدوانه على بلد إسلامي هو إيران . فقد كانوا يحضرون مؤتمراته مثل المؤتمر الإسلامي الشعبي الأول ببغداد عام 1983 ، عندما كان صدام يسعى لتعبئة الرأي العام الإسلامي السني ضد إيران واتهامها بالمجوسية وغيرها . وكان أولئك العلماء يعرفون حقيقة صدام وعلمانية حزب البعث الحاكم في العراق . إن المواقف الدينية ما زالت تخفي الأغراض السياسية الحقيقية وراء إستحضار الشعارات الدينية والإحتجاجات الفقهية والشرعية . فإذا كانت الشريعة وأحكامها هي هي ، فلماذا سكت أولئك العلماء على اعتداء صدام على إيران لمدة ثمان سنوات ؟ ونهضوا واعترضوا على عدوانه على الكويت ، فالعدوان هو العدوان ، والمعتدي هو المعتدي ، والضحية في الحربين شعب مسلم بريء .

ويؤيد الفقهاء الشيعة مبدأ الإستعانة بالكفار وطلب معونتهم العسكرية ، يقول السيد كاظم الحائري في جواب سؤال حول شرعية الإستعانة عسكرياً بدولة غير إسلامية: «كان في بعض تحالفات رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) التوافق بنصرة أحد الفريقين للآخر فيما يشن عليه العدو من حرب ظالمة» [477][8]. والحديث يتضمن توقيع معاهدة دفاع مشترك تفرض على الطرفين دعم الفريق الآخر إذا ما تعرض لعدوان غاشم . وتتضمن فتوى السيد الحائري أمرين ، الأول : شرعية عقد معاهدات سلمية وأحلاف عسكرية مع الكفار . والثاني : شرعية الإستعانة بالكافر وطلب مساعدته العسكرية عند الحاجة .

ويتخذ الشيخ محمد علي التسخيري موقفاً متحفظاً إلى حد ما ، إذ يقول «القضية هنا شائكة ، فلا أتحدث عن هذا المصداق (إستعانة السعودية بالقوات الأميركية) . أما الحكم بشكل كلي من قبيل ما لو دخلت دولة إسلامية في صراع مع دولة كافرة ، واستعانت الدولة الإسلامية بدولة كافرة أخرى ، فلا مانع منه ، إلا إذا ترتبت أضرار أخرى على هذه الإستعانة ، فالقضية تحتاج إلى دراسة الظروف الموضوعية» [478][9].

أما الشيخ لطف الله الصافي فقد أجابني بفتوى ذات صبغة سياسية، إذ قال سماحته :

«إن التجزئات والإنقسامات الدولية والإقليمية والقومية داخل البلاد الإسلامية بأجمعها غير مشروعة ، فلا يجوز الإنضمام إلى أي منها في قبال الأخرى ، إلا أن اعتداء بعض هذه السلطات المحافظة على تلكم التجزئات إن كان إعتداءً على حقوق المسلمين وسبباً لإقتتالهم ، فيجب على غيرهم القيام بإصلاح ذات بينهم ، فإن فاؤوا فبها ، وإلا وجب عليهم مقاتلة الفئة الباغية منها حتى تفيء إلى أمر الله تعالى .

وأما الإستعانة بغير الدول الإسلامية فليس هو إلا دفع الفاسد بالأفسد ، إذ أن الدول غير الإسلامية لا تعمل إلا لمصالحها وحفظ منافعها وما اغتصبته من المسلمين ، ولا تقف مع دويلة إلا إذا كانت أميَل إليها وأطوع لها» [479][10].

ويرى أبو الفضل شكوري ، إيراني ، «أنه يجوز إستلام مساعدات من غير المسلمين ، فرداً أو جماعة ، وفي شتى المجالات الفنية والعلمية والطبية والتكنولوجية وغيرها بشرط أن لا تكون مقدمة للتبعية السياسية للأجانب . ويتفق الفقهاء على أنه يجوز للحاكم الإسلامي عقد إتفاقية مع الكفار لشراء أسلحة منهم على أن يعطيهم سهماً من غنائم الحرب ، كما فعل النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) مع صفوان بن أمية في غزوة حنين ، فقد كان صفوان كافراً ولم يسلم بعد» [480][11].

نستنتج مما سبق أن القانون الدولي الإسلامي لا يمانع في عقد اتفاقيات دفاع مشترك مع الدول غير الإسلامية ، أو معاهدات سياسية وعسكرية تضمن مناصرة الطرفين لبعضهما البعض عند تعرض أحدهما للخطر أو الإعتداء . فمن الناحية الشرعية لا إشكال في ذلك ، ولكن يبقى الجانب السياسي هو المؤثر في مثل تلك القضايا ، إذ يبقى الإعتراض على مثل تلك الإتفاقيات من باب المزايدات والدعايات السياسية والإعلامية ، والتشهير بالطرف الآخر في ظروف معينة . أما العلماء الذين عارضوا مبدأ الإستعانة بالكفار فكانوا إما معادين أصلاً للسعودية والكويت ، أو من أنصار صدام حسين . وهم بعيدون عن ظروف الإحتلال والحرب ومآسيها ، ولا نعلم هل سيحافظون على موقفهم وقناعتهم إذا ما تعرضت بلادهم لغزو عسكري أو إحتلال من قبل جيش أجنبي مسلماً كان أو مسيحياً أو وثنياً ؟ وهل سيخضعون للإحتلال ولا يستنجدون بأحد ، أو لا يطلبون مساعدة أحد مهما كانت ديانته أو جنسيته ، والشواهد كثيرة على ذلك .


القانون الدولي الإسلامي والإتفاقيات الدولية

تعتبر المعاهدات الدولية أحد مصادر القانون الدولي ، فالمادة 38 من نظام محكمة العدل الدولية تنص على «أن المحكمة ، التي تصدر أحكامها بموجب القانون الدولي وتخضع له ، وهي تطبق في هذا الشأن :

1 ـ المعاهدات الدولية ، العامة والخاصة التي تضع قواعد تقر بها الدول المتنازعة.

2 ـ العرف الدولي ، المقبول بمثابة قانون كما دل عليه التواتر .

3 ـ مبادئ القانون العامة التي أقرتها الأمم المتحضرة .

4 ـ أحكام المحاكم ومذاهب كبار المؤلفين في القانون الدولي في مختلف الأمم. ويعتبر هذا وذاك مصدراً إحتياطياً لقواعد القانون .

وكما ذكرنا مسبقاً ، فالدول الإسلامية تقر بالقانون الدولي ومبادئه باعتباره قانوناً ينظم علاقاتها الخارجية ومعاهداتها الدولية ليس مع الدول غير الإسلامية فحسب بل مع بعضها البعض . وأما مصادر القانون الدولي الإسلامي فهي القرآن الكريم والسنة والإجتهاد . ويطرح هنا سؤال هو : هل تعترف الشريعة الإسلامية بالإتفاقيات والمعاهدات كمصدر للقانون الدولي الإسلامي ؟ يرى بعض القانونيين المسلمين هذا الرأي ، إذ يقول د. طلعت الغنيمي ، مصري ، «أن الإتفاقيات الصانعة للقانون Law-making والعرف يمكنهما أن تصبحا من المصادر الثانوية للقانون الدولي الإسلامي ، ضمن فئة القواعد التي ترك أمر تنفيذها أو عدم تنفيذها بيد المسلمين أنفسهم» [481][1]. ويضيف أن العرف والعادة يمكن أن يصبحا مصدراً ثانوياً إذا لم يكونا مخالفين لتعاليم الشريعة . ويمكن إعتبار العرف بمثابة (إجماع) عندما يحظى بقبول الأكثرية الغالبة [482][2] .

ويؤيد د. سيد حسن أمين ، إيراني ، «أن العرف والعادة في المجتمع ، يمكن إعتبارهما مصدراً آخر من مصادر القانون . إن القانون الإسلامي المطبق في أنحاء من العالم الإسلامي تم تعديله بدرجات متفاوتة لغرض تكيفه مع العادات المحلية والأعراف الإجتماعية» [483][3]. ويتفق باحث آخر ، فرهاد ملكيان ، إيراني ، مع فكرة إعتبار الإتفاقيات الدولية مصدراً للقانون الدولي الإسلامي ، إذ يقول «إن المعاهدات والإتفاقيات والبروتوكولات والإعلانات الدولية ، لا يمكن رفضها حتى من قبل الدول التي لا تشارك في وضعها أو التصديق عليها» [484][4].

ويقبل الفقهاء المسلمون ، بمصدرين آخرين من مصادر التشريع أو سن القوانين وهما :

1 ـ المصلحة الإسلامية .

2 ـ العرف الإجتماعي .

ويغني هذان المصدران القانون الدولي الإسلامي ، ويمنحان الدولة الإسلامية مرونة أكبر وحرية في التعامل مع القانون الدولي ، مع بقية أحكام الشريعة الإسلامية والمصادر الأخرى . وكلا المصدرين يجب أن لا يخالفا القواعد الإسلامية ، مع العلم أن استخدامهما يجري في باب المباحات من الأحكام . وسبق أن ناقشنا مفهوم المصلحة الإسلامية .

 


العرف الدولي والعرف الإسلامي

هناك نظريتان في ماهية العرف الدولي فبعض فقهاء القانون الدولي يعرف العرف الدولي بأنه : عبارة عن معاهدة ضمنية بين الدول . ويرى آخرون أنه : عبارة عن نتاج متطلبات الحياة الدولية [485][1] . وذهب بعض شراح القانون الدولي إلى أن الحكم بالعرف يستمد قوته من رضا الدول بالخضوع له في تصرفاتها، شأنه في ذلك شأن المعاهدات .وإن كان ثمة فارق بين الأساس الإلزامي لهذين المصدرين ، فهو أن رضا الدول صريح في حالة المعاهدات ، في حين أنه ضمني في حالة العرف . ويذهب فريق آخر إلى نفي الرضا الضمني للعرف بدليل أن الحكم المستمد من العرف يعد حكماً ملزماً حتى بالنسبة للدول التي نشأت بعد نشوئه وإستقراره ، تلك الدول التي لا يمكن أن ينسب لها الرضا بالخضوع للحكم وقت قيامه . ويصور أصحاب هذا الرأي العرف بأنه أحكام رتبتها حكمة الأجيال ، وشاع الإعتقاد لدى أعضاء الجماعة الدولية بوجوب الإذعان لها والتصرف وفقاً لأحكامها ، وذلك لأن تنظيم حياة الأسرة الدولية والمحافظة على بقائها يتطلبان الإذعان والخضوع [486][2] .

ويضطلع العرف في المجتمع الدولي بوظائف متعددة . فقد يتكيف العرف مع حاجيات كل الدول ، أو بعضها أو لدولتين فقط . ومعنى ذلك أن للعرف نطاقاً جغرافياً مختلفاً . إلى جانب ذلك يلعب العرف من الناحية التقليدية دوراً في استتباب القاعدة القانونية . وقد أقرت محكمة العدل الدولية بوجود عرف إقليمي في قضية اللجوء السياسي المعروفة بقضية (هيادي لاتوري) [487][3] .

إن الفقه الإسلامي يعترف بالعرف ، وينصح بالرجوع اليه في العديد من الحالات ، مثلاً; تحديد مهر الزوجة إذا لم يكن مشروطاً من قبل ، ومعاملات التجارة والسوق والعمل والخدمات وغيرها مما تعارف الناس عليه. ويمكن توسيع مفهوم العرف من الدائرة المحلية إلى الدائرة الدولية ليشمل تأثر الدولة وسلوكها وعلاقاتها يالعرف الدولي ، مما لا يخالف الشريعة الإسلامية .

يقول تعالى (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين)(الأعراف : 199) ، حيث يؤكد القرآن على أهمية الأعراف السليمة والتقاليد الحسنة ، فيدعو الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) إلى أمر الناس به والتقيد بالأعراف والعادات الحميدة ، بإعتبارها من السنن الحسنة في كل مجتمع ، ولتشجيع الناس على الخير والصلاح . يعرف العلامة الطباطبائي العرف بأنه : ما يعرفه عقلاء المجتمع من السنن والسير الجميلة الجارية بينهم بخلاف ما ينكره المجتمع وينكره العقل الإجتماعي من الأعمال النادرة الشاذة [488][4] . ويقول الشيخ الطبرسي : أن العرف ضد النكر ، ومثله المعروف والعارفة وهو كل خصلة حميدة تعرف صوابها العقول ، وتطمئن إليها النفوس [489][5] . ورغم أن مسألة العرف قضية نسبية ، إذ أنها تختلف من مجتمع إلى مجتمع ، ومن زمن إلى زمن آخر ، فإن المقصود هو العرف الخاص بمجتمع معين في زمن معين . أما في المجتمعات الإسلامية فيشترط في اعتبار العرف مقبولاً أو معولاً عليه هو أن لا يخالف أحكام الشريعة ولا مفاهيم العقيدة الإسلامية .

والدول الإسلامية تأخذ اليوم بالأعراف الدولية وتلتزم بها في القانون الدولي وإجراءات المعاهدات والمفاوضات وغيرها . ويمكن أن نشير إلى احترام الدول الإسلامية للعرف الدبلوماسي الذي يجري الإلتزام به في الزيارات الرسمية واستقبال الوفود الرسمية والمشاركة في المؤتمرات الدولية وغيرها [490][6] .

ويؤيد الفقهاء المسلمون إحترام الأعراف الدولية كجزء من الواجب الإسلامي ، فقد جاء في وثيقة مكة الصادرة في عام 1991 أن علماء الإسلام يدعون «كافة الدول العربية والإسلامية ودول العالم إلى الإلتزام بالعهود والمواثيق والأعراف الدولية ...» [491][7].

واعتبرت محكمة العدل الإسلامية الدولية العرف الدولي واحداً من مصادرها القانونية . فقد نصت المادة 27 ـ  ب على ما يلي :

«تسترشد المحكمة بالقانون الدولي والإتفاقات الدولية الثنائية أو متعددة الأطراف ، أو العرف الدولي المعمول به ، أو المبادئ العامة للقانون ، أو الأحكام الصادرة عن المحاكم الدولية ، أو مذاهب كبار فقهاء القانون الدولي في مختلف الدول».

وإذا كان العرف الدولي يسمح بوجود أعراف إقليمية ، فلا يبدو هناك عائق لنشوء (عرف إسلامي) يجري الإلتزام به في المعاهدات والإتصالات والنشاطات التي تمارسها الدول الإسلامية . ويمكن أن يبدأ الإلتزام به من قبل الدول الإسلامية فيما بينها ، حتى يغدو متعارفاً عليه بفعل الإستمرار بالعمل به ، وتقادم الزمان عليه ، كي يصبح بعد ذلك عرفاً دولياً ، خاصة وأن الدول الإسلامية تشكل حوالي ثلث الدول الأعضاء في منظمة الأمم المتحدة . والكثير منها لها ثقلها الإقتصادي والسكاني والسياسي والستراتيجي . ويمكن التخلص من كثير من الأعراف الدبلوماسية التي تخالف الشريعة الإسلامية والأخلاق ، وتسبب إحراجاً للشخصيات الملتزمة بتعاليم الإسلام [492][8] 

إجراءات عقد المعاهدات الدولية

وقعت الدول الإسلامية على معاهدة جنيف 1969 Convention  Viennaالخاصة بالإتفاقيات الدولية . وتعتبر هذه الإتفاقية المرجع في القانون الدولي فيما يتعلق بالمعاهدات والإتفاقيات الدولية . وتنظم المعاهدة الإجراءات والمراحل وكل التفاصيل التي تمر بها المعاهدات كالمفاوضة ، التوقيع ، التصديق ، الإنضمام ، سريان المعاهدة ، تسجيلها ، الإختلاف في تفسيرها ، تعليقها وإلغائها وغيرها ، حيث تضع قواعد قانونية لكل هذه المراحل تستوجب الإلتزام بها من قبل الدول الموقعة عليها . ويبدو من المفيد إجراء مقارنة بين المبادئ التي تتضمنها هذه المعاهدة والقواعد والأحكام الشرعية الإسلامية التي تنظم المعاهدات الدولية ، والتي تشكل جانباً هاماً من المبادئ العامة للقانون الدولي الإسلامي . ولغرض تفادي الدخول في مناقشات طويلة ، حيث أن الموضوع طويل ومعقد ، سأحاول تناول بعض مراحل الإتفاقيات الدولية والمبادئ الإسلامية المتعلقة بها .

1 ـ المفاوضات Negotiations

وهي تبادل وجهة النظر بين ممثلي دولتين أو أكثر بقصد التوصل إلى عقد إتفاق دولي بينهما ، يتناول بالتنظيم ما تريد الدولتان أو الدول تنظيمه من قضايا . فعلى المستوى القانوني ، فإن المفاوضات بهدف إبرام إتفاقية ثنائية أو جماعية لا تثير إشكالات خاصة ، فنادراً ما يقع التفاوض بشأن المعاهدات من طرف رؤساء الدول والحكومات بكيفية شخصية ، بل يتولى ذلك بالنيابة عنهم أشخاص يمثلونهم ، مزودين بأوراق تفويض . وصيغة التفويض تختلف بإختلاف الدول ، وهي مستند مكتوب صادر من رئيس الدولة ، يحمله المفاوض لإثبات صفته والسلطات التي خولها له رئيس الدولة في الإعراب عن وجهة نظر الدولة في التفاوض أو التعاقد بإسمها حسب متطلبات الحال . ويقدم هذا المستند عند بداية المفاوضات للتحقق من صفات وسلطات المفاوضين . ولا يجوز في العرف الدبلوماسي التفاوض أو التعاقد باسم الدولة بغير هذا المستند ،وإلا كان التفاوض أو التعاقد غير منتج لآثاره [493][1] . ولا يحتاج رؤساء الدول ورؤساء الوزراء ووزراء الخارجية لأوراق تفويض .

إن الغرض من المفاوضات هو بلوغ إتفاق يحظى برضا جميع الأطراف المشاركة ، سواء تعلق الأمر بعقد معاهدة ثنائية أو معاهدة جماعية في إطار مؤتمر دولي حيث يظل الإجماع هو القاعدة . أما بخصوص المعاهدات المبرمة في إطار المنظمات الدولية او تحت إشرافها ، فقد جرى العمل على تبني قاعدة الأكثرية ، بمعنى أن المعاهدة يتم إقرارها بإقتراع أغلبية الدول المشاركة في المؤتمر .

ومبدأ التمثيل والتفويض متعارف عليه في الإسلام ، «حيث تمر المعاهدة في الشريعة الإسلامية بالأدوار الخاصة بالتفاوض الذي يباشره الإمام أو الخليفة نفسه ، أو يباشره عنه وبإسمه وبإذنه من يفوضه في ذلك» [494][2]. وتسير الدول الإسلامية وفق هذه الأعراف والقواعد الدولية في عملها الدبلوماسي وعقد الإتفاقيات الدولية.

 


2 ـ التوقيع والتصديق Signing and Ratification

بعد إنتهاء المفاوضات يتم كتابة الإتفاقية بكل بنودها وموادها وتفاصيلها حسب ما اتفق المفاوضون عليه . أمّا بصدد لغة المعاهدة فالأمر متروك للأطراف ، فإذا كانت المعاهدة بين دولتين لغتهما واحدة فإن صياغتها تكون عادة بهذه اللغة ، وإن كانت دولتان لكل منهما لغة خاصة فإنها تكتب بلغتي البلدين أو بلغة ثالثة لها صفة دولية كالإنجليزية والفرنسية ، أو بلغتي دولتي المعاهدة بالإضافة إلى لغة دولية مع النص على أي من هذه اللغات تعد أصلية ويرجع اليها إذا ما ظهر اختلاف حول معنى إحدى العبارات . وقد نصت الفقرة الأولى من المادة 33 من إتفاقية فيينا على أنه (إن اعتمدت المعاهدة بلغتين أو أكثر يكون لكل نص من نصوصها نفس الحجية ما لم تنص المعاهدة أو يتفق الأطراف على أنه عند الإختلاف تكون الغلبة لنص معين) . وتكتب المعاهدات ذات الطابع العالمي عادة بخمس لغات ، وهي التي ذكرتها المادة 111 من ميثاق الأمم المتحدة ، أي الإنجليزية والصينية والإسبانية والفرنسية والروسية . الجدير بالذكر أن اتفاقية فيينا 1969 كتبت باللغات المذكورة . وتم إضافة اللغة العربية إلى اللغات الخمس المستخدمة في الأمم المتحدة .

وبعد الإتفاق على نصوص الإتفاقية يجري توقيع الأطراف عليها . ويقوم بالتوقيع ممثلو الدول المشاركة في المعاهدة بإعتبار أن التوقيع هو تعبير عن إرادة الإرتباط بالمعاهدة . ولا يحتاج التوقيع من قبل رئيس الدولة أو رئيس حكومتها أو وزير خارجيتها إلى وثيقة تفويض . ولا يحتاج رؤساء البعثات الدبلوماسية إلى وثيقة تفويض [495][1] . ويستطيع ممثلو الدول الإسلامية توقيع الإتفاقيات الدولية بموجب هذه القواعد . كما أن الشريعة والنظام السياسي الإسلامي يمنح الحاكم الشرعي أو من يمثله صلاحية توقيع معاهدة أو اتفاقية باعتباره يمثل الدولة الإسلامية .

ونصت الفقرة الأولى من المادة 9 ، على توقيع جميع الدول المشاركة في وضع الإتفاقية . أما إذا كانت الإتفاقية مطروحة في مؤتمر دولي فيجب توقيع على الأقل ثلثي الدول الحاضرة والمشاركة في التصويت ، بموجب الفقرة الثانية من المادة التاسعة من معاهدة فيينا للإتفاقيات الدولية .

وتدخل المعاهدة مرحلة أخرى هي التصديق Ratification ويُقصد به قبول الإلتزام بالمعاهدة بصورة رسمية من السلطة الوطنية التي تملك حق إبرام الإتفاقيات الدولية بإسم الدولة . وهو إجراء جوهري بدونه لا تتقيد الدولة أساساً بالمعاهدة التي وقعها ممثلها ، بل تسقط المعاهدة ذاتها ، إذا كانت بين دولتين ، أو كانت بين عدة دول واشترط لنفاذها توفر عدد من التصديقات ولم تكتمل [496][2] .

«في الماضي لم يكن التصديق سوى إجراء يقبل بمقتضاه الأمير العمل الذي قام به مندوبه بناء على نظرية الوكالة . وهكذا كان التصديق إجراءً شكلياً ، وإثباتاً لتوقيع الوكيل . والحالة الوحيدة التي يحق للأمير أن يتنصل من التصديق هي حالة تجاوز الوكيل لصلاحياته . غير أنه طرأ تعديل على هذه القاعدة في القرن التاسع عشر ، فتغير مفهوم التصديق . ولم تعد الصلاحيات المطلقة التي يزود بها المبعوث تتضمن وعداً بالتصديق بل أصبحت تتضمن تحفظاً يجعل من التصديق شرطاً للتوقيع ، ويجعل من التوقيع إجراءً أولياً ذا أهمية ضئيلة . وأسباب هذا التغير تعود إلى انتشار النظام النيابي في أوربا ، حيث أتاح التصديق لممثلي الأمة إمكانية مراقبة عمل الجهاز التنفيذي فيما يتعلق بسلطة عقد المعاهدات .والواقع أن المجالس النيابية لم تكن تتدخل ، في هذا القرن ، إلا في المعاهدات الهامة التي ترتبط بالسياسة الخارجية للدولة» [497][3]، أو قضايا الحد من التسلح النووي أو إستخدام الأسلحة الكيمياوية ، وقضايا الأمن والتجارة وغيرها .

والتصديق عمل يثبت في وثيقة مكتوبة ، ويطبق عادة مجموع نصوص المعاهدة . وهو إجراء دبلوماسي يؤكد السلطة العليا في الدولة ، عادة الملك أو رئيس الجمهورية ، توقيع مندوبه أو يشهد بأن هذا التوقيع قد تم تأكيده من قبل السلطة الوطنية . ويطلق على هذه الوثيقة إسم (وثيقة التصديق) . وتتبادل الدول فيما بينها التصديقات في إجتماع يحرر به محضر يسمى محضر تبادل التصديقات .

تأريخياً ، لم تعرف الدولة الإسلامية نظاماً معقداً بل يكفي أن يوقع الخليفة على الإتفاقية إذا كان هو الذي رأس المفاوضات ، فإنه يمتلك صلاحية توقيع العقود والإتفاقيات . وأما إذا كان المفاوض مندوباً عن الخليفة أو الإمام ، فإن المعاهدة لا تُعد مستوفية لشروطها الشكلية إلا بعد تصديق الخليفة أو الإمام عليها ، وذلك للتأكد من أن المفوض لم يتعد حدود تفويضه [498][4] . وكان الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) يحتفظ لنفسه بحق إبرام المعاهدات ، وأن تكون تحت سمعه وبصره . وكان أحياناً يترك لرسله وقواده حق التفاوض مع الأعداء وفقاً لما يرونه ، شريطة ألا يعارض ذلك نصاً في كتاب الله أو سنة رسوله . وقد انتهج تلك القاعدة الخلفاء من بعده . وفي حالة المباشرة الشخصية للرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) أو الخلفاء كانت المعاهدة تعتبر نافذة المفعول بمجرد توقيعها [499][5] .

وتنص بعض دساتير الدول الإسلامية على منح هذه الصلاحية لمجلس الأمة أو مجلس الشعب ، ولا تصبح الإتفاقية ملزمة للدولة دون مصادقة المجلس التشريعي [500][6] ، إلا أن بعض النظم السياسية في الدول الإسلامية ما زال الملك أو الرئيس هو صاحب السلطة العليا ، ويمتلك صلاحية توقيع المعاهدات دون الرجوع لمجلس الشعب أو أن دور المجلس هامشي ، وتصديقه على المعاهدة مجرد إجراء شكلي ، ولا يوجد من يناقش الإتفاقية او يعترض عليها ، فتصبح الموافقة عليها آلية [501][7] . ومع ذلك تبقى أغلب الدول تلتزم بهذه المبادئ القانونية ، فالمادة 77 من دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية تنص على أنه «تتم المصادقة على المواثيق والعقود والمعاهدات والاتفاقيات الدولية من قبل مجلس الشورى الإسلامي» .

وحول شرعية توقيع الحاكم الإسلامي للمعاهدات تبرز وجهات نظر متباينة، فبعض الفقهاء يتحفظون في منحه هذه الصلاحية المطلقة ، بل يقيدونها بقيود يمكن إعتبار إستيفائها أمراً مطلوباً لإضفاء الشرعية على المعاهدات الدولية ، نذكر منها :

أ ـ شرعية الحاكم المسلم

يربط بعض الفقهاء شرعية المعاهدة الدولية ونفاذها على المسلمين بشرعية الحاكم نفسه وكيفية إستلامه للسلطة في الدولة الإسلامية . يقول الشيخ محمد علي التسخيري بصدد العقود التي يعقدها الحاكم المسلم «أما العقود والمعاهدات التي يعقدها هؤلاء المتسلطون على الرقاب بالقوة والطغيان فهي في الأصل لا تلزم أي مسلم ، لأن من عقدوها ليسوا مخولين إسلامياً للقيام بتقديم هذه العهود من قبل المسلمين ، اللهم إلا إذا كان ذلك التقديم بصفتهم الفردية ، وكانت التعاليم تسمح بمثل هذه العقود كما في عقد الأمان في بعض صوره . على أنه يجب أن يلحظ في مثل هذه العقود والمعاهدات مدى ما يعود على المسلمين من حصيلة» [502][1].

ورغم إدراجه لعبارة (مدى ما يعود على المسلمين من حصيلة) التي يراد بها تخفيف صرامة ذلك الرأي بصدد المعاهدات التي يوقعها الحاكم المسلم فإن الشيخ التسخيري يطرح قضية تثير إشكالات حول مدى شرعية العقود والمعاهدات التاريخية التي عقدها الحكام المسلمون طوال التاريخ ، مع وجود ملاحظات وشكوك بشرعية إستلامهم للسلطة . و إذا عرضنا الإتفاقيات التي وقعها شاه إيران السابق ، وأصبحت الحكومة الإسلامية ملزمة بها ، على هذا الرأي ، فكيف يمكن تفسير إلتزامها بها ، مع طعنها في شرعية سلطته ؟ من جانب آخر فإن إيران بقيت تصر على العراق أن يلتزم بإتفاقية الجزائر 1975 التي تنظم الحدود بين البلدين ، في حين أن صدام حسين هو الذي وقعها ، ومعلوم أن صداماً لم يختاره أحد من المسلمين بل جاء بالقوة والغلبة . فإذا قيل أن هناك شرعية ما لتلك الإتفاقية أو غيرها ، بأية حجة كانت ، عندئذ تصبح قضية شرعية الحاكم مقدمة لشرعية العقود والمعاهدات التي يعقدها باطلة ، ويمكن إيجاد مبررات شرعية لبقية المعاهدات .

ب ـ المصلحة الإسلامية

وهناك قضية أخرى يطرحها الفقهاء المسلمون وتتعلق بشرعية المعاهدة التي يوقعها الحاكم المسلم وهي قضية المصلحة الإسلامية . إذ يربط هؤلاء الفقهاء بين شرعية المعاهدة ومصلحة الدولة ، يقول أحد الباحثين المعاصرين «وانطلاقاً من هذا المبدأ فقد أسس الفقهاء المسلمون تشريعاً يقضي بأن أية معاهدة يبرمها الإمام ، وهي تضر بالمسلمين ضرراً واضحاً للعيان ، فإنه يُعد بهذا العمل قد خرج عن سلطاتها الدستورية ، وتعتبر المعاهدة باطلة» [503][1]. وتثار مشكلة تقييم المصلحة ومن يقدرها ، هل هو الحاكم نفسه أو الأمة من خلال ممثليها في مجلس الأمة أو البرلمان . من الواضح أن الأنظمة السياسية المعاصرة تميل إلى الرأي الثاني ، أي أن الأمة من خلال نوابها وممثليها أقدر على تقدير مصلحة البلاد ومدى استيفاء معاهدة دولية ما لهذه المصلحة ، لأن آراء الفقهاء والنواب والخبراء والمستشارين أفضل من رأي واحد قد يسير وراء مصلحة آنية أو غرض أو طمع شخصي .

 

ج ـ  مطابقة المعاهدة للشريعة

ويثير الشيخ فيصل المولوي ، جانباً آخر هو مدى انطباق أساس المعاهدة أو الإتفاقية مع أحكام الشريعة الإسلامية إذ يقول «إن من الأصول الشرعية المتفق عليها أن الحاكم المسلم المنحرف يُلزم المسلمين بأعماله إلا أن تكون معصية ، بمعنى أن المسلمين ملزمون بأعمال حكامهم إلا إذا كانت معصية صريحة» [504][1]. ينطلق هذا الرأي من قاعدة إطاعة اولي الأمر أي الحاكم في الدولة الإسلامية ولو كان منحرفاً ، كما يقول المولوي ذلك صراحة ، أو كان فاسقاً غير ملتزم بتعاليم الإسلام أو ظالماً ، أو أنه وصل إلى السلطة بالغلبة أي الإنقلاب العسكري . فبعض المذاهب السنية ترى صحة البيعة وشرعية تسلم السلطة من قبل هذا الحاكم ، وبالتالي يلزم المسلمون بطاعته كما أنه يُلزم المسلمين أعماله .

أما قضية المعصية فيقصد مدى انطباق الإتفاقية مع الشريعة الإسلامية وأحكامها ومبادئها . وهذا الأمر يبقى من مختصات الفقهاء والمؤسسات الدينية التي يمكنها أن تتخذ القرار بصدد عدم مخالفة المعاهدة للإسلام وتعاليمه . ولم يطرح الشيخ المولوي مشروعاً أو مقترحاً يتولى تحديد مسؤولية الطرف أو الجهة المسؤولة عن ذلك ، علماً أن البرلمان أو مجالس الشعب وغيرها لا تستطيع البت بذلك ما لم يكن بعض نوابها من الفقهاء القادرين على توضيح وإعطاء رأي الشريعة بالمعاهدة . والموضوع قد يبدو معقداً إذا ما أخذنا بنظر الإعتبار تعقد القضايا والشؤون الدولية والقانونية في العصر الحاضر ، مما يستلزم الإجتهاد والإطلاع الواسع على قضايا القانون الدولي والمسائل الدولية بكل تفاصيلها وتعقيداتها .

ويضرب الشيخ فيصل المولوي مثلاً بإتفاقية كامب ديفيد 1979 المعقودة بين مصر وإسرائيل ويعتبرها باطلة ، إذ يقول «وبناء على ذلك فإن مصالحة إسرائيل على حساب الشعب الفلسطيني غير مشروعة ولا تلزم المسلمين» [505][2]. وسبق أن ذكرنا أن شيخ الأزهر جاد الحق قد اعتبر الإتفاقية المذكورة شرعية لأنها من صلاحيات الحاكم الإسلامي الذي من حقه عقد هدنة مع العدو . إذ من المعلوم أن حكام البلدان الإسلامية يلجأون للمؤسسات الدينية والعلماء لإستصدار فتاوى تبرر مواقفهم وسلوكهم وقراراتهم لإضفاء الشرعية عليها . وهذه واحدة من المشاكل المستعصية في بلداننا ، حين لا تملك المؤسسات الدينية قراراتها وتصبح أداة بيد السلطات الحاكمة . كما أن الحكام يستغلون الدين والشريعة لإضفاء الشرعية على سلوكهم المنحرف أو المناقض لمصالح الأمة الإسلامية .

ويضيف المولوي «وأما المعاهدات التي تعقد مع دول أخرى غير إسلامية لا تنتقص من مصالح المسلمين وتنظم التعايش السلمي بين الناس فهي أمر مشروع وإذا قام بها الحاكم المنحرف فهو يلزم المسلمين جميعاً».

وتثير هذه الآراء صعوبات ومشاكل قانونية في الإتفاقيات والعلاقات الدولية ، لأن القانون الدولي يعتبر رئيس الدولة ، ملكاً أو رئيساً ، هو الذي يمثل دولته رسمياً وقانونياً وشرعياً وله صلاحيات توقيع المعاهدات الدولية ، بغض النظر عن كيفية وصوله للسلطة وهل كان عبر إنتخابات أو بواسطة إنقلاب عسكري ، أو مدى شعبيته في بلاده وغيرها من الأمور التي تصنف بأنها شؤون داخلية ، وتعتبر خارج نطاق القانون الدولي العام . فشرعية الحاكم ومصلحة الدولة الإسلامية ومطابقة المعاهدة للشريعة وغيرها أمور لا تهم القانون الدولي ، لأنه يعتبر أن توقيع ممثل الدولة وتصديقها على المعاهدة الدولية يجعلها ملزمة بتطبيق بنودها وإحترام ما جاء فيها . يبقى امر آخر هو كيف يمكن للقانون الدولي الإسلامي أن ينظم هذه القضايا ويجعل تنفيذها لا يخالف الشريعة من جهة وينسجم مع القانون الدولي من جهة أخرى ، فهذا شأن الفقهاء الذين يبذلون وسعهم في الإجتهاد وتطوير الأطروحة الإسلامية لتتلاءم مع متطلبات الدولة العصرية والتغيرات السياسية والقانونية والدولية .

 


3 ـ التحفظ  Reservation

تعرّف الفقرة 2 ـ د من المادة الثانية من معاهدة فيينا 1969 التحفظ بأنه «إعلان من جانب واحد أياً كانت صيغته أو تسميته تصدره الدولة لدى قيامها بتوقيع معاهدة أو التصديق عليها أو الإقرار الرسمي لها أو الموافقة عليها أو الإنضمام إليها ، مستهدفة إستبعاد أو تغيير الأثر القانوني لأحكام معينة في المعاهدة لدى تطبيقها على تلك الدولة».

إن إمكانية اللجوء إلى التحفظات تثير مشكلات عملية منها : تجزئة أحكام المعاهدة حيث لن تعود الأطراف المتعاقدة ملزمة بنفس المقتضيات مما يترتب عليه غياب الوحدة . وقد تطور قانون المعاهدات بمرور الوقت ، وبهدف جعل المعاهدات الدولية أكثر مرونة لتشمل أكبر عدد من الدول خاصة في القضايا العالمية التي تخص المجتمع الإنساني وشعوب الأرض . فبعد أن كان الإعتراض على التحفظات ورفضها هو المبدأ الشائع ، أصبحت القاعدة هي تقنين هذه التحفظات وقبولها لخدمة الأهداف العليا للمعاهدات ، وإحترام ظروف وعقيدة الأمم والشعوب .

ويترك للدول حرية اختيار الوقت للتعبير عن تحفظاتها تجاه المعاهدة . فالفقرة 1 من المادة 19 من معاهدة فيينا 1969 تمنح الدولة عدة خيارات في توقيت تحفظها ، بحيث يمكنها أن تتحفظ عند التوقيع أو الإقرار أو الموافقة أو الإنضمام للمعاهدة . وكي لا يصبح مبدأ التحفظ أصلاً في المعاهدات بحيث يفقدها أهميتها وأهدافها ، فقد وضع القانون الدولي قيوداً وشروطاً بصدد التحفظات ونصت المادة 19 من معاهدة فيينا عليها ، وهي :

1 ـ يجب ألا يكون مثل هذا الحق (التحفظ) قد استبعد في المعاهدة نفسها .(كما هي حالة المعاهدات المبرمة في إطار العمل الدولي أو في إطار إتفاقية روما لعام 1957) .

2 ـ يجب ألا يتعلق التحفظ بمقتضيات استبعدت بشأنها الأطراف المتعاقدة بنحو صريح كل إمكانية بإبداء التحفظ ، رغبة منها في الإبقاء على الحد الأدنى الذي يضمن الإلتزامات التعاقدية المنصوص عليها في المعاهدة.

3 ـ يجب ألا يتعارض التحفظ مع موضوع المعاهدة والغرض منها . ويعتبر هذا القيد الموضوعي أهم ما أبدعه الرأي الإستشاري لمحكمة العدل الدولية عام 1951 حيث أجازت التحفظات على معاهدة تحريم إبادة الجنس البشري إذا كان ذلك لا يتعارض مع أهداف الإتفاقية وموضوعها . وقد إستندت المحكمة في رأيها على مرونة الإتفاقيات المتعددة الأطراف ، وسهولة الطرق المتبعة في عقدها ، وإلى رغبة الجمعية العامة للأمم المتحدة في إشراك أكبر عدد ممكن من الدول فيها .وقد أيدت الجمعية العامة هذا الرأي بتصويتها عليه بتاريخ 12 كانون الثاني 1952 [506][1] .

إن جميع دول العالم اليوم تمارس التحفظات بصدد مختلف الإتفاقيات والمعاهدات الدولية ، دون أن يؤثر ذلك لا في تنفيذ المعاهدات ولا في إلتزامات الدول بشكل عام ، ودورها في المجتمع الدولي . ولعل من أهم دوافع التحفظات هي مخالفة بعض بنود المعاهدة للأمور التالية :

1 ـ العقيدة الدينية للدول ، وهذا ما يلاحظ غالباً في تحفظات الدول الإسلامية ، او بعض الدول المسيحية ، والتي ترى فيها مخالفة صريحة لأحكام الشريعة الإسلامية، مثل بعض بنود إعلان حقوق الإنسان فيما يتعلق بالحرية الجنسية ، أو مساواة المرأة بالرجل أمام القانون وتسنم مسؤوليات عليا في الدولة .

2 ـ المصالح الحيوية للدولة ، حيث أن كل دول العالم ترفض التوقيع على معاهدة تخل بمصالحها أو لا تعود بفائدة عليها سواء في الوقت الراهن أو مستقبلاً ، ومهما كان نوع المصلحة سياسية أو إقتصادية أو عسكرية أو ستراتيجية .

3 ـ القوانين الداخلية للبلاد ، حيث أن بعض المعاهدات والإتفاقيات الدولية ذات تأثير على الشؤون الداخلية ، أو أن التوقيع عليها يستلزم سن تشريعات داخلية تنسجم مع الإلتزامات التي وعدت الدولة بها ، مثلاً الحد من التسلح النووي أو فتح البلاد أمام التفتيش أو الإشراف الدولي على المفاعلات النووية ، أو قضية منع عمل الأطفال دون سن معينة ، أو منح فئة معينة من الشعب ، عرقية أو مذهبية أو دينية، وضعية خاصة ، أو السماح بالحريات السياسية لجميع أفراد الشعب في حين لا يرغب النظام الحاكم بذلك .

ولا يعني أن ذلك يقتصر على البلدان الإسلامية أو بلدان العالم الثالث بل يشمل الدول الغربية والصناعية، فقد قُدم 47 تحفظاً على (معاهدة إنهاء كل أشكال التمييز العنصري) تقدمت بها دول عديدة منها دول غربية ذات أنظمة ديمقراطية مثل أميركا وفرنسا وكندا والنمسا واستراليا وبلجيكا وهولندا وإيطاليا وبريطانيا وألمانيا وأيسلندا ولوكسمبورغ ونيوزلندا [507][2].

ويتيح حق التحفظ على المعاهدات الدولية فرصة واسعة أمام الدول الإسلامية كي ترفض ما يخالف الشريعة الإسلامية أو مصالحها الحيوية دون أن يعيق مركزها أو دورها في المجتمع الدولي . كما يجعلها في حل من الإلتزام بما لا يناسبها ، إضافة إلى أن حق التحفظ يعني تخلصها من الضغوط السياسية والإقتصادية من أجل الدخول في معاهدة أو إتفاقية دون رغبتها .

ويرى الفقهاء في ممارسة التحفظات باباً للتخلص مما لا تريد الدولة الإسلامية الالتزام به لأسبابها الخاصة بها ، مما يسمح بإيجاد مساحة أوسع في التعامل مع المعاهدات الدولية والمجتمع الدولي دون التفريط بالإلتزام بأحكام الشريعة الإسلامية ، ويصبح التحفظ قاعدة من قواعد القانون الدولي الإسلامي كما أنه مبدأ من مبادئ القانون الدولي المعاصر . يقول الشيخ محمد علي التسخيري رداً على سؤال يقول «أن بعض الإتفاقيات الدولية ذات طبيعة تنفيذية داخل البلاد الإسلامية مثلاً تنفيذ قوانين العمل الدولية أو منع تشغيل الأطفال دون سن معينة ، أو التدخل في قضايا الأحوال الشخصية ، والتجارة والجمارك وغيرها ، فهل يجب تطبيقها ؟ فأجاب سماحته : يجب تطبيقها عند الإنضمام إلىالمعاهدة ، إلا إذا كان الإنضمام إليها مع تحفظات مسبقة ، فيمكن معها التحرر من البنود التي تم التحفظ عليها» [508][3]. وفي معرض حديثه عن مدى التزام البلدان الإسلامية بلائحة حقوق الإنسان 1948 ، وقرارات مؤتمر السكان في القاهرة عام 1994 ومؤتمر بكين للمرأة عام 1995 يقول التسخيري أن بلاده ، إيران ، تتحفظ «على كل ما يخالف الإسلام في هذه الإعلانات ، وينبغي أن نشير إلى أن هذه الإعلانات التي أشرتم إليها ليست إعلانات ملزمة ، وكذلك إعلان القاهرة وبكين» [509][4] .

أما السيد كاظم الحائري فيتفق مع الرأي القائل بالمصلحة حيث يقول أن «الدولة الإسلامية تنفذ القرارات ما دامت غير مشتملة على ظلم المسلمين والتعدي عليهم بما لا يمكن تصحيحه للدولة الإسلامية حتى بالعنوان الثانوي» [510][5]. ويقول أيضاً أن «توقيع الدولة الإسلامية على أية لائحة من اللوائح يدخل في المعاهدات والإتفاقيات التي شرحنا حكمها . . ومثل الحرية الجنسية وغيرها من الحريات المحرمة لا تنفذ في بلاد المسلمين وبشأنهم» [511][6].

أما الشيخ لطف الله الصافي فيرى أن إنضمام الدولة الإسلامية إلى اتفاقية معينة يدور مدار المصلحة المتوخاة في ذلك فيقول «جواز كل هذا يدور مدار ما تقتضيه المصالح الإسلامية والضرورات الملحة الملزمة ، وإلا فلا يجوز الموافقة على الإتفاقيات المناقضة لبعض الحقوق الإسلامية» [512][7].

وقد يطرح سؤال بهذا الصدد وهو ، إذا كانت المصلحة الآنية للدولة الإسلامية هي الأساس في إبرام المعاهدات فهل يتقاطع ذلك مع بعض المبادئ الإسلامية كالدعوة إلى الإسلام ونشر الفضيلة والحق والعدل في العالم ، إذا لم تكن هناك مصالح ذاتية للمسلمين ؟ والجواب إن المسائل الآنفة الذكر تدخل في أبواب أخرى ضمن إلتزامات الإسلام والمسلمين تجاه المجتمع الإنساني . فمما لا شك فيه أن الدول الإسلامية ساهمت وشجعت توقيع بعض الإتفاقيات ذات الأهداف الإجتماعية والأخلاقية مثل معاهدة تحريم البغاء أو إستخدام المخدرات [513][8] .

 

4 ـ إلغاء المعاهدات Cancellation

قد تحدد المعاهدة نفسها سبيل أو طريقة إنتهائها [514][1] . وهناك عدة ضوابط وشروط يضعها القانون الدولي لتنظيم موضوع إلغاء أو إنهاء المعاهدة ، منها :

1 ـ أن تنقضي المعاهدة بسبب تنفيذها الكلي ، وهو الوسيلة الطبيعية لإنقضاء الحقوق والالتزامات المثبتة في المعاهدات . فقد يعقد الطرفان معاهدة تتضمن تنفيذ قضايا معينة مثل تسليم أراض معينة أو تبادل أسرى أو إنهاء حالة العداء والحرب ، أو دفع تعويضات مالية أو غيرها إلى طرف معين أو تعديل حدود وغيرها .

2 ـ حلول الأجل : كثيراً ما تعقد المعاهدات لأجل معين ، فإن حل هذا الأجل ولم تجدد المعاهدة ، زالت وانقضت . فقد فقدت المعاهدات في العصر الحاضر صفتها الأبدية كما في الماضي ، بل جرى العرف على تحديد أجل معين لكل معاهدة مع ذكر إمكان تجديدها قبل حلول الأجل ، فإن حل الأجل ولم تلجأ الدول إلى التجديد ، أحدث الأجل أثره القانوني . وقد يجدد الأجل بكيفية ضمنية ، كما هو الحال بالنسبة لبعض المعاهدات التجارية أو الثقافية . وهناك وقائع كثيرة على ذلك، مثلاً قامت بريطانيا بعقد إتفاقية مع الصين بتأجير هونغ كونغ لمدة 99 عاماً ، وقد تم الإتفاق على صيغة إسترجاع المنطقة وتسليمها للصين قبل بضع سنوات ، حيث تتسلمها رسمياً في حزيران 1997 . ومعنى ذلك أن أجل الإتفاقية قد إنتهى ولم تجدد [515][2].

3 ـ تحقق الشرط الفاسخ ، وهذا نادر ، فهذا الشرط له مظهر سياسي ونجده في ميثاق حلف وارشو حيث ورد في ميثاق الحلف بأنه «سينتهي بمجرد إنشاء نظام أوربي للأمن الجماعي ».

4 ـ سقوط المعاهدة وزوال آثارها ، إذا زال موضوعها ، كما إذا تعاقدت دولتان على ضم دولة ثالثة ، ثم دخلت الدولة الثالثة في حرب ، فإن المعاهدة في مثل هذه الحالة تنقضي لزوال موضوعها . كما إذا دخلت دولتان في معاهدة دولية ، ثم زالت إحدى الدولتين المتعاقدتين وفقدت وصف الشخصية الدولية ، فإن المعاهدة التي عقدتها الدولة الزائلة تزول أيضاً . وهناك أمثلة على ذلك فدولة اليمن الجنوبية وألمانيا الشرقية قد فقدتا الشخصية القانونية . أما الدولة التي أصبحت عدة دول مثل تشيكسلوفاكيا (الجيك والسلوفاك) ويوغسلافيا (صربيا والجبل الأسود ومقدونيا والبوسنة وكرواتيا وسلوفينيا) والإتحاد السوفياتي ، فهناك إجراءات خاصة حيث تتحمل الدول الوريثة بعض الالتزامات الدولية كالديون لأطراف أخرى .

5 ـ تنقضي المعاهدة بموجب فسخ لجأ إليه أحد أطرافها بناء على مقتضيات تتضمنها المعاهدة ، وأيضاً بموجب إنسحاب من معاهدة جماعية تحدد شروط المعاهدة . فقد الغيت معاهدة سعد آباد 1937 الموقعة بين تركيا وإيران والباكستان وبريطانيا ، بعد إنسحاب إيران عام 1979 .

6 ـ عقد إتفاق لاحق لمعاهدة سابقة ، عندما تنقضي المعاهدة بالرضا المتبادل بين أطرافها عن طريق إبرام معاهدة تستبدل المعاهدة القديمة (الفقرة 1 من المادة 59 من معاهدة فيينا) .

ويمكن تعريف الفسخ بأنه الفعل لإنهاء العمل بمعاهدة عن طريق إتفاق الأطراف المتعاقدة . وقد ينتج عن معاهدة لاحقة تعقدها الأطراف المتعاقدة حول نفس الموضوع متى ظهر أن الأطراف قد قصدوا أن يحكم الموضوع بأحكام المعاهدة الجديدة ، أو إذا ظهر أن نصوص المعاهدة اللاحقة تتعارض تعارضاً تاماً مع نصوص المعاهدة السابقة ، بحيث لا يمكن تطبيق أحكام المعاهدتين في نفس الموضوع [516][3] .

7 ـ تنقضي المعاهدة بسبب خرق احد أطرافها لها بشكل تعتبره الأطراف الأخرى أنه إنهاءً للمعاهدة (الفقرة 1 من المادة 60 من معاهدة فيينا1969) . فمعاهدة الدفاع المشترك بين العراق والسعودية 1990 إعتبرت منتهية من قبل السعودية بعد غزو العراق للكويت في 2 آب 1990 . أما معاهدة الجزائرعام 1975 فلم تعتبرها إيران منتهية رغم إعلان العراق فسخه لها ، ورغم شنه الحرب على إيران عام 1980 . وقد أعاد العراق إعترافه وإلتزامه بالمعاهدة في آب 1990.

وكان الرئيس المصري أنور السادات قد قام بإلغاء الصداقة مع الإتحاد السوفياتي بتاريخ 28 مايس 1971 ، وطرد الخبراء السوفييت ، لكن الإتحاد السوفياتي لم يحتج على ذلك الإجراء .

وينظم القانون الدولي إجراءات إنهاء المعاهدة الدولية ، فمعاهدة فيينا (الفقرة 1 من المادة 65) تنص على وجوب إشعار الطرف الذي يرغب في إلغاء المعاهدة أو الإنسحاب منها أو إبطالها ، الأطراف الأخرى المتعاقدة . ويجب أن يتضمن الإشعار التدابير التي يزمع إتخاذها إزاء المعاهدة والأسباب التي دفعته إلى ذلك . وتحدد (الفقرة 2 من المادة 65) أجلاً لإتخاذ التدابير المزمع القيام بها ، وهي مدة لا تقل عن ثلاثة شهور إبتداءً من تاريخ وصول الإشعار . وخلال هذه الفترة يمكن للطرف الآخر أن يبدي إعتراضاته ، وفي غيابها يمكن للطرف صاحب الإشعار أن يقدم على إجراءاته . وفي حالة النزاع حول إبطال وإلغاء المعاهدة ، يتحتم على الأطراف أن يجدوا له حلاً إستناداً إلى المادة 33 من ميثاق الأمم المتحدة . كما ويمكن للدول المتخاصمة اللجوء إلى محكمة العدل الدولية لإبداء الرأي أو إتخاذ قرار بشأنه أو تشكيل لجنة تحكيم دولية 

قاعدة النبذ في الشريعة

تؤكد الشريعة الإسلامية على إحترام العقود والعهود والإتفاقيات لذاتها ، ومن منطلق ديني أي إلتزام المسلم بما يعطيه من مواثيق على نفسه . يقول الشيخ محمود شلتوت أن «الوفاء بالمعاهدة واجب ديني ، يُسأل عنه المسلم فيما بينه وبين الله . ويكون الإخلال بها غدراً وخيانة» [517][1]. ويرى الشيخ حسين علي منتظري أنه «إذا عاهدت الحكومة الإسلامية أو أمتها دولة أو فرداً من الكفار ، أو مؤسسة تجارية أو خدمية لهم ، واستحكم العقد بينهما وجب الوفاء به ولا يجوز نقضه بوجه إلا مع تخلف الطرف الآخر ونقضه» [518][2].

وتسمح الشريعة الإسلامية بإلغاء المعاهدات قبل حلول أجلها . وهناك قاعدة عامة تجعل من حق الدولة الإسلامية إنهاء معاهدة ما قبل حلول أجلها المذكور ، إذا كانت مصلحة الدولة تقتضي ذلك [519][3] . وأهم سبب تضعه الشريعة كمبرر لإلغاء معاهدة مع طرف خارجي هو الخوف من الخيانة أو إستغلال المعاهدة في عمل يعود بالضرر على المسلمين . قال تعالى (وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ اليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين) (الأنفال: 58) . فالأمر إذن يبدأ من الطرف الآخر مما يجعل الدولة الإسلامية تفكر بإلغاء المعاهدة لغرض حماية مصالحها . ومعلوم أن الشريعة تمنع المسلم من الغدر أو نقض العهد لأسباب ذاتية كالطمع في ثروات أو أراضي الآخرين أو الهيمنة عليهم .

وتطرح الآية مفهوم نبذ العهد ، وهو مشتق من لفظة نَبَذَ، والنبذُ هو إلقاء الشيء وطرحه لقلة الإعتداد به [520][4]. ويقول العلامة الطباطبائي في تفسير الميزان أن معنى الآية «وإن خفت من قوم بينك وبينهم عهد أن يخونوك وينقضوا عهدهم ولاحت آثار دالة على ذلك ، فانبذ وألق إليهم عهدهم ، وأعلمهم إلغاء العهد لتكونوا أنتم وهم على سواء من نقض العهد ، أو تكون مستوياً على عدل ، فإن من العدل المعاملة بالمثل والسواء لأنك إن قاتلتهم بدون إبلاغهم إلغاء العهد كان ذلك منك خيانة والله لا يحب الخائنين» [521][5].

ويتفق سيد قطب في ضرورة نبذ المعاهدة متى ما شعر المسلمون أنها مجرد واجهة للغدر بهم فيقول «فأما إذا اتخذ الفريق الآخر هذه العهود ستاراً يدبر من ورائه الخيانة والغدر ، ويستعد للمبادأة والشر ، فإن للقيادة المسلمة أن تنبذ هذه العهود ، وتعلم الفريق الآخر بهذا النبذ ، وتصبح مطلقة اليد في اختيار وقت الضربة التالية للخائنين الغادرين» [522][6].

ويؤكد الفقهاء على أهمية إشعار الطرف الآخر بنية إلغاء المعاهدة ، والتخلي عن ذلك يعد غدراً وسلوكاً غير اسلامي لا يليق بالمسلم . «وفقهاء المسلمين متفقون على أنه يجب إنذار العدو حتى يعلم سبب نقض العهد» [523][7]. ويرى الشيخ محمود شلتوت أن «المعاهدة تفقد حرمتها في حكم الإسلام إذا توقع أحد الطرفين خيانة من الآخر بأنباء صادقة ، أو قرائن واضحة . وكذلك إذا كانت قد وضعت في ظروف خاصة ، ثم تغيرت الظروف وصار العمل بها يوقع الأمة في مفاسد تربو على ما في المعاهدة من خير وصلاح . ولكن الإسلام يوجب في هاتين الحالتين إعلان الطرف الآخر بنبذ المعاهدة ، ولا يسمح بالمهاجمة إلا بعد وصول نبأ النبذ إلى العدو» [524][8].

وهنا يطرح موضوع تغير الظروف وهل يمكن إعتباره سبباً لالغاء المعاهدة . الواقع أن القانون الدولي يتشدد في هذا الأمر ولا يعتبر تغير الظروف مبرراً لإنهاء المعاهدات ، فميثاق الأمم المتحدة لا ينص على شيء يتعلق بآثار تغير الظروف على المعاهدات . أما معاهدة فيينا فقد خصصت المادة 62 لمعالجة هذا الموضوع حيث تقول :

1 ـ لا يجوز الإستناد إلى التغير الأساسي في الظروف التي كانت سائدة عند إبرام المعاهدة كسبب لإنهاء المعاهدة أو الإنسحاب منها إلا إذا توفر الشرطان التاليان :

(أ) إذا كان وجود هذه الظروف قد كان القاعدة الأساسية التي اعتمدها الأطراف لعقد الإتفاقية .

(ب) إذا ترتب على تغير الظروف تبديل جذري في نطاق الإلتزامات التي ما يزال يجري تنفيذها .

2 ـ لا يجوز الإستناد إلى التغير الجوهري في الظروف كسبب لإنهاء المعاهدة أو الإنسحاب منها في الأحوال

التالية :

(أ) إذا كانت المعاهدة مُنشئة لحدود .

(ب) إذا كان التغير الجوهري نتيجة إخلال الطرف بإلتزام طبقاً للمعاهدة أو بأي إلتزام دولي لأي طرف آخر في المعاهدة .

ويشترط الفقهاء بعض الشروط اللازم توفرها نذكر منها :

1 ـ تنفيذ الأمور التي تم الإتفاق عليها ، ما دامت موافقة لكتاب الله ، وسنة رسوله، لأن الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) أعلن : أن كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل [525][9] . «ولا يعترف الإسلام بشرعية معاهدة تستباح بها الشخصية الإسلامية ، وتفتح للأعداء باباً يمكنهم من الإغارة على جهات إسلامية ، أو يضعف من شأن المسلمين بتفريق صفوفهم وتمزيق وحدتهم» [526][10].

2 ـ أن يقوم العقد على الرضا المتبادل بين الطرفين ، فلا ينعقد بالإكراه ، بل لا بد أن يتحقق الرضا التام الذي يعكس الإرادة الحرة ، أما المعاهدات التي تخضع للقوة والضغوط والمدفع ، فهي باطلة [527][11] .

3 ـ أن تكون المعاهدة بينة الأهداف واضحة المعالم ، تحدد الإلتزامات والحقوق تحديداً لا يدع مجالاً للتأويل والتخريج واللعب بالألفاظ ، لأن التعبيرات المبهمة والكلمات المطاطة التي تحمل وجوهاً كثيرة ، لاشك أنها ستكون مثاراً للجدل والمنازعات [528][12] .

ويعرض الإمام الخميني عدة حالات من المعاهدات التي يُفتي بحرمة عقدها بين الدولة الإسلامية والدول الأخرى مثل :

1 ـ إذا كانت المعاهدة تؤدي إلى استيلاء الأجانب على البلد الإسلامي سياسياً .

2 ـ إذا كانت المعاهدة مخالفة لمصلحة الإسلام والمسلمين . ويجب على سائر الدول إنهاؤها بوسائل سياسية أو إقتصادية كقطع العلاقات الدبلوماسية والتجارية معها .

3 ـ إذا كانت المعاهدة تجارية وتؤثر على سوق المسلمين وحياتهم الإقتصادية [529][13] .


 

Hosted by www.Geocities.ws

1